نص مسرحي: “Enigma” / تأليف: عباس منعثر

(الوجودُ سؤالٌ بلا إجابة)
المكان: (مغارةٌ تجمعُ بين التقدمِ والتخلفِ، حيثُ يسودُ الظلامُ أحياناً ثم يشعُّ الضوءُ فجأة. يُعطي المكانُ انطباعاً بأنَّهُ يمتدُّ إلى اللانهايةِ، وفي الوقتِ نفسِه كأنه ضيقٌ وخانق).
الشخصيات: الأول، الثاني، الثالث
(يهبطُ شيءٌ كبيرٌ لامعٌ ومضيء، يمكنُ أن يكونَ من القماشِ أو القطنِ أو الحريرِ أو الصوفِ أو الجلدِ أو العاجِ، بطريقةٍ سحريةٍ مبهرةٍ، ويسدُّ بابَ الخروجِ تماماً)
الأول: (صارخاً وحدَه) ما هذا؟!
الثاني: (راكضاً من الداخل) ما هناك؟
الأول: تعالوا!
الثالث: (يأتي) ما الأمر؟
الأول: شيء.. شيء.. بيضويّ.. يسدُّ الباب!
الثاني: من زاويتي شكلُهُ مدور.
الأول: كنتُ واقفاً هنا وفجأةً ظَهَر نازلاً من فوق، ثمّ بحركةٍ غريبةٍ انضغطَ وتوّسعَ بليونةٍ وخفة!
الثالث: إنَّهُ أهليليجيُّ الشكلِ، مائلٌ إلى الأصفرِ المُخضرّ!
الثاني: من هنا يَنثني ومن هنا يَنحني، ولونُهُ شديدُ البياض.
الأول: بياضُهُ مائلٌ للصُّفرة.
الثالث: عندما تقتربُ منه، يبدو أزرقَ قليلاً، ثم أخضرَ، وفي الزوايا يتحوّلُ إلى رماديّ.
الثاني: ناصعٌ مثلَ الثلج.
الأول: وهذهِ الضربةُ التي هنا؟ إنَّهُ حليبيّ.
الثالث: لا شيءَ مؤكَّدٌ حتى الآن!
الثاني: يبدو مُستَحْكَماً بالباب.. ومستقرّ..
الأول: بل يهتزّ..
الثالث: إنَّهُ ثابتٌ ومُتحرّكٌ معاً.
الثاني: من جاءَ به؟
الأول: ألَا بدَّ أن يكونَ هناك سبب؟
الثالث: كثيرةٌ هي الأسئلةُ، وقليلةٌ هي الإجابات.
الثاني: لا يمكنُ أن يظهرَ هكذا دونَ سبب.
الأول: يظهرُ لأنَّهُ موجودٌ فحسب.
الثاني: الأمورُ لا تحدثُ اتفاقاً!
الأول: لماذا نبحثُ دائماً عن معنىً؟
الثالث: صحيح، عدمُ فهمِنا لا يسمحُ لنا أن نخترعَ الأسباب!
الثاني: هو جزءٌ من شيءٍ أكبر..
الأول: هذا لا يُفسّرُ لماذا هو موجودٌ في فتحةِ البابِ الآن.
الثاني: حضرتُك، كيفَ جئتَ إلى الوجود؟
الأول: بالولادة..
الثاني: وسببُ الولادة؟
الثالث: اجتماعٌ ليليٌّ بين الأبوين..
الثاني: ذلك الاجتماعُ المُوّقرُ هو الذي أنجبَ زميلَنا المُبّجل..
الأول: بل هي واقعةٌ طائشةٌ تتحكّمُ فيها الصدفة.. وكان من المحتملِ أن يولدَ قردٌ بالنيابةِ عنّي!
الثاني: ألم يكنْ بينَهما حبٌ، هيامٌ، غرامٌ، ثم خطوبةٌ وزواج؟
الثالث: وما علاقةُ ليلةِ الزّفافِ بهذا الشيء؟!
الثاني: إذا عرفنا سببَ وجودهِ عرفنا المُسَبّب..
الثالث: وإذا عرفنا المُسَبّب؟
الثاني: سنعرفُ كيف نتعاملُ معهُ..
الأول: حتى معرفتُنا بالسببِ أو المسببِ لا تحلُّ المعضلة..
الثالث: نفترضُ أنها إحدى انفجاراتِ الكواكبِ وسقطَ بسببِها هذا الشيءُ هنا..
الثاني: جميلٌ ومن مُسَبّبُ التصادم؟
الثالث: الدجاجةُ من البيضةِ أم البيضةُ من الدجاجة!
الأول: (للثاني) إنك تبحثُ عن الإبرةِ في بحر..
الثاني: لو فكّرْتُم بطريقتي لعرفتُم أنَّ الاعترافَ بالمُسَبّبِ سيكونُ هو المفتاح..
الثالث: وضّحْ قصدَك؟
الثاني: اسألْ نفسَك: لماذا اختارَ هذا الشيءُ بابَنا من دونِ كلّ الأبواب؟
الأول: من قالَ إنهُ اختار؟
الثاني: وهل يُصدّقُ عقلُكَ الصغيرُ أن فتحةَ البابِ 90 سنتمتراً، ويأتي هذا الشيءُ ويتحركُ يميناً ثم شمالاً ثم يصعدُ قليلاً ويهبطُ قليلاً هكذا من تلقاءِ نفسِه؟
الثالث: كيفيةُ دخولهِ للفتحةِ غريبةٌ جداً، لكن إلى أين تريدُ أن تصِل؟
الثاني: ببساطةٍ، وبقلبي ووجداني، اكتشفتُ سرَّ هذا الشيءِ منذ الوهلةِ الأولى.
الثالث: ماذا اكتشفتَ؟
الثاني: زملائي، إنها معجزةُ الإلهِ الأعظم..
الثالث: هل أنتَ جادّ؟
الثاني: حينما رأيتُهُ، أحسستُ بالرسالةِ التي يحملُها. كادتِ الدموعُ تنهمرُ من عينيّ. نحن البشرُ، غَلَبَنا الغرورُ، وجاءَ هذا الشيءُ كي يُعيدَنا إلى حقيقتِنا ويكشفَ عدمَ قدرتِنا فنُضطرُّ إلى سؤالِ الأعظم. وهو ما سنفعلهُ، وننجو!
الأول: بهذهِ السّهولة!
الثالث: وما هو دليلُكَ على ذلك؟
الثاني: شعورٌ قلبيّ. مَنْ يسمعُ كلامي لن يندم!
الثالث: (للأول) ماذا تقول؟
الأول: (للثالث) ما رأيكَ أنتَ؟
الثالث: (للأول) لن نخسرَ شيئاً إذا تركناهُ يُجرّب.
الأول: (للثالث) نعم.. وهي فرصةٌ أن ينكشفَ أمامَ نفسِه.
الثاني: أعدكما، إذا فشلَ حَدَسي، سأوافقُ على أيّ حلٍّ في المستقبلِ، ولن أعترضَ على شيء.
الاثنان: موافقون!
الثاني: جيد! الآن، سنبدأُ بالطقس. (يرتفع بخورٌ، مشاعلُ تضيء). ارفعوا أيديكم. أغمِضوا عيونَكم. استشعروا رهبةَ الخشوع. الآن، رددوا ورائي.. أيها الإلهُ الأعظمُ..
الاثنان: أيها الإلهُ الأعظمُ..
الثاني: عبادُكَ في ورطة..
الاثنان: عبادُكَ في ورطة..
الثاني: .. وقلوبُهم مؤمنة..
الاثنان: .. وقلوبُهم مؤمنة..
الثاني: .. نطلبُ منكَ البصيرة..
الاثنان: .. نطلبُ منكَ البصيرة..
الثاني: … والخروجَ من هنا، بأمان.
الاثنان: … والخروجَ من هنا، بأمان.
الثاني: … إما أن يَختفيَ هذا الشيءُ تماماً..
الاثنان: … إما أن يَختفيَ هذا الشيءُ تماماً..
الثاني: … أو تُرشِدَنا إلى حلّ…
الاثنان: … أو تُرشِدَنا إلى حلّ!
الثاني: (كلامٌ غيرُ مفهوم) بِسْ بِسْ بِسْ بِسْ بِسْ بِسْ!
(يصمتون لحظة)
الأول: لم يحدثْ شيء!
الثاني: (يلتفتُ يمنةً ويسرة) اصبرْ!
الأول: لم يحدث شيء!
الثاني: اصبرْ!
الأول: متى يتحقق؟
الثاني: ربما الآن!
الأول: وربما بعدَ ألفِ سنة؟
الثاني: ما علينا سوى الانتظار.
الثالث: إذا كان الانتظارُ سيستغرقُ ألفَ سنةٍ، فهو ليس حلاً.
الثاني: صاحبُ القلبِ النقيّ، اتصالُهُ مباشرٌ بالآلهة!
الثالث: بمعنى؟
الثاني: يُستجابُ الدعاءُ إذا السرائرُ نقيةٌ فقط.
الأول: يعني إذا لم يتحققْ الدّعاءُ يكونُ الخللُ بي أنا وبسريرتي؟!
الثاني: أكيد.
الثالث: إلى أن يُستجابَ إلى دعائكَ علينا التفكيرُ بحلٍّ آخر.
الأول: هناكَ حلٌّ آخر!
الثالث: ما يدورُ برأسِكَ؟
الأول: إنها فكرة… غيرُ تقليدية.
الثالث: وضّحْها لنا.
الأول: لكن أولاً، دعونا نتمرّن. واحدٌ يواجهُ الثاني… هيا، كما أفعل.
(يقوم الأول بحركاتٍ رياضيةٍ معقدة)
الأول: نحتاجُ إلى القوّةِ والمرونة.
الثاني: أرفعُ قدمي هكذا؟
الثالث: هل هذا صحيح؟
الأول: راقبوني فقط!
الثاني: ما فائدةُ ذلك؟
الأول: التركيزُ، يا صديقي، التركيز! ضعْ يدَكَ هنا، وانظرْ إلى النقطة… ركزْ!
(يقلدونه)
الثاني: إنها حركةٌ صعبة!
الثالث: أنا غيرُ قادرٍ على الاستمرار!
الأول: هنا نتوّقفُ، لا بأس. سننتقلُ إلى المرحلةِ التالية.
الثالث: رياضةٌ جديدة؟!
الأول: بل الخطةُ كالتالي: نهجمُ على الشيءِ كأننا رجلٌ واحد.
الثالث: الهجوم؟
الثاني: هل جننت؟
الثالث: لا يمكننا ذلك. هيئةُ الأرصادِ حذّرتْ من الاقترابِ من أيّ شيءٍ غريبٍ في هذه الأيام.
الأول: والبديل؟
الثالث: إنها مخاطرةٌ كبيرة.
الأول: زملائي الأعزاءِ، إذا بقينا هنا، سينفدُ الأوكسجينُ، أو سينفدُ الطعامُ، ثم نموتُ، أو يأكلُ بعضُنا البعض. والذي يبقى من صراعِ آكلي لحومِ البشرِ يموتُ جوعاً بعدَ ذلك.
الثالث: يجبُ أن نحسبَ المكاسبَ بالقياسِ إلى المخاطر!
الأول: في كلّ الأحوالِ، الانتظارُ هو ما سيقضي علينا!
الثاني: أليس هذا عبثٌ وجنون؟
الثالث: لماذا نَتَعَجّل؟
الثاني: هذه حياتُنا، وليست قصةً في رواية!
الأول: لكن لا نملِكُ خياراً آخر! ماذا سنخسر؟
(لحظةُ صمت)
الاثنان: هيا بنا!
الأول: ننطلقُ باتجاهِ الشيءِ بقوةٍ وسرعةٍ على خطوةِ رجلٍ واحد!
(يتجهون نحو الشيءِ، يصطدمون به بشدة. يعودون إلى الوراءِ، يتنفسون بصعوبة)
الثالث: ملمسهُ لا يمكنُ وصفُهُ بسهولة!
(يحاولون ثانيةً، يتجهون نحو الشيءِ، يصطدمون به بشدة. يعودون إلى الوراءِ، يتنفسون بصعوبة)
الأول: قد نحتاجُ إلى قوةٍ أكبر!
(يكررون المحاولةَ، يتجهون نحو الشيءِ، يصطدمون به بشدة. يعودون إلى الوراءِ، يتنفسون بصعوبة)
الأول: محاولةٌ أخيرةٌ فقط!
(بعدَ عناءٍ، يتجهون نحوَ الشيءِ، يصطدمون به بشدة. يعودون إلى الوراءِ، يتنفسون بصعوبة)
الثالث: لديَّ فكرةٌ أخرى!
الثاني: أرجو أن تكونَ أفضلَ من هذه!
الثالث: هيا، سنجلبُ بعضَ الأدوات. هناكَ موادٌ في الداخل. اتبعاني!
(يدخلون ويعودون مع تي إن تي، فسفور، دوارقٍ مشعةٍ وملونة)
الأول: ألوانٌ زاهية!
الثاني: دوارقٌ، ودخان!
الثالث: مِنْ هذهِ الموادِّ سأصنعُ عجينةً هائلة.
الأول: عسى أن يكونَ في هذا نجاتُنا!
الثاني: بحقّ الإلهِ العظيم!
الثالث: المكوناتُ مثالية. لا تقلقوا. سأبدأُ بخلطها.
(يبدأُ بخلطِ الموادِ بعناية)
الثاني: يبدو أنه لم تذهبْ تضرعاتي سدىً!
الأول: لم نخرجْ من المأزقِ حتى الآن!
الثالث: أنا واثقٌ، في يومٍ ما سنقضي على هذا الشيء.
(يستمرُ الثالث في الخلطِ بينما يعاونه الثاني والأول)
الثالث: جاهز!
(الثالث يقسّمُ المادةَ إلى كرتينِ كبيرتين)
الثالث: هذه هي الخلطةُ النهائية.
الأول: تبدو ثقيلة!
الثالث: لا شيءٌ يمكنُ أن يصمدَ أمامَ قوةِ المادة الكيمياوية.
الثاني: لكن كيف؟ ما هي الفكرة؟
الثالث: سنرمي المادةَ على الشيءِ فتذيبُهُ من الداخل.
(يشيرُ إلى المكان)
الثالث: كلُّ منكما سيأخذُ كرةً كبيرة..
(يأخذان)
الثالث: تقفانِ في زاويتينِ متقابلتين..
(يقفان)
الثالث: وتصوبانِ على الشيءِ في اللحظةِ نفسها…
الثاني: أليسَ خَطِراً؟
الأول: هل هو آمن؟
الثالث: لا للخوف.. كلُّ شيءٍ تحتَ السّيطرة.
الثاني: (للثالث) لماذا تتراجعُ إلى الوراء!
الثالث: كي أراقبَ المشهدَ من كلّ جوانبِه!
الأول: متى نبدأ؟
الثالث: حالما أطلقُ الإشارة.. تقذفون الكرةَ بشكلٍ متزامن.
الأول: في اللحظةِ نفسها..
الثالث: نعم.
الثاني: الإشارة!
الأول: مستعد.
الثاني: مستعد.
الثالث: الآن!
(يرميانِ الكرتينِ في اللحظةِ نفسِها. يحدثُ انفجارٌ هائل. السكونُ يعمُّ المكان. الثاني والأول ممدَّدانِ على الأرض)
الثالث: لا… لا أصدقُ… (يتفحصُهما).. يا لها من مصيبة!
(يبدأَ الشيءُ بالتحرّكِ عن البابِ جانباً ببطء، ويتركُ مساحةً لدخولِ نورِ الشمسِ الخارجيّ. النورُ يملأُ المكانَ تدريجياً، فتتكشفُ تفاصيلُ المغارةِ المظلمة)
الثالث: أخيراً، هناكَ منفذٌ للخروج!
(يجري بسرعةٍ نحوَ البابِ ويخرجُ إلى الشمس. بعد لحظة صمتٍ مرعبة، يزحف الاول والثاني باتجاه الباب بصعوبة بالغة)
ختـــــــــــــــــــــام