نقد

أنا سعيد… الجسد الثائر في متاهة القمع/ هناء عطية

من تقديم طلبة قسم التربية الفنية في كلية الفنون الجميلة – جامعة واسط، جاء العرض المسرحي أنا سعيد ليكسر حدود التمرين الأكاديمي التقليدي، متحولاً إلى مختبر درامي وفكري حاد يستنطق أسئلة الوجود والسلطة والحرية في إطار مسرحي كثيف. لقد أعتمد العرض على تداخل نصين مركزيين من الإرث المسرحي العالمي، لكن النصوص لم تُستعاد كما هي بل أعيدت كتابتها داخل فضاء عراقي معاصر حيث الذاكرة مشروخة والذات محاصرة والمسرح يصبح حافةً بين الانكسار والتجلي.

شخوص العرض هم حسين وسام، علي صلاح، نور سلمان، زهراء هشام، علي عباس، درة طالب، وقد تشكل هذا الجسد الجماعي بإشراف إخراجي ودراماتورجي دؤوب من قبل حسين وسام، وبمرافقة فنية متكاملة شملت حسن الراشد (دراماتورجيا)، عباس أحمد (تصميم إضاءة)، سارة سالم (صوت)، سرى حيدر وزينب سعد (تصميم أزياء)، تحت إشراف فني عام للدكتور قحطان عدنان. أما النص فقد أُعد بالتعاون بين المخرج وفريق التمثيل ما أتاح إعادة إنتاج المعنى لا تكراره.

في عالمٍ تتقاطع فيه الأسطورة مع السياسة والفرد مع الدولة والحرية مع القمع، تقف المسرحية أنا سعيد على حافة الهاوية الفاصلة بين الحلم الثوري والانهيار النفسي، لتنهل من ينابيع الفكر التنويري الأوروبي والوجودية السياسية لتطرح سؤالاً مركزياً ماذا يحدث للثورة حين تبتلع أبناءها؟ إنها ليست فقط تراجيديا عن السجن والحرية، بل عن تمزق الذات وهي تحاول أن تقاوم موتها المعنوي، عن الوعي الذي يدرك سقوط المثال في حضرة القمع وعن الجسد الذي يتحول إلى ساحة مواجهة بين الكرامة والمذلة، فالمسرح هنا لا يستعيد حدثاً بل يُفكك بنيته فيغدو السجن ليس مكاناً بل فكرة، والسلطة ليست نظاماً بل شبكة من المراقبة الذاتية والثورة ليست خلاصاً بل لعنة تتوارثها الأجيال.

فتح الصورة

 

إن عرض مسرحية أنا سعيد لا يقدم إجابات بل يعري الأسئلة التي نحاول نسيانها فهو عرض يحملنا إلى قعر الكينونة حيث الصمت لغو والحبل خطاب والمذياع شاهد زور في زمنٍ بلا ذاكرة ووسط هذا التوتر بين الفلسفة والفعل تقف شخصية سعيد بوصفها صدى مأساوياً وامتداداً صامتاً لأرواحٍ اختفت وبقيت آثارها. هنا يبدأ العرض وهناك فقط تبدأ المأساة فمنذ لحظاته الأولى يرسم العرض أفقاً حاداً بين الداخل والخارج وبين سجين لا يحلم إلا بالانعتاق وسلطة لا تحلم إلا بترويض الرغبة. وهنا لا يتعامل المخرج (حسين وسام) مع النصوص المرجعية بوصفها مرجعية مقدسة بل يضعها في محك درامي يختبر فيها الحضور والندم والحب والخذلان من خلال شخصيات تُكابد وجعها دون صراخ وتصرخ دون أن يُسمع لها صوت. فــ(سعيد) ليس اسماً بقدر ما هو لعنة تُقال على من يرفض التنازل وعلى من لم يتعلم أن يكون مطيعاً. وأن شخصيته المأساوية التي أداها حسين وسام بتوازن لافت بين الفكر والانفعال تنفتح على معنى متشظٍ للثورة، سعيد يعي مأزق التحول لكنه عاجز عن تغييره ويُدرك ضياع الحلم لكنه لا يملك القدرة على صياغة بديل، وهو بهذا يصبح مرآة لجيلٍ انكسر بين المثال والانكسار وبين الكلمة والسوط.

العرض لا يقدم سجناً تقليدياً بل يضع المتفرج في صلب لعبة المراقبة والانضباط فالسبورات السوداء تحاصر الفضاء المسرحي لا لتكون خلفيات بل لتغدو سجلات جلد ذاتٍ مستمرة تكتب فيها الشخصيات أحكامها وخيباتها، وحبل المشنقة الذي يلوح به سعيد ليس رمزاً وحسب بل هو الامتداد المادي لأفق مسدود، لحياة مُعلقة بين الجبر والخوف. أما المذياع هذا الكائن الذي كان يوماً صوت الحقيقة يصبح هنا شاهد زور يوثق الأكاذيب ويغلفها بالموسيقى والغناء، وضمن هذا المسار تصبح أغنية (حريمة) المحشوة بنوستالجيا الماضي كأنها مرثية لعمر مسروق في زمن لا يعترف إلا بالصمت المفروض. وهو صمت ينعكس أيضاً في الأداء التمثيلي الذي تميز بالتقشف في التعبير والانضباط في الإيقاع، بحيث لم يسعَ الممثلون إلى المبالغة بل تركوا الشخصيات تقول ما لا يُقال في الفضاء وتُسمع ما لا يُسمع في السكون. حسين وسام، علي صلاح، نور سلمان، زهراء هشام، علي عباس، درة طالب، كلهم قدموا أداءً متوازناً يراهن على الحساسية الداخلية لا على الاستعراض، وخصوصاً في مشاهد الانهيار الهادئ حيث التوتر لا يأتي من الصراخ بل من احتباسه. وعليه، جعل المخرج من التقنيات المسرحية خادمة للنص لا مُستعرضة لذاتها، فالإضاءة البسيطة التي صممها عباس أحمد تلاعبت بالظل لا بالنور، مما جعل من كل مشهد مساحة رمادية تقاوم اليقين. أما الصوت بإشراف سارة سالم فكان ممتزجاً بالموقف لا منفصلاً عنه فكانت هناك لحظات من الصمت كانت أكثر بلاغة من لحظات الموسيقى وهذا يُحسب لصناعة الإيقاع المسرحي. أما الأزياء المسرحية التي أشرفت عليها سرى حيدر وزينب سعد، فقدمت خطاباً بصرياً مكملاً للفكرة فاللون الأحمر الذي ظهر في زي سعيد لم يكن فقط إشارة إلى الدم بل إلى التضحية والإعدام وربما الولادة الثانية، مما جعل من اختيار الأزياء ببساطتها المقصودة عنصراً دلالياً مساهماً في عمق العرض وفاعليته التعبيرية. هذه الدلالة البصرية اتسقت مع أجواء النص التي غذتها رؤية الدراماتورج حسن الراشد حيث ساعدت على بناء جدل فلسفي داخلي يتردد بين موت الفرد واستمرار الفكرة بين الإحباط والتمرد وبين زيف الأمل ومرارة الحقيقة. ولكن هذا العمق الفكري لم يُواكَب دائماً بإيقاع درامي متصاعد، إذ افتقر العرض في بعض المواضع إلى التوتر الضروري الذي يشد المتلقي فبدت انتقالات المشاهد أحياناً بطيئة أو متراخية وهو ما جعل بعض اللحظات تبدو وكأنها تكرر نفسها أو تراوح مكانها دون إضافة ملموسة. وهنا ربما يكون من المجدي التفكير في تقليص بعض المشاهد أو ضغطها زمنياً دون الإخلال بجوهر الفكرة، بما يمنح العرض مزيداً من الشحنة الشعورية والتدفق الحركي.

وبين ما أُنجز فعلاً وما كان يمكن أن يُنجز تتسع المسافة التي يستدعيها النقد لا بهدف الهدم بل بغرض الإضاءة، فالنقد هنا لا يأتي إلا بدافع الحب. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الفريق رغم جهده الملحوظ وحضوره الواعد لا يزال بحاجة إلى مزيد من الانتباه لبناء لحظات الذروة وتكثيف استخدام الإضاءة بوصفها أداة درامية قادرة على خلق طبقات حسية وبصرية متباينة لا الاكتفاء بإضاءات رمزية ذات إيقاع ثابت. كما أن بعض الشخصيات الجانبية وعلى رأسها شخصية الأم رغم ما تحمله من عمقٍ في النص بدت في الأداء وكأنها لم تُستثمر بالكامل سواء على صعيد التناقضات الشعورية أو طاقة التعبير الجسدي والانفعالي. ولكن عرض مسرحية أنا سعيد لم تكن مجرد تجربة طلابية، لأنها عرض يُصغي إلى ألمه ليحوله إلى خطاب مقاومة وإلى جسدٍ ثائر يحاول أن يفهم كيف تُسجن الثورة في قفص الاتهام وكيف يتسرب الحلم من بين الأصابع ليُستبدل بمحاكمة صارخة. إنه عرض يستحق أن يُعاد مشاهدته لا لأن معانيه غامضة بل لأنه لا يفرغ شحناته كلها دفعة واحدة، فهو عرض يحتفي بالصمت كما يحتفي بالكلمة ويضع الجسد في مقام الفكرة لا التجميل. ولهذا يمكنني القول وبصوت مدوٍ إنه من بين أقوى التجارب في المسرح الجامعي العراقي في هذه المرحلة لأنه لا يهادن المتفرج ولا يطبطب على وعيه بل يستفزه ليكون شريكاً في حمل الأسئلة ومواجهة الفجوة بين ما كان يُفترض أن يكون وما آل إليه الواقع.

ومن هنا، لعل ما يمكن التوقف عنده في الختام هو دعوة مخلصة للفريق لمواصلة الاشتغال على المسرح بوصفه سؤالاً لا جواباً وألا يخشوا من تجريد الواقع حتى عظم قسوته، فحين يكون الفن صادقاً لا يُجمل بل يُعري وحين يتقاطع المسرح مع الألم لا يعود مجرد خشبة بل يتحول إلى وطنٍ مؤقتٍ للكرامة يُبنى بالحقيقة ويُضاء بالجرأة.

Related Articles

Back to top button