مقالات

جاكاراندا”.. تراجيديا مركز نداء..”/ لطفي العربي السنوسي

 نص ودراماتورجيا عبد الحليم المسعودي سينوغرافيا وإخراج نزار السعيدي.

 

النصّ كالرّحى وقد أكل ما جاوره.. والمخرج طرق ابواب النص ولم يخلعها…!!

 

 

شاهدنا مساء الجمعة 31 ماي 2025 العرض الأول لمسرحية “جاكاراندا.. تراجيديا مركز نداء..” نص ودراماتورجيا عبد الحليم المسعودي سينوغرافيا واخراج نزار السعيدي انتاج المسرح الوطني التونسي (الشاب) ..هنا مطاردة للمتن في قراءة تبدأ بالعتبات فهي ” عين الإبرة” التي نمرٌ من خلالها لحثّ النقاش حول هذا العمل الذي يضعنا مؤلّفاه أمام مرايا محدّبة في مساءلة للمجتمع والدولة.. من الدولة الوطنية الى دولة الثورة..إضافة الى أسئلة اشكالية من خارج “المتن” تدفعنا الى مراجعة بعض المفاهيم في علاقة بالممارسة المسرحية ذاتها…

  • في البدء:

للمُتُون عتبات… وللعتبات عناوين.. والعناوين مفاتيح المُتون ومداخلها وهي عتبة البدء.. بل هي العتبة ذاتها كما يذكر “رولان بارت” وقد تكون هذه العتبة مفتاحا للدخول الى المتن وقد تكون أيضا عتبة مضلّلة وإشكالية ولعبة من ألاعيب المؤلف حتى لا يكشف عن نفسه وعن معماره النصّي وهندسته.. ومن النظريات الحديثة من ترفض هذه الاطروحة التي تعتبر العنوان عتبة النص ومفتاحه الذي يوجه المتلقي ويضيء له الطرق الوعرة داخل المتن وبالتالي هي ترى انه من حق المؤلف ان يلعب لعبته الكبرى.. وان لا يقدم مفاتيح نصه وان لا يتركها ملقاة على العتبات.. ومن حقه أيضا ان لا يكشف عن أسرار نصه من عنوانه العـتبي فيترك بذلك مساحات شاسعة للمتلقي حتى يستمتع بالطريق قبل ان يصل الى لحظة الكشف القصوى بعد تجوال ممتع وشاق داخل المعمار النصّي بكامل هندسته..

نحن هنا كمن يطلق اسما على مولود جديد ولا يعرف ما سيكون عليه في رحلة الحياة.. بين سعادة مطلقة او شقاء.. أو بين سعادة وشقاء… وهكذا يلعب المؤلف لعبته.. يرمي بعنوانه اسم مولوده الجديد وعلينا ان نطارد المبنى النصي حتى يتجلّى أمامنا وينكشف.. وقتها ندرك إن كان العنوان مضلّلا وقد تقصّد مؤلفه ذلك او هو بالفعل عتبة ومفتاح من مفاتيح الدخول الى المتن.. على كل حال من حق المؤلف ان يعبث هنا وعلى المتلقي النبيه ان يطارد المفاتيح حتى يكشف له النص عن أسراره فهل عثر نقاد المسرح ودارسوه ومتلقوه على “المغنية الصلعاء” واحدة من اهم كلاسيكيات مسرح العبث لمؤلفها “اوجين يونسكو”..؟ طبعا لا؛ فلا وجود لها في غير العنوان..

لا يتوفر وصف.

  • في مطاردة العنوان..

العتبة والفرع:

“جاكراندا”.. شجرة أسطورية وقصيدة من قصائد الطبيعة.. هبة الله على أراضيه الشاسعة.. نشيد انشاد في شوارع القصائد.. تخرج من تحت الصخر بهدوء ثم تلقي بنورها ونوّارها على الاسفلت لتضيء الأمكنة بصفائها البنفسجي الفريد.. تمنح العابرين الظل والسلام والطمأنينة.. وترميهم بنوّار خفيف ينزل من علياء الشجرة من تلقاء نفسه.. والمحظوظ المحظوظ من وقعت على كتفه نوارة الجاكاراندا ففي ذلك مباركة ليومه وبشارة خير.. هي علامة من علامات المدينة الحديثة بل ذاكرتها التي تحفظ تاريخ البلاد منذ دخلها المستعمر الفرنسي وقد وفدت على الأراضي التونسية أواخر القرن التاسع عشر واستقرت في البدء بحديقة البلفيدير ثم خرجت الى شوارع العاصمة وأحوازها وتحولت الى زينة بلا مثيل مطلع كل ربيع.. وكما تغنّى بها الشعراء.. اتّخذها اهل السياسة عنوانا لمرحلة.. الم يكن “الجاكاراندا البنفسجي” لون منظومة الحكم السابقة على امتداد ثلاثة وعشرين سنة..؟

نحن هنا بصدد الدخول الى المتن من ابوابه المتروكة وقد لا تخطر على بال وقد يغفل عنها النقد خاصة امام نص بهذا الحجم من الاكتظاظ.. وبهذه الهندسة المغلقة والمفتوحة على مصراعي التأويل و التي اتخذت لها ثلاثة مستويات لتمرير هواجس الكاتب وأسئلته وقد وضعـنا وسط متاهة مضللة ومضيعة الكتابة فيها على الكتابة والمسرح فيها داخل المسرح والشخوص في تماه مع شخصيات اسطورية حيث لا ندري ان كنا امام ممثل فاشل بصدد مطاردة شخصية “هاملت” ام هو “هاملت”بصدد تجسيد مأساته كما في التراجيديا الشكسبيرية.. ام هو ابن مغدور في والده وقد خذلته امه بان تزوجت عمه قاتل والده.. هنا تتجاور رواية المؤلف وشخصياتها مع الرواية الشكسبيرية فنرى هاملت بالمقلوب فاشلا ومترددا ومحبطا.. ناكرا لخيانة امه وقد عافها بعدما تزوجت من عمه.. يبتعد عنها ويعلن لها كراهيته ثم يعفو عنها ويرقص معها رقصة عفو وعناق.. وهنا يترك المؤلف الرواية الشكسبيرية ويتحرك بعكس نهاياتها التراجيدية ويكتب روايته الشخصية.. حيث ترمي شجرة “الجاكراندا” رميتها فينزل نوارها الأسطوري من عليائه ليعيد ترتيب النهايات.. فلا هاملت قتل ولا هو ترك امه بل تصالح معها رغم الخيانات ورغم التشوهات العميقة.. ألم نقل منذ البدء بأنها نشيد انشاد وبشرى بركة وطمأنينة وخير..؟ ثمة هنا دعوة مخفية لكأنها غصّة في مداخل النص ومخارجه.. لا مشانق ولا حقد ولا كراهية ولا تخوينات عشوائية.. بل دعوة الى العفو والى البناء والمسامحة والتجاوز من أجل الاستمرار.. لكن مسامحة من والعفو على من..؟ تشوهات الماضي الذي التصق بلون شجرة “الجاكراندا البنفسجي” على امتداد ثلاثة وعشرين سنة.. ام تشوهات الثورة وهي اعمق وبلون الدم.. ما تشير اليه المعلقة وعليها نوارة الجاكراندا باللون الأحمر الدموي القاني…؟ هذه معطيات بصرية لا يمكن اغفالها وفيها ادانة للمرحلتين ما قبل الثورة وما بعدها لكن المؤلف لا يكشف عن ذلك بوضوح وانما هو استدار اكثر من استدارة لتضليل متلقيه فاستدعى “هاملت “شكسبير لإدانة المرحلة.. اي الراهن السياسي بكل تشوهاته.. ألم تكن المسرحية زمن انتاجها صرخة او هي ادانة قوية للقصر الملكي الذي كان يعاني من أزمات سياسية كبرى هددت العرش الملكي؟ ألم يتم غلق المسارح ومنع كل المسرحيات التي تتعرض بالنقد للقصر الملكي بما في ذلك مسرحيات شكسبير بمقتضى مرسوم ملكي؟ ألسنا هنا الآن حيث الأقفال ثقيلة على الحريات فلا تفكير ولا تعبير وسط ازمة سياسية معقدة وضعت المراسيم كأقفال على الألسنة وقطعتها.. ألم يكن اللسان المقطوع بتلك القسوة عنوانا لهذه المرحلة وقد ضاق فيها الكلام واختنق..؟ ألم تكن شخصيات مركز النداء شخصيات مريضة وصامتة ومخذولة عكس ما تضجّ به هذه المراكز ..؟ لذلك كله استدعى المؤلف عبد الحليم المسعودي النص الشكسبيري، وهاملت دون غيره، من اجل إدانة المرحلة سياسيا.. ومن أجل الضغط على جراحها علّها تبرأ.. ولذلك أيضا استدعى شجرة الجاكراندا وهي شجرة كما أشرنا فريدة واسطورية وساحرة.. وعنوان من عناوين المدينة الحديثة.. ولا تنبت سوى في الأراضي الخصبة وهي رغم كل هذا الجمال شجرة متروكة يمر عليها العابرون دون الانتباه الى جمالها بل يذبل نوارها البنفسجي تحت ثقل الأحذية العمياء ولا احد يسقيها ما تحتاجه من ماء من اجل خصبها واستمرارها,, اليست هذه صورة تونس المتروكة …تونس الفن والشعر والجمال والاختلاف ..تونس الحبيب بورقيبة وشارعه الطويل المكتظ بالاغنيات وبعصافير الزرزور,,تونس أولاد احمد شاعر البلاد وصوت حداثتها المبكّرة.. تونس الحراك الطلابي داخل الجامعات حيث التعدد الفكري والسياسي والتنظيمي ,..

تحدث المؤلف بحرقة عن تونس التي كانت وعن تونس التي تركها أبناؤها وعن تونس التي هتك ارضها وعرضها الوافدون عليها من كل فج اخواني عميق تحدث عن تونس الافاق المنسية واريافها المتروكة وعن جبل سمامة الذي تحول من جبل خصب الى ملاذ دم وإرهاب,,

لا يتوفر وصف.

هي تونس التي غفل عنها أبناؤها رغم الخصب والجمال تماما كما غفلوا عن جمال شجرة الجاكراندا ونوارها وهي تونس التي اساء اليها حكامها قبل الثورة وبعدها الى ان أصبحت عنوان دم وبؤرة للإرهابيين ولم تكن كذلك الى ان امتدت اليها الايادي واعملت في جسدها معاول الهدم والتخريب …كيف تستعيد البلاد عافيتها كيف تستعيد شعراءها وعصافير باب البحر ,,؟ لن يكون ذلك بالدم بطبيعة الحال وانما بعقلانية لا ترفض التصالح حتى مع الذين اساؤوا للبلد واهل البلد ,,لذلك كله ترك المؤلف النهايات الشكسبيرية الماساوية بحيث يتصالح هاملت مع امه رغم خيانتها و يرقص معها رقصة عناق وغفران تحت ظل شجرة الجاكراندا وبمباركة نوارها وهو ينزل خفيفا من علوه…ولم يكن مركز النداء في كل هذا سوى تعلة لخلق فضاء محبط ومكسور ومخذول وصامت في إشارة الى حالة الاغلاق التي فرضتها دولة المراسيم على الحريات وهو بطبيعته فضاء مازوم ومكتظ بشخصيات معطلة نسمع عنها ولا نراها ولا نعرف حجم ماساتها وهي “مراكز عبيد” أشار اليها المؤلف ولم يقترب منها عميقا وفي المقابل لم يغفل عن الإشارة بالتأكيد على أن مأساتها من مأساة البلد وأزمتها من ازمته وبان الخلاص جماعي بالضرورة…

يبتلع مركز النداء كل من عليه في نهايات تراجيدية صامتة ومأساوية بحيث لا احد سمع ولا احد رأى.. وقد تجنب المؤلف دخول هذا العالم المتاهي المتروك وتلهّى بالعائلة “السلطة” المستبدة التي تديره ومن خلالها تحرك لإدانة كل المراحل التي مرت بها الدولة الوطنية من استبداد الدولة الى استبداد الثورة…

………………………………

  • بين النص والدراماتورجيا.. أسئلة إشكالية..!

لقد حمل المؤلف كل العرض على عاتقه ومضى به الى المناطق التي أراد وفرض النص لا كعلامة من علامات العرض بل هو كل العرض وهو المنتج والباثّ لكامل العلامات البصرية مستحوذا بذلك على الفضاء.. من فضاء العرض الى فضاء اللعب وصولا الى فضاء التلقي.. فهو هنا كالرحى التي تأكل كل من جاورها.. وحتى يكتمل المشهد ومن اجل الإمساك بكل العناصر.. فقد أخذ المؤلف بزمام نصه ولم يسلمه خاما للمخرج حتى ينجز مقاربته الركحية والبصرية المخصوصة بحيث نجد المؤلف وقد اسند لنفسه المهمة الأكثر تعقيدا في اللعبة المسرحية ونشير هنا الى مهمته كدراماتورج بما وضع عملية انتقال النص من حالته النصية الأولى الى حالته النصية الثانية البصرية بين يدي المؤلف وهنا يضعنا عبد الحليم المسعودي امام أسئلة إشكالية بل يدفعنا الى مساءلة الممارسة المسرحية ذاتها والى إعادة النظر في بعض المفاهيم التي لم يحصل اجماع من حولها أي عودة الى المعرفة المسرحية من باب السؤال عن مشروعية الجمع بين وظيفتي المؤلف والدراماتورج.. وما الذي تبقى للمخرج اذا ما انتزعت منه المهمة الدراماتورجية؟.

لا يتوفر وصف.

في الواقع لم يخالف المؤلف قوانين اللعبة ولم يستحوذ على وظيفة يعتبرها النقاد وبعض الدارسين من وظائف المخرج.. فالمؤلف هنا انجز ما يسميه “بافيس” دراماتورجيا نصية هيأت النص للمرور الى المسرح لا وفق رؤية المخرج ومقاربته الاستبدالية البصرية للنص وإنما وفق تصورات المؤلف ذاتها وبشروط نصه مع مراعاة شروط الفضاء المسرحي ,,

وكما اشرت فان المؤلف يعيدنا الى مناقشة بعض المفاهيم التي لم يحسم فيها الدارسون نهائيا بل هي تختلف في مستوى الممارسة من بلد الى بلد ومن ثقافة الى ثقافة وقد شهدت عديد التحولات في مستوى ادراك الوظيفة النهائية للدراماتورج مند المرحلة البريشتية وما بعدها وقد تطور المفهوم بتطور الممارسة المسرحية ذاتها وازداد الامر غموضا وتعقيدا والتباسا مع تشابك المفاهيم واختلافها مقابل تردد الدارسين في وضع تحديد نهائي وصارم لوظيفة الدراماتورج وهو تردد من صميم التجاذب او لنقل المعركة غير المعلنة بين المؤلف المسرحي الحديث الذي يرى بانه الاقرب للوظيفة الدراماتورجية باعتباره صاحب النص في حين يرى المخرج الحديث او صُنّاع ما بعد الدراما بان الدراماتورجيا هي من صميم البناء الهندسي البصري للفضاء المسرحي وهو بناء لا يدركه المؤلف المسرحي,,,

وفي الأخير يبقى السؤال الذي طرحه “بافيس” اكثر عقلانية وموضوعية يمكن ان نؤسس عليه فهمنا لوظيفة الدراماتورج,,, \هل الدراماتورجيا شعرية انشائية للعمل الفرجوي ام هي تقنية دقيقة وبراغماتية لتحليل النص ولاخراجه على المسرح ,,,\

وفي اعتقادنا فان الدراماتورج هو كل هذا وهو يقف في تلك المفترقات الصعبة فهو المؤلف النصي وهو المخرج وهو الناقد وهو مترجم النص للغة البصرية وهو مؤلف العرض في النهاية وحتى نحسم هذا النقاش الذي دفعنا اليه المؤلف عبد الحليم المسعودي _وهذه في الواقع مزية أخرى من مزايا هذا العمل المسرحي والذي يدفعنا الى التفكير لا بما تطرحه المسرحية فحسب وإنما هو يستدرج متلقيه من النقاد خاصة ويدفعهم الى التفكير والى مراجعة ما نعتقد بأنه نهائي ومسلم.. فلا شيء نهائي في الفن المسرحي _ وبالتالي ومن باب حسم النقاش من حول ما اثاره عدد من المتابعين من حول الوظيفة الدراماتورجية التي اضافها المؤلف لنفسه في مسرحية “جاكراندا” وهي وظيفة تقنية من وظائف المخرج أساسا فاننا نؤكد هنا باننا إزاء مشروع جمالي مشترك فيه تقاسم للادوار وللمهام الإبداعية بين المؤلف والمخرج وبينهما ما يمكن ان نسميه “une convention” ما يشبه الاتفاق لتقاسم الأدوار.. كل وفق امكانياته والتي من شانها ان تساهم في تقديم عمل مغاير ضمن مشروع جمالي بصدد التشكّل بين المؤلف الدراماتورج عبد الحليم المسعودي والمخرج السينوغراف نزار السعيدي.. ونحن هنا في الأخير امام مؤلفي العرض في شكله النهائي الذي نحن بصدده….

لا يتوفر وصف.

  • المخرج ورمية النرد..

تلقّف المخرج نصّا جاهزا او يفترض ان يكون كذلك بما ان المؤلف قد انجز وظيفته الدراماتورجية كما هو معلن.. فما الذي فعله المخرج بهذا النص المكتظ متعدد المستويات في لغته المراوحة بين لهجة الريف والمدينة إضافة الى نزوعه لإضفاء خطاب عليم او ما يمكن ان نسميه خطابا نخبويا مخصوصا يقصد “تثقيف النص” حتى يبدو مغايرا وابن لحظته وحتى يدفع متلقيه الى الانتباه ويحثّه على التفكير النقدي…

لقد وضع المؤلف شريكه المخرج نزار السعيدي في مأزق حقيقي ورماه بنص بانشائية عالية وبخطاب متفاوت بالمستويات الثلاثة التي اشرنا اليها مع استدعاء الضرورة “لهاملت” شكسبير والتي جاورت الحكايا الشخصية للمؤلف في نوع من التشبيك الدراماتورجي ولم يكن له من مقصد سوى إيجاد مداخل قوية لادانة الدولة الوطنية عبر كل مراحلها السياسية الى غاية الوصول الى دولة الثورة,,وقد رمى المخرج برميته ونسميها هنا رمية النرد وهي رمية ذكية وهادئة تعيد ترتيب الأشياء دون ادعاء… لقد كان المخرج على وعي بأن نص عبد الحليم المسعودي نص استبدادي وبانه يسعى لفرض سلطة مطلقة على العرض… هي سلطة المؤلف الذي طرده المسرح التونسي من زمان ما افرغ المسرح من محتواه في الواقع وما حوله الى مجرد فرجة فارغة وقد تهافت عليها المتهافتون.. والمؤلف هنا ولطبيعة متجذرة في شخصيته فانه يسعى لإعادة المؤلف الى المسرح الحديث كسلطة لا غنى عنها لذلك نجده في هذا العمل وقد اخذ بين يديه سلطتين .. سلطة المؤلف وسلطة الدراماتورج.. لا من اجل دوافع جمالية فحسب وانما أيضا من اجل محاصرة العمل ومن اجل اعلاء النص كسلطة مطلقة على الفضاء.. وكان له ذلك باتفاق سخي كما يبدو مع المخرج والذي وجد نفسه وعلى امتداد الساعة الزمنية الأولى من العرض امام الرحى التي احكم المؤلف تشغيلها لتأكل كل من جاورها.. فاختار التحرك ببطء وبحذر وذلك عبر احداث فضاءات فارغة وصامتة ومكتظة في نفس الوقت بانفعالات الجسد وتوتراته في تماه لا يشتبك مع النص وإنما هو يحاذيه ويجاوره دون أن يصطدم به بما منحه مساحات مكثفة حتى يعلن عن نفسه وحتى يكشف عن مقاربته التي تعثرت وترددت أمام الأقفال التي وضعها المؤلف على أبواب نصّه فلم يكسر ثقل اللغة وهي تنزل من عليائها حيث التسريد متعدد الأشكال والأجناس وهو جاثم على جسد المكان …

استعار المخرج مقدمته التدشينية من ذاكرته البصرية وقد استلفها من مسرحية “يحيى يعيش” اخر اعمال الفاضل الجعايبي ما قبل الثورة وتحديدا سنة 2010 أي سنة الاغلاق الجحيمي وسنة المقدمات الأولى لسقوط منظومة الحكم ما قبل الثورة.. مقدمة صامتة بانفعالات جسدية عالية تعكس حالة التوتر المجتمعي وحالة الاختناق في مستوى الحريات قبل الثورة بأشهر قليلة ..نحن هنا امام إشارة ذكية لا تخفي امتداد حالة الخذلان … وتقول دون تردد بان لا شيء تبدل وبان دار لقمان ما تزال على حالها وان ما يسمى ثورة كانت مجرد هباء.. فكما استلف المؤلف مأساة “هاملت” لإدانة سياسات المرحلة وما سبقها ولتحريك مشرطه النقدي في كل الاتجاهات فقد استلف المخرج والسينوغراف نزار السعيدي مقدمة مسرحية “يحيى يعيش” للفاضل الجعايبي وهي ليست عملية استلاف عشوائية وانما هي اشارة clin d’œil الى ان لا شيء تبدل فالاختناق هو هو او اكثر.. وبأن الأقفال قد أصبحت ثقيلة على الحريات في هذه المرحلة.. واسترجاع هذه المقدمة البصرية الصامتة انما هو استرجاع لربط لحظتين تاريخيتين لحظة الانتكاس السياسي والمجتمعي ما قبل الثورة ولحظة ما بعد الثورة بسنوات حيث تونس تراوح نفس المكان وتعيش ذات الانتكاسة السياسية والمجتمعية وبين هذه وتلك ما يزال المسرح هو الفن الأكثر جرأة ونضالية في مقاومة كل اشكال الاستبداد.. نحن أمام عملية تبئير ذكية للحظتين تاريخيتين تتشابهان في مستوى حالة الاختناق المجتمعي والحقوقي والسياسي.. اللحظة الأولى تصدّى لها جيل التأسيس ما قبل الثورة وقد أشرنا الى مسرحية  “يحيى يعيش” للفاضل الجعايبي واللحظة الثانية يتصدى لها الآن جيل الامتداد ويمثله هنا المؤلف عبد الحليم المسعودي والمخرج نزار السعيدي.

لا يتوفر وصف.

لقد وجد المخرج نفسه امام نص باشكال تسريد مختلفة جمع بين انساق واساليب حكي متعددة من التسريد الروائي الى التسريد القصصي الى المقال الصحفي عبر الإخبار الملحمي إضافة الى نوع من التسريد الاستذكاري الذي يستدعي شخصيات اسطورية او شخصيات من الذاكرة او من الذاكرة الشخصية للمؤلف وقد وجد المخرج والسينوغراف نفسه وسط دائرة مغلقة لكأنها رحى فاختار محاذاتها ولم يخض تلك المغامرة الصعبة والمتعبة التي تضعه في مواجهة اصطدامية مباشرة مع دراماتورجيا المؤلف والتي حافظ فيها المسعودي على نصه خاما ولم يخففه من ثقل التسريد متعدد الاساليب والأشكال كما أشرنا لهذا كله ولثقل النص ولتعدد أساليب الحكي فيه والحضور المكثف للسرد والمونولوغات فقد اختار المخرج وضع دراماتورجيا موازية لا تنافس دراماتورجيا المؤلف ولا تصطدم بها وانما تتحرك بجوارها وتهيئ لها الفضاء وتمنحها بسخاء كل المساحات المتاحة على المسرح فلم يكسر هندسة النص ولم يخترقها بقراءة بديلة وانما اختار تقسيم فضاء اللعب تقسيما هندسيا منضبطا لهندسة النص مع تبئير الشخصيات والأحداث خاصة حين اشتباك الرواية الشخصية للمؤلف مع الرواية الشكسبيرية وذلك بخلق فضاءات بصرية متخيلة كتلك التي التقى فيها “هاملت” بطيف والده الدي اعلمه بخيانة عمه..

لم يكسر المخرج انساق التسريد داخل النص ولم يقدم مقترحا بصريا يعيد انتاج النص بشروط اللغة البصرية وانما اختار التماهي مع دراماتورجيا المؤلف في امتداد لها يضيء مفاصلها ولا يربك هندستها.. وفي اكثر من موقع اثناء الفرجة اصبحنا نشاهد نصا راديوفونيا مباشرا ورتيبا افلت من معاول المخرج السينوغراف فلم يشتبك معه ولم يعاود انتاجه بصريا ولم يهدم بنيته الداخلية بل تركه كما هو مسيطرا على المسرح مع اختيارات موسيقية كانت مهمتها الأساسية التخفيف من ثقل الإيقاع وكسر رتابة المشهد.. او لمرافقة طبيعة المشهد ومزاج الشخصيات عبر ايقاعات كانت كأصوات ملحمية وقد رافقت مختلف الوضعيات الأدائية والنصيّة…

لقد وضع المخرج والسينوغراف كل إمكانات المسرح في خدمة المتن النصي وقد يكون ذاك اختياره بالاتفاق مع المؤلف الدراماتورج لكن وفي المقابل كان بامكانه ان يقدم قراءته الشخصية كمخرج بان يعيد انتاج النص بصريا وان لا يكتفي بقراءة موازية تحركت بجوار دراماتورجيا المؤلف فلا هي اخترقتها ولا هي تجاوزتها في حين كانت الفراغات داخل النص كأبواب مفتوحة على مصراعيها وكان بامكان المخرج ان يخلعها فيكسر بذلك سطوة النص وبنيته وان يخلصه من زوائد التسريد الملقى على العواهن ..

لا يتوفر وصف.

يبدو اننا امام مقدمات مشروع جمالي مشترك يتاقسم فيه نزار السعيدي وعبد الحليم المسعودي الأدوار على المسرح بحيث يشتركان في تأليف العرض وفي كتابته من الفكرة الى النص الى الدراماتورجيا الى غاية وصوله الى شكله النهائي.. وعليه فنحن هنا امام “مؤلفي العرض” وبينهما مشروع جمالي هما بصدد وضع مقدماته الأولى عبر كتابة جديدة تزعم المختلف والمغاير وهي لذلك تخوض مغامرة التجريب على الفضاء.. فضاء النص وفضاء اللعب وبالتالي فانه من باب العبث أو المزايدة الحديث عن المؤلفين كل منهما بمعزل عن الآخر وقد اشتركا في تأليف العمل من الفكرة الى غاية الشكل النهائي للعرض.. من قام بالأدوار الكبرى..؟ هذا سؤال سيكشفه المشروع بعد اكتماله ونعتقد بل نجزم بان العروض القادمة لمسرحية “جاكاراندا” ستكون افضل بل قد تكون عرضا اخر تماما لا يشبه العرض الأول على الاطلاق…

كلمة أخيرة في حق الممثلين وقد ادارهم المخرج نزار السعيدي بحرفية عالية وكلهم تقريبا، ما عدا حمودة بن حسين، من تلامذة مدرسة الممثل التابعة لمؤسسة المسرح الوطني وقد جاء اداؤهم لافتا للانتباه يعكس جدية العمل التكويني في هذه المؤسسة التي بدأت في تقديم ثمارها الى المشهد المسرحي التونسي..

وللنقاش بقية….

فتح الصورة

 

Related Articles

Back to top button