مقالات

برديّة كويش وشخاتير المنتدى تمسرح جفاف الأهوار/ يوسف السياف

إنّ حجم وكثافة التّغريب والاستلاب في ظلّ الهيمنة الغربيّة يزداد يوماً بعد يوم في عالمنا العربيّ، في ظلّ التّذبذب والتّخبط اللا مركزيّ، لدرجة أنّنا بدأنا نفقد مواردنا الاقتصاديّة والإقليميّة وحتّى الثّقافيّة، ولأنَّ المسرح خطاب ذو بعد تواصليّ تأثيريّ ينطلق من المجتمع، ويتّجه نحوه، ونحو السّلطة مباشرة، فلابد وأن تكون له وقفه إزاء حجم الانتهاكات المستمرّة، فيقتضي تملُّك واستعادة الثّقة بالهويّة، ومحاكاتها بأداء تأويليّ وبناء للذّات، وإيجاد صيغ واقعيّة للخروج من مأزق التّشتّت كمصطلح تبئيريّ ما بين العودة إلى الأصل، وما بين استقبال الخطاب الفكريّ، والسّياسيّ العالميّ المعاصر الخشن، وأدائه الصّلب اتجاه مدننا العريقة، لتأسيس خطاطة فكر جماليّة لخطابنا المعرفيّ، بصوت نقديّ مقاوم، يُترجم حجم الكارثة، ومعالجة القضايا المصيريّة المعاصرة، والحدّ من الإبادة للموارد البشريّة والطبيعيّة.

بيد أنّ المقاومة أفرزت عبر التّاريخ أساليب مختلفة للتعبير عن الاحتجاج والثّورة، فطرح المسرح مديات جدليّة/ ثوريّة، وضبط المفاهيم التّراثيّة والحضاريّة والبيئيّة، نتيجة لابتعادنا عن دراسة مخيال مجتمعاتنا، ومعرفة رغبتها، ومنع التّمدد الاستعماريّ. فعندما يصبح المسرح حاجةً من حاجات المجتمع المهمّة سيصبح قوّة ناعمة وأداءً مقاوماً، ومتى ما كسب المخيال الجمعيّ الثيمة النقديّة، والوعي الحقيقيّ لمعرفة دوره، فلم يتمكّن المسرحيّون العرب منذ التأصيل من وضع شواخص فكريّة/ مفاهيميّة/ لهويّة مسرحيّة أصيلة تقاوم النّعرات المعادية والتّدخلات الغاصبة، رغم انبثاق الاتجاه الرّافض للعدوّ الخارجيّ لكسر المألوف، والسّائد، والذي كان خجولاً لكنّه جاء كنتيجة لضعف الاستراتيجيّة، والتّفكير اللّحظيّ، وافتقارها للأرضيّة الفلسفيّة، والقراءة السوسيولوجيّة، وضيق النظريّة، وانحسارها وتشتّت أهدافها، وافتقار الممارسات الاحتجاجيّة التي تخلق أدوات نضاليّة مثل العصيان/المعارضة/ التّمرد/ الانتفاضة/ المظاهرة/ الاحتجاج/ الثّورة/ الجدل، إلّا ما ندر.

تحوّلت وسائل الهيمنة من الحروب المادّيّة إلى حروب فكريّة، وتحوّل القطاع من فاعليّة صناعيّة عاملة الى فاعليّة خدميّة سلعيّة، حيث نجد أنّ أغلب التّجارب المسرحيّة العربيّة قد سقطت في فخّ الهجرة الثّقافيّة (السّلبية منها وليست الإيجابيّة) عبر محاولة لتشكيل ثقافة مسرحيّة عربيّة تسيل حدّ الذّوبان مع الهوية الأورو/غربيّة، فبعد أن صعدت الحركات الاجتماعية الجديدة (النّسويّة، المثليون، القوميّون السّود، المناصرون للبيئة) أصبح من السّهل تغيير العلاقات الاجتماعيّة الكونيّة كقوّة كليّة في دراسات الما بعد، لتقابل مفهوم (إنتاج الرّغبة) كأسلوب يتعامل مع القوّة من وجهة نظر المقاومة على أنّها ظاهرة ثانويّة، كمسار اتّبعه (دولوز وغاتاري) لتسيم جهود تبنّت الرّغبة على أنّها إيجابيّة لتزاوج خطابيّ (ماركس وفرويد)، وهذه الرّغبة تنمو أيضاً بسرديّة خطاب الأمّة، كإصرار للقوّة السياسيثقافيّة حسب وصف (دريدا) الفائض غير القابل للاختزال للتّراكيب فيما فوق لمستوى الدّلاليّ، وبذلك يعقد الخطاب الموضوع المباشر لقوتي (الرّغبة والسّلطة)، فقوّة الخطاب توفّر خاصيّة التّمسك والتّلاحم بنسق مفتوح على التّغيير، وإنتاجه كفعل يستلزم فواعل عدّة تترجم علاقات القوّة والسّيطرة، وبإمكان الخطاب إعادة تشكيل الأنساق الثّقافيّة والاجتماعيّة بما يتلاءم ويخدم منتجيه وسلطتهم، فيما يرى (فوكو) الخطاب على أنّه منظومة يمكّن الجماعات المهيمِنة في المجتمع من تشكيل مجال الحقيقة من خلال فرض معارف، وحقول معرفيّة، وقيم معيّنة، على الجماعات الخاضعة لسيادتها، بوصفه تكويناً اجتماعيّاً، يؤدّي الخطاب وظيفة تشكيل الواقع، ليس للأشياء التي يبدو أنّه يمثّلها فحسب، بل أيضاً للموضوعات التي تشكّل المجتمع وترسم حدوده وتؤثّث فضاءه.

لا يتوفر وصف.

وعبر هذه المقدمة التي أجد بأنّها مطوّلة، وبعيدة بعض الشيء، لاسيما وأنّنا في صدد مناقشة خطاب مسرحيّة (رأسي في الجنوب) للمخرج المجتهد (محمد كويش) إلّا أنّني أجد بأنّه لابد من تدوينها لمعرفة كثافة الاستلاب في مجتمعاتنا العربيّة، وبالرّغم من أنّ العرض المسرحيّ بعد أن يُقدّم يصبح لقيطاً، كُلٌ يُنصّب نفسه أباً له، فسأنصّب نفسي أباً لهذا العرض بقراءته من منظور (نقد السّياسات الحياتيّة)، وفي البدء أحيّي الجمهور العراقيّ (رغم نوعيّته) لوعيه العالي في التّلقّي، فقد كنت فرحاً بعد أن وجدّته يستقبل الخطاب من دون تصفيق، فالتّصفيق يغوي، ونحن المسرحيّين نقع بسهولة في الغواية، على الرّغم من أنّ المشاركة، والفعاليّة سمة العروض المعاصرة، وأنّ التّصفيق جزء من عملية النّقد، والتّلقّي والمشاركة، إلّا أنّنا إزاء خطاب في صميم الأزمة المعاصرة، التي تجعل درجات الاستقبال خاضعة للمنجز المطروح، أزمة سلّط المخرج عليها الضّوء بعد أن نقّب عنها في الملفّات المنسيّة/ المركونة تحت طاولة السّلطة، إذ إنّ الإشهار لملف (جفاف الأهوار) يعدّ سبقاً يُحسب لمؤلّف ومخرج العرض، والذي أحسّ بأنّ سلطة الآخر كان لها حضورٌ بارزٌ في تهميش حضارتنا وطمر تاريخنا، من خلال فاعليّة خطابه النّاعم واستراتيجيّات البرمجة الدّماغيّة، والفكر المعلّب، وأسلوب الإلهاء، والرّداءة الفاضلة، واستثارة اللاوعي، وتغلّب خطاب هوليود على هارفرد في نقل القيم بمخاطب العامّة لا النّخبة، بالإضافة الى استراتيجيّة التكهّن الإعلاميّ، واستراتيجيّة القطيع، وتسميم العقول، وصناعة اللا أخلاق، نتيجة التّوسع اللا محدود للاستعمار، والاحتلال غير العسكريّ للموارد التّراثيّة، والثّقافيّة، والفكريّة، والاقتصاديّة، والصناعيّة، ولهيمنة الانترنت، ووسائله التّواصليّة، وضعف منظومة الفرد الدّفاعيّة، وسهولة اختراقه، وطغيان الثّقافة الجماهيريّة الآنيّة ومحاصرة المتلقّي في مختلف الوسائل الميديويّة.

لذلك ينبغي أن يعاد اختراع الجمهور، لاسيما الجمهور المسرحيّ في عالمنا العربيّ، مثلما يحدث للشّكل، فهل مات المسرح مثلما ماتت الكلمة؟ وهل المسرح يلهث؟ هي أسئلة لا بدّ للمشتغلين في الحقل المسرحيّ من الاجتهاد في البحث عن هذه أجوبة لها، وكيف سنتوصّل إليها ونحن نُشكل على لغة الجسد، ونتناسى في أنّ هذه اللّغة هي الأب الشّرعي للمسرح؛ فالمسرح ولد من رحم الطّقوس وليس الكلام، ولا بدّ من توضيح مواطن التّضليل والخداع وليس فقط الكشف عن النّتائج (الضّحايا)، فغياب المعلومة أو السّكوت عن الأحداث الكائنة يساعد في التّضليل أكثر، والجريمة عندما نُظهر المجرم ذاته كأنّه بطل قوميّ رغم ضعفه أمام الآخر. ولذلك استثمر المخرج (كويش) لغة الجسد الإثنوغرافيّة للتّعبير عن ضياع الهويّة العراقيّة الجنوبيّة، وجفاف (الأهوار)، وهي من أكبر البحيرات، والمسطّحات المائيّة في الشّرق الأوسط، والتي تحتوي على نباتات القصب والبردى، ومن أقدم المآوي الطبيعيّة في العالم، ومن خلال هذه الثّيمة أثّث المخرج خطابه المسرحيّ، وهو يسلّط الضّوء على هذه الكارثة البيئيّة المنسيّة، ليؤدّي المسرح وظيفته النّقديّة.

لا يتوفر وصف.

جاء الاستدماج والاستلحاق الثّقافيّ نتيجة لنظريّة التّبعيّة ومعركة كسب الشّرعيّة أو انتزاعها، فصراع اليوم هو صراع المشروعيّة لا القوى العسكريّة، وتحقيق النّصر على العقول والقلوب، وقد دبّ اليأس في قلوب الجماهير، وإحباطهم عبر التّشكيك بالرّموز وزرع الفكر، وإنّ تلقّي الإنسان للمعرفة من زاوية تعرّضه من المبثوث الثّقافيّ، فيتأثّر حتماً بخطاب هذه الفواعل، ويمكنه أن يتشوّش وتتغيّر ميوله، فالتّكرار والتّوكيد (كما حدث في العرض) بإمكانهما صناعة التّصوّرات، وحتّى المعتقدات إذا ما شحنت بجرعات شعبويّة وعاطفيّة ومؤثّرات سمع بصريّة، مقابل الإشهار اللا أخلاقي لأفعال الآخر، وشيوع الأداء اللا قيميّ عن طريق وسائل جذب ثقافيّة وفنّيّة تجعل المستقبِل يعتاد على استقبالها، ومن ثمّ يستمرّ عامل التّغذية في طرح مثل هكذا اضمحلال، تنمّي فاعلية التّعود، ومن ثمّ الاستقبال برؤية، تضع القيمة الاجتماعيّة والأسريّة جانباً، وبالاستمرار في الاستقبال والتعوّد ومن ثمّ الإدمان يتحوّل المستقبل لاسيّما القابل للتغيير إلى عنصر مشارك، إمّا بخياله أو ببدنه، وهنا يتحوّل الفرد من إنسان حرّ إلى عبد خاضع لشهوات غرائزه الحيوانيّة، ودائماً ما تنتج مثل هذه الأفعال الشّاذة ضعفاً في المنظومة الدفاعيّة، وسهولة اختراقها، بالإضافة الى تسويق القوّة النّاعمة الرّهيب من قبل المُصدّر الآخر الغيريّ المنتج لذلك الخطاب، والتي دائما ما تستغل فيما يخصّ موضوع الفقراء باستثارة العواطف، وتراجع عمل العقل الواعي بالإضافة الى تعطيل ملكة التّفكير النّاقد.

لا يتوفر وصف.

بثّ العرض صوراً سيميوزيسية ذات دلالة سائلة داخل فضاء حميميّ (منتدى المسرح)، أحاط الجمهور بالفعل الدّراميّ، والذي تحوّل إلى فضاء اقترب إلى بيئة السّهل الرّسوبيّ العراقيّ/ السّومريّ (قصب، بردى، تراب، ماء، مشحوف)، منطلقاً من جمل تعريفيّة (باللغة الإنكليزيّة والعربيّة) عن أهميّة الأهوار، وحضورها التّاريخيّ، وموقعها الكونيّ ضمن لائحة التّراث العالميّ، وبهذه البيئة (السّينوغرافيّة/المكان/الزي (الدّشداشة والشماغ العربيّ/ العباءة النسائيّة) الموسيقا ذات الإيقاعات الجنوبيّة (الونين الشّطراوي والملاية)  تمكّن (علي السّوداني) بفيزيائيّة ضوئه، و(ضياء حمزة) بهندسيّة ديكوره، وبقيادة مايسترو العرض (كويش) من إضفاء هويّة خاصّة للعرض نفتقر إليها في بعض العروض المسرحيّة العربيّة، وهنا احتلّ العرض صفة اللّغة الثّقافيّة التي تمكّنه من محاكاة الذّاكرة العراقيّة، ودغدغة العواطف، وأثرت الدّيناميّة الدّاخليّة للتّأثيث الجماليّ، والطّابع السّحريّ الاثنوغرافيّ لشكل العرض بالمتفرّج، فقد التجأ الخطاب إلى النّحت السّومريّ بكيميائيّة الجسد الكونيّ، كمصدر للإلهام، كجسد يعتريه الخراب والجفاف/ فوضى تدميريّة، حيث نجد أنّ هناك تناغماً محسوباً ما بين الصّورة المتولّدة، والبيئة الجنوبيّة لخلق إيقاع قاسٍ حسب المفهوم (الآرتوي)، شخصيّات بأجساد جروتيسكيّة (إنسان برأس حيوان)، ونموذج بوليفوني متعدّد الأصوات، معجون بعناصر طبيعيّة حرّة ذات نزعة بدائيّة – متناقضة مع شخصيّات تمثّل الآخر الغربيّ، والذي اجتهد في إظهاره كلٌ من المؤدّين (فكرة حسين وغفران فارس) – لتطرح لنا واقعاً مصاغاً دراميّاً بخطاب نقديّ للسّياسات الحياتيّة، فالتّوجّه الجديد للقوّة ضمن خطابات ما بعد العولمة، هو نقد السّياسات الحياتيّة التي أسقطت أغلب الطّروحات المهيمنة التي سبقتها، وهذه النّظريّة تنطلق من آليّة تقسيم المجتمع، على الرّغم من قوّة هيمنة فكرة التّسليع، والتّعليب، عبر “سيمولاكر” الموت والذائقة التّغذويّة، والشّراكات العابرة للقارات، وانطلاقاً من كيفيّة صنع حياة للنّاس، والشّهرة المصطنعة المبرمجة نعيش، ليست على الإنسان فقط، بل حتّى الطبيعة، سلطة تدميريّة تخاطب أدمغة البشر، تنطلق من مفهوم (الهوموساكر/ مهدور الدّم عند الأغارقة) (القتل بلا ديّة)، وهذا ما سعى إلى تأكيده خطاب العرض، فقد سلّط الضّوء على تلك السّلطة التّدميريّة التي توازي سلطة الهيمنة الشّعبويّة، والثّقافة الاستهلاكيّة، وصناعة الرّأي، وتشكيل الذّوق، وترسيم الحدود، فعبر هذين القطبين يتصارع الإنسان الذي بات يوازي اللا إنسان، حتّى بدأت الطبيعة تردّ على أفعاله، فلا بدّ من إنزال مستواه (أي الإنسان)، وإرجاع حقوق الطّبيعة (الأهوار مثلاً)، ناهيك عن حقوق البشر والحيوان، فهنالك أناس مقروءة، وهناك أناس موضوعة على الهامش، لاسيما سكان بلاد ما بين النّهرين، والإنسان بطبيعته الفطريّة يتفاعل مع حسّه أكثر من عقله عبر محفّزاته اللا شعوريّة، واللا واعية، التي تعدّ من أخطر تقنيات البرمجة النّاعمة، فبعد أن كان صوت الفكر، وخطاب المعرفة، ووعي الثّقافة، وجمال الفنّ والأدب عناصر لحماية الإنسان والطبيعة، باتت الآن مصدر خطر حتّى على الإنسان ذاته. لذلك سعى (كويش) إلى محاكاة الآخر (الإنسان) عبر لغة الجسد الإشهاريّة، من خلال المشهد الأدائيّ الجسديّ الإثنوغرافيّ الأوّل لولادة الإنسان العراقيّ، الذي جاء نتيجة تلاقح رأس جنوبيّ (الكرة أرضيّة طينيّة) – الشّخصيّة التي جسّدها المخرج ذاته بجسد ريفيّ (دشداشة وشماغ) – مع جسد إنسانيّ برأس حيوانيّ (جاموس/ بقر وحشيّ) في معمل إنتاج الكون (الأهوار)، وبأدوات طبيعيّة (الماء والتّراب والهواء والقطب) لإنجاب رمز عراقيّ (مشحوف/ شختور/ زورق) من رحم التّاريخ، بات منكوباً منهوباً يتصارع من أجل البقاء في بيئته (الأهوار) بعد أن جفّت. فانتهى العرض بموت أوروك (الإنسان السّومريّ والمشحوف)، وجفاف الأهوار ضمن جوّ جنائزيّ (لطمة النّساء الجنوبيّات/ سلالة إننا) وبصرخات الإلهة (نيكي) ربّة الماء وهي تبكي على هذه المجزرة.

 

 

 

 

Related Articles

Back to top button