لاشك ان انخراط الزهرة ابراهيم في كتابة النص المسرحي يستجيب لرهان كتابة ابداعية درامية تتجاوز أسلوب الكتابة التقليدية وقواعد التأليف الكلاسيكي. وذلك بحثا عن ارساء دعائم كتابة مغايرة، تفجر القوالب الجاهزة، والأنماط المستهلكة التي تطغى على الساحة المسرحية المغربية. وذلك لبناء نص درامي حداثي يرشح ببلاغته اللغوية وجماليته الركحية تتعالق فيه العلامات، وتتضافر داخله الانساق اللغوية والبصرية والفرجوية عامة، نص يعب من التراث والذاكرة الجمعية بخصوبتها وأصالتها اللغوية والتاريخية وينفتح على الصيغ والطرائق الجمالية بطرافتها وجدتها وابداعيتها. غير أنه يتحصن في الآن ذاته بمرجعية عميقة وخلفية نظرية فكرية وتحديدا انثروبولوجية ترفد وعي الكاتبة، وتثري ممارستها الجمالية، مما يجعلها تمتلك حسا جماليا متميزا، ورؤية عميقة دفعتها الى استبطان الواقع الاجتماعي والقومي، وقراءته على ضوء المتغيرات والإبدالات التي عرفها المحيط العالمي، والتي أعادت صياغة أوضاع حياة الأفراد والجماعات في من منظومة متجددة تداعت خلالها التمثلات العتيقة حول عدد من المفاهيم: كالهوية، والمقدس، والدولة، والسلطة، الوطن، والمواطن، والحق، والواجب، والحرية، والعدالة وغيرها من المفاهيم التي شكلت ثوابت المجتمع والدولة العربية في العصر الحديث. مما استدعى اعادة قراءة الواقع العربي وإعادة انتاجه فنيا وفق منظور مركب يستجيب للضوابط والخصوصيات الجمالية، وينفتح على الشرط الاجتماعي في افق صياغة تجربة قائمة على انتهاك سلطة الجاهز والعادي والمبتذل، وترسيخ فعل المغايرة والاختلاف على المستوى الجمالي. هذا فضلا عن طموح تجسيد نزوعات التحول والتغيير على المستوى المادي، والفكري، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي.
ان هذا الوعي المركب القائم على ادراك أسرار الصناعة المسرحية، والايمان بالوظيفة الاجتماعية للفن هو الذي دفع الكاتبة الى رفض أطروحة انطونان أرتو التي ترمي الى عزل المسرح عن زخمه الاجتماعي، واغراقه في النزعة الشكلانية التي تحول الركح الى فضاء باذخ تتعالق فيه العلامات والأنساق السمعية والبصرية والفرجدوية عامة، وذلك وفق نسق جمالي يهمش الأبعاد الفكرية، والحمولة الدلالية، ويعتمد عنصر الاثارة استنادا إلى دينامية الركح وبلاغته القائمة على وعي سينوغرافي وجمالي، وتوظيف مكثف للجسد. فالكاتبة ترفض تحييد المسرح وعزله عن سياق المتغيرات الاجتماعية خاصة في ظل المنعطفات التاريخية الحاسمة التي يشهدها العالم العربي والتي تقتضي إدراك المسرح العربي للاشتراطات، والصيرورات والتحولات العسيرة التي يجتازها الوطن العربي، مما يجعله مفتوحا على كل مهاوي الأزمات من تمرد، وعصيان، واقتتال طائفي، ومجتمعي، وتفسخ للدولة والمجتمع وغير ذلك من صور الإندحار الحضاري والانتكاس والسقوط . لذلك،فان المسرح مطالب، في تقدير الزهرة ابراهيم، بأن يملك تصورا لبدائل تجنب الكيان الفردي والجماعي من هذا الإندحار الحضاري والوجودي الذي يجهز على الحياة الأمنة. كما أن المسرح باعتباره فنا راقيا موكول له امتصاص هذا الارتجاج الذي يعيشه العالم العربي بكل تفاصيله وحيثياته في أفق إعادة تشكيل الوعي العربي بصيغة ترسخ قيم ومبادئ الحق، والخير، والحب، والجمال بمقياس ومعايير القيم الكونية والضمير الإنساني البعيد عن الزيف والنفاق والمفارقات التي عرتها الثورة العالمية في مجال التكنولوجيا والاتصال. كما عرت واقع التسلط والاستبداد. حيث سعت الأنظمة المتداعية إلى قمع الكتابة، والإجهاز على حرية التعبير، ومنع الاحتجاج السلمي، ومصادرة الفن الذي واكب مجريات الحراك أو مايعرف” بثورة الربيع العربي”. وبذلك فإن الكاتبة الزهرة ابراهيم تعتبرالمسرح، بالأساس، منجزا، فنيا وابداعيا، لكنه موصول، في الآن ذاته، بوظيفته الاجتماعية والتاريخية. فهو بالنسبة لها كشف ومكاشفة، عقيدة وشهادة، واقع وذاكرة، افتراض ورؤيا.
بهذا المعنى الفني والحس الفكري و النضالي تمارس الزهرة ابراهيم فعل الكتابة، وتتجاسر على المسكوت عنه لتؤرخ لزمن الردة العربية وواقع الانحسار، و الانخراط القسري في عولمة كاسحة وفاضحة لعجزنا الفردي والجماعي في ظل أنظمة متأكلة لا تملك مشروعا مجتمعيا وحضاريا، وتختار القمع والتسلط والاستبداد بديلا عن تحول مجتمعي سلس ومدروس يعيد الاعتبار للذات الحضارية، ويساهم في استعادة وهج الأمة ومكانتها بين الأمم التي تنعم بالاستقرار والتنمية والحرية والديقراطية.
ويفصح العنوان عن هذا النزوع إلى إضاءة جزء حساس من تاريخ التحولات العربية في الزمن الحديث. فإذا فككنا العنوان باعتباره نصا موازيا Paratexte يمتلك حمولته الدلالية التي تضيء النص الرئيسي نجد أن الأهزوجة هي مايهزج به من الأغاني اي مايترنم به. وإذا ربطنا الأهزوجة بشخص ابراهيم الحموي يتحصل لدينا وصف تراجيدي ومأساوي. فابراهيم ليس الا ابراهيم قاشوش، وهو شاب سوري من مدينة حماة. والمدينة ترمز في الذاكرة السورية والعربية للصمود والمقاومة، لكنها تحيل على أيحاءات مأساوية ودلالات يكشف عنها التاريخ الحديث للمدينة، وتفصح عنها قصة ابراهيم قاشوش التراجيدية. وهكذا يمكن اختزال التاريخ الحديث للمدينة في عبارات: النكبة، والتسلط، والاستبداد… ذلك أن المدينة كانت ضحية قمع وحشي وشرس في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حاصرها وأمطرها بوابل من القصف الجوي والبري عقابا لها على تمردها وعصيانها. فالطائرات السورية المفترض فيها قصف العدو أشاحت وجهها عن إسرائيل، واختارت قصف الأبرياء وتدميرهم، نفس النكبة تعرضت لها المدينة في الحراك الثاني أو مايعرف بالربيع العربي، وتمثل قصة ابراهيم قاشوش تجسيدا حيا ومأساويا لهذه النكبة. فابراهيم شاب سوري من مدينة حماة نشط إبان الاحتجاجات الشعبية السورية، وكان يقود المظاهرات الشعبية التي تهتف بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، واشتهر بتأليفه للشعارات المناوئة للحكومة وللرئيس السوري شخصيا، ومن بينها أنشودة ” يلا ارحل “. وقد لاحقته قوات الأمن السورية في أعقاب ” جمعة ارحل ” 1 يوليوز 2011. والتي احتشد فيها زهاء نصف مليون متظاهر بساحة العاصي بحماة. وقد ظفرت به قوات الأمن وقامت بذبحه، و اقتلاع حنجرته، تلك الحنجرة التي طالبت بالحرية والكرامة، ونادت بإسقاط الطاغية، ورددت بحبور وعفوية أهازيج النصر. وقد رمت قوات الأمن بجثة الشهيد ابراهيم في نهر العاصي مدعية أن مجهولين قتلوه لتأجيج الثورة.
وهكذا، يكشف العنوان طبيعة والنص وأبعاده، فهو يرصد واقعا عربيا مأساويا وتحولا يكتسي، طابعا تراجيديا وسمته الكاتبة بالرجة العنيفة الناجمة عن مفارقة: تنامي الوعي لدى الشعوب العربية المطالبة بالانخراط في زمن الحداثة، والديمقراطية، والتنمية الشاملة من جهة، وإصرار الأنظمة على مواجهة هذا الحراك بأليات القمع ومنطق العدوان. ومن ثم، فإن المسرحية تنحاز إلى الكشف والشهادة على لحظة فارقة من الزمن العربي.
إن أهازيج ابراهيم الحموي المأساوية التي هي عبارة عن مواويل ونغمات لاترددها بغداد ودمشق فحسب، بل هي أهازيج يترنم بها العالم العربي، وتمزج ببن الفضح والكشف تارة، والرثاء، تارة أخرى…
وإذا انتقلنا إلى المسرحية نجدها تنفتح على صورة سلطان يتوسط مجلس طرب. وهو مجلس باذخ يؤثثه شعراء و قيان وغلمان ومهرج وخمر، وبعد هنيهة يشرع في إلقاء صررمن الذهب، تتوسط هذا المشهد ثلاثة أدواح قليلة اوراقها ومائلة إلى الصفرة، تنطلق موسيقى حزينة وبطيئة حينا ومتوترة أحيانا أخرى، تدخل الأجساد الأنثوية في رقصة الموت، حيث تتهالك الأجساد، ويرتمي كل منها على جذع دوحة، ثم يصدر نشيج وآهات وعويل لينتهي المشهد بموت حركي ليتقدم الشاهد” قنسر” متسائلا عن سر يباب هذه الأجساد والأرواح، ويعلن المفتي الكفيف على أن الواقعة وقعت.
إن صورة المشهد تحيل على الوضع الكارثي لوطننا العربي، حيث اليباب وموت الأجساد والأرواح. لكن الشاهد يفتح الباب للسؤال الكبير:
ماذا جرى ؟ وما الذي سيقع ؟
من هنا يبدأ نغم أو غواية السؤال في المسرحية التي تختار تشريح الوضع العربي ومساءلته، و في موال بغداد تحاكم المسرحية شهاب الشاعر الذي يمثل رمزيا المثقف العربي، حيث نجد جسارة المهرج” حتروش ” تباغث الشاعر بتوجيه سهام النقد لشهاب معتبرا إياه مسؤولا عن الانتكاسة، فهو الذي كرس الإتباع، وزكى الوضع القائم، وعاش متمسحا بأعتاب البلاط، ومستدرا هبات السلاطين، لذلك لم يجرؤ على ازعاج السلطان، ورغم كونه يدعي الخروج على النسق، فهو يظل حاضنا للتنميط والجمود، لايقتحم دائرة المسكوت عنه، ولا يمثل نبض الشارع والجماهير فقد أختار التماهي مع توجهات السلطة، وتحول إلى أداة دعائية فجة مدافعا عن اختياراتها وقراراتها المتسلطة.
” حتروش المهرج: في هدوء مفتعل سيداتي سادتي. اصيخوا السمع. هذا الكائن الذي عاش منذ الأزل متمسحا باعتاب البلاط، مستدرا هبات السلاطين. والامراء..والوزراء..والولاة..يفاجئنا اليوم بموال غريب : يالالان للي ليلي ياعين.. هيا ياجمهورنا الموقر. رددوا معي يا لالاللي ليل ياعين ..يالالان يالالا للي ليل ياعين.”(1)
ويمعن حتروش المهرج في إدانة الشاعر شهاب الذي يرمز للمثقف واصفا أياه ب” مزمار المديح” (2) ويتحداه أن يزعج السلطان بمواقفه ومعارضته للسلطة في توجهاتها واختياراتها:
” حتروش المهرج: قل ياصاحب الفكر الدينامي والتركيبي .. هل تجرؤ على ازعاج السلطان في هذه الليلة الرائقة المتوهجة جمالا ودلالا”.(3)
بل إن حتروش يبالغ في إهانة الشاعر/ المثقف ،حيث يعتبره كائنا وصوليا وانتهازيا، يحرص على خدمة مصالحه، وتحقيق طموحاته الشخصية. مجرد من الحس الإنساني، بعيدا كل البعد عن تجسيد القيم التي يدعي الدفاع عنها. لذلك فهو لا يتورع عن ممارسة أفعال مشينة كالوشاية والغيبة بالإضافة إلى كونه شريرا وحسودا ، يتطاير الشر من عينيه ويضمر الحقد لنظرائه من الشعراء الذين يجالسون السلطان.
“حتروش المهرج: نعم سيدي،تراؤون ،تستعرضون قرائحكم …تتزاحمون حتى ليتطاير الشرر من عيونكم …يود الواحد منكم أن يحرق نده … تتلقفون العطايا . تتجسسون على جيوب بعضكم البعض. .تمتهنون الوشاية والغيبة….لكنكم حين تغادرون ردهات القصر…يبقى المهرج…وحده المهرج يبقى وقتها يرى مالاترون”(4). أما القينة كروان، فهي بدورها تزكي إدانة شهاب، متهمة الشاعر ونظراءه بكونهم مجرد لاهثين وراء الدنانير، تفتقد أشعارهم للصدق، وتروم التكسب والمدح، فهي تفضل ترديد الأغاني الشعبية على توريط حنجرتها في مدحيات طويلة لشعراء استنفذوا كل بحور الشعر في غواية المدح والتكسب وجمع المال.
” القينة كروان: (بنبرة فيها إدانة )أنتم أيها الشعراء اللاهثون وراء الدنانير من ورطتم حنجرتي في مدحياتكم الطويلة،والبسيطة، والمديدة، والوافرة،والكاملة، والمجتثة،والمتضاربة،والمتضارعة..استنفذتم كل عروض الخليل لإرضاء ممدوحيكم… لوترك لي السلطان حرية الاختيار لاكتفيت ب” هانا جيت، هانا جيت،هاناجيت جوني مار”(5)
وهكذا، فإن حتروش / المهرج والقينة كروان يدينان معا الشاعر شهاب الذي يمثل رمزيا المثقف محملين إياه مسؤولية تردي الأوضاع، ذلك أن الشاعرالذي يفترض فيه أن يلتزم بقضايا المجتمع، وأن يحرص على المسافة الضرورية ازاء السلطة، مما يسمح له بمعارضة موضوعية لتوجهاتها واختياراتها. قد اكتفى بارضاء نزواته، وتحقيق مصالحه الشخصية، حيث تحول إلى أداة دعائية فجة تكرس واقع التخلف والاستبداد. بيد أن هذه الاتهامات التي تنزع إلى توريط شهاب في تعميق الأزمة واستفحالها تلاقي الرفض من قبل شهاب معتبرا نفسه مستقلا وهو ليس من زمرة المادحين والمتكسبين والمنافقين وهو بذلك يتنصل مم تبعات هذا الوضع، ويحمل المسؤولية كاملة للسلطة القائمة:
“شهاب الشاعر: أنا شاعر ولست من زمرة الناظمين..أنا شاعر ولست من زمرة المادحين، أنا شاعر ولست من زمرة المنافقين، أنا شاعر ولست من زمرة المتكسبين ” (6).
في” نغم العزاء ” نقف على تشريح للخطاب الرسمي والخطاب الديني الذي يسير في فلكه،والناظم بينهما هو التبرير والزيف وتزكية واقع التسلط والاستبداد.
وفي سياق ذلك، يقدم المستشار زرزار صورة ملفقة وكاذبة عن وضعية الرعية مدعيا أنها تعيش حالة من الاستقرار والأمن، وتدعو للحاكم بالعز والهناء :
” زرزار المستشار( على يسار العرش ) سيدي سلطان الزمان، رعيتكم والحمد لله آمنة مطمئنة، تأكل الفول والعدس، وتتوالد في الغلس..تنام ..تنام . وتنام..تدعو لكم بالعز والهناء والدوام، والحفظ من أولاد الحرام”(7) وحين يسمع السلطان اصوات الاحتجاجات يمعن الخطاب الرسمي في التزييف وقلب الحقائق، ذلك أن أصوات الاحتجاجات تتحول إلى هتاف باسم السلطان ودعاء له بالنصر والتمكين.
” أمين الأسرار: جلبة؟ أصوات؟ الرعية تهتف باسمكم آناء الليل وأطراف النهار، وتدعو لكم سيدي السلطان بدوام العز والازدهار”(8).
نفس الخطاب التبريري المزيف يتبناه واذا رجل الدين كفيف تحمل دلالات توحي بقصور الرؤية، وزيف نظرة رجل الدين الذي يناصر السلطة ويسير في فلكها، فالكفيف في المعنى المعجمي هو ذلك الذي يعاني من ضيق مدى الرؤية، وفي ذلك تعبير صريح عن قصور الرؤية الدينية الرسمية، وانحيازها للتبرير والزيف كما نجد في هذا الخطاب المضلل للمفتي كفيف
الرعية مرعية في حماكم، مشمولة بكرم رضاكم، تلهج بالثناء على أفضالكم، وتغيظ الأعداء بالولاء لكم ولأسلافكم.
وإذا كان الخطاب الديني يتصادى مع توجهات السلطة وأهدافها، فإنه لايكتفي بذلك بل يذهب بعيدا حيث يضفي شرعية دينية ربانية مطلقة على الاختيارات السياسية، للحاكم. فالمفتي يعتبر حكم السلطان تدبير يسمو إلى المطلق صادر عن إرادة ربانية تتجاوز الفعل البشري في حدوده النسبية. أما إرادة المعارضين، فهي بشرية لا تخلو من الطمع، أو هي، بالأحرى، ضرب من الجنون.
وإذا كانت المسرحية تفضح الخطاب الرسمي والخطاب الديني المضلل، فإنها تعري من جهة ثانية واقع التسلط والاستبداد من كبث ومصادرة لحرية التعبير عبر حجب مواقع التواصل الاجتماعي، وتجييش وحشد “الهاكر” لتدمير حسابات أبناء الشعب، وإشعال فتيل الصراع الطائفي والديني وإشاعة الفساد، ونهب أموال الشعب وتهريبها إلى البنوك الخارجية…
و في سياق هذا التشريح للواقع العربي الطافح بالفساد والتسلط تؤسس المسرحية منطق التمسرح القائم على مجموعة من المفارقات التي تجسد بنية الصراع وآلية اشتغاله، حيث يتحدد الصراع في مجموعة من الثنائيات: الصراع بين الماضي المجيد والحاضر البئيس، بين أصالة الذات وعنفوانها وتراجعات الحاضر ونكوصه، بين مقومات العصر التي تشهد نزوعا جارفا إلى تأسيس فلسفة جديدة للتعايش البشري قائمة على الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وواقع عربي يراوده الحنين إلى الاستبداد، ويركن إلى التسلط، بين حلم الجماهير العربية في التحرر والديمقراطية والرفاه، وإرادة فولاذية لطبقة ماسكة بزمام الأمور تصر على إعادة انتاج التحكم والتسلط والاستبداد.
من صلب هذا الصراع ينبجس الزمن العربي الجديد والجريح موالا مضمخا بالأنين والشجن والأحزان، لكنه واثق من اشراقة عهد جديد، فإذا كانت نهاية المسرحية مأساوية يؤثثها مشهد ابراهيم قاشوش، فإن الشاهد يأبى إلا أن يخرج من تحت ردائه الدمية الخارقة معتبرا حنجرة الشاعر ” تعبير عن الضيق والشدة والخوف” دين في رقاب الأمة، داعيا إلى تحرير التاريخ العربي من الزيف والأكاذيب، و تحرير الأوطان من الاستعباد وسماسرة وتجار الحروب، وإعادة الأموال المنهوبة إلى خزائن الشعب، وتحرير التاريخ العربي من الأوثان والطغيان .
وإذا كانت المسرحية تنتهي بنفس جنائزي أليم يعبر عنه مشهديا شريط فيديو لجنازة ابراهيم قاشوش مرفوق بنشيد حزين ذي طابع رثائي، فإن الاصرار يبدو واضحا على مواصلة الثورة، فلا وقت للبكاء والألم والعشق. إنها لحظة الغضب وثوار حماة قادمون يلملمون الجرح والأشلاء، ويدفنون أطفالهم من الضحايا، ويقارعون الجرح بالجرح لصنع الغد المطرز بالألم والمبشر بالحياة التي تولد من صلب هذا الموت والدمار. و بذلك فإن المسرحية ترصد معاناة الذات العربية المكلومة بفواجعها وانتكاساتها بلغة مشهدية قائمة على تشابك الأحداث وتفاعلها، مما يؤسس للغة درامية متفردة تتسم ببلاغتها وجماليتها المنفتحة على الشعرية العربية، لكنها مشروطة بحدودها الدرامية وخصوصيتها المسرحية. كما تتميز بسيولتها العاطفية، فهي لغة مشحونة بايقاعاتها الموازية لحركية الحدث وديناميته، تجمع بين جمالية الحوار، وشعرية النص المسرحي في توليف درامي متميز ولغة مرئية تنصهر فيها كتابة شاعرية متدفقة بدينامية حدثية متواترة، مما يولد لغة فيزيقية تنآى بالمسرحية عن المونولوجية والخطابية، وتجعلها محافظة على أبعادها الدرامية من خلال تنوع الأحداث، وتعدد الشخصيات والذوات، وحضور التوثر والصراع.. وغير ذلك من المقومات الفنية التي تمنح لهذا العمل المتميز كينونته الفنية وأبعاده الجمالية الراقية.
هوامش:
- الزهرة ابراهيم : أهازيج ابراهيم الحموي: نص مسرحي للكبار. مطبعة الرباط نيت الطبعة الاولى شتنبر 2019. ص 22
- المسرحية: ص23
- المسرحية: ص26
- المسرحية: ص27
- المسرحية: ص37
- المسرحية: ص42
- المسرحية: ص43
- المسرحية: ص44