إن لعبة أي ورقة بحث لا تنتهي عند كتابتها، بل دائماً ما تتطلب إعادة القراءة والتصحيح والإضافة إستناداً إلى التسارع المعرفي الحاصل بين الثقافات والفنون، خاصة وأن المشاهد أصبح معنياً في توسيع مجال الجدل بوضعه في الميدان النظري والجمالي لمعرفة كواليس المفتاح الخيالي الذي يقدمه له المسرح في تركيبته الفنية.
يعرف (باتربس بافيس) أستاذ العلوم المسرحية، مسرح الشارع بالتالي: ” إنه مسرح يحصل في الأماكن الخارجية وفي مبان تراثية “: شارع، ساحة، سوق، مترو، جامعة… إلخ… إن الإرادة في ترك حرم المسرح تأتي من رغبة في الذهاب لمقابلة جمهور لا يذهب عادة لمشاهدة عرض مسرحي، وذلك بأخذ مبادرة إجتماعية وسياسية مباشرة ويشاركه إحياء مناسبة ثقافية أو تظاهرة إجتماعية، وينخرط في المدينة كمعرض وكضيف، لطالما كان هناك خلط بين مسرح الشارع والمسرح التحريضي والمسرح السياسي في السنوات العشرينيات والثلاثينيات في ألمانيا والإتحاد السوفياتي، ومنذ السبعينيات إتخذ مظهراً أقل سياسياً وأكثر جمالياً، وحقق مسرح الشارع تطوراً في الستينيات بشكل خاص عبر مجموعة (بريد أند بابت) والسيرك السحري والهابيننغ والتحركات النقابية، كما احتلت مسرحيات ” الأسرار” باحات الكنائس وساحات المدن، وللمفارقة، فإن مسرح الشارع حاول أن يتمأسس وينتظم كمهرجان، ويقيم في أطار مدني أرضاً للفن، أو السياسة للتجديد المدني، مع محاولة البقاء أميناً لخطه الفني.(1)
إن أي مكان يتم إختياره لإقامة عرض مسرحي خارج العلبة الإيطالية يفترض أن تتجلى فيه بيئة ترصد حالة من التفاعل مع الإستجابات الجمالية , يجنيها الممثل والمشاهد من الصور الحسية والشكلية والرمزية عبر الأصوات والألوان والإيقاعات والتركيبات المستمدة من البصر والمتعلقة بالمعاني الموجودة في بيئة المكان، هذا المكان الذي نتنفسُه وقيمتُه الإيقاعية تحققه السينوغرافيا التي لا تعتبر موضعاً مجمداً وثنائي الأبعاد، بل جسداً حياً خاضعاً للوقت والإيقاع والموسيقى والتغيرات الضوئية وعالماً من المعاني يعمل على رؤية النص وسماعه من الداخل.
لقد أصبحت السينوغرافيا من الأساسيات المعتمدة في مسرح الشارع في الغرب وتحديداً عندما بدأ يعجز عن تقديم نفسه كنشاط إيديولوجي وبعد أن مال كثيراً إلى التكرار مما حدا بإبتعاد الجمهور عنه، عندها أيقنت فرق كثيرة مثل فرقة (سان فرنسيسكو الإيمائية) (ومجموعة بريد أند بايبت) (ومسرح أغوستو بوال) بأنها لم تعد قادرة على التطور إيديولوجياً، وكي لا تبدو أشكالاً متجمدة وأن الخطاب السياسي الأكثر صوابية لن يكون مقنعاً ما لم يأخذوا بالحسبان البعد الجمالي والشكلاني للنص ولعرضه المشهدي. بهذا الصدد تقول (إيريكا فيشر ليشتة): ” لا يمكن للمكان أن ينشأ من كيفية استخدام العارضين والمشاهدين فقط، بل من خصوصية الأجواء التي تعطيه بريقاً خاصاً. وتتابع القول: ” منذ ستينيات القرن الماضي، ألحت فنون العرض والمسرح على التعامل مع الفضاء الأدائي بإعتباره مرادفاً للأجواء، وقد أثر ذلك على جماليات العرض من خلال تسليط الضوء على ثلاثة جوانب:
كون الفضاء حدثاً في العرض وليس عملاً فنياً مستقلاً لأنه مراوغ ومتغير.
إدراك المتفرج لجسده داخل فضاء الأجواء بشكل أو بآخر، حيث يدرك أنه عضواً حياً يستطيع أن يتفاعل مع المحيط الخارجي، لأن الأجواء تدخل جسدَه مما يجبره على تخطي حدوده الجسدية.
التعامل مع الفضاء الأدائي بإعتباره فضاءً متأرجحاً تتم بداخله التحولات “(2)
من المسلم به أن لعروض مسرح الشارع أوجه متعددة، منها الترفيهي، ومنها الثقافي والإجتماعي والسياسي، وبرأيي المتواضع جميعها تحتاج إلى سينوغرافيا تساهم بعمق في رصد حركة المجتمع درامياً ودلالياً وجمالياً بحيث لا تدع المكان مكاناً محايداً، أو مجرد مكان بحد ذاته، بل مكاناً له معناه الدال في ترسيمة صورة فنية شاملة، ترسخ علاقة عضوية مستمرة مع المشاهد وتنتج معنى لا ينتهي بإنتهاء العرض.
يقول (رولان بارت): ” إن المكان عبارة عن خطاب وهذا الخطاب هو لغة المكان، فالمدينة تتكلم عن سكانها ونحن نتكلم مدُنَنَا، إذ تشكل كمجموع إنعكاس صورتها صورتنا “.
تبعاً لما قاله (رولان بارت)، أرى أنه لا يمكن لمطلق مكان يتم إختبارَه لعرضٍ في الشارع أن يكون خطاباً متكاملاً، ما لم تتوافق بيئتُه مع الموقف الدرامي، وما لم يكن لهذه البيئة دوراً فاعلاً في تشكيل المكان، وتنشيط خيال الممثل والمشاهد ليصل بإدراكهما إلى داخل الروح مختلف تأثيرات الصورة الفنية التي تثري هذه البيئة وتمنحَها مقومات المتعة.
يقول (هانس روبرت ياوس): ” إن المتعة التي يثيرها الفن هي أساس التجرِبة الجمالية التي لا يمكن تجاهُلِها، بل يجب أن نجعلَها موضوع تفكيرنا النظري إذا ما أردنا الدفاع عن وظيفة الفن الإجتماعية، وعما يرتبط بها من معارف ضد كل من يعمل على الحض من قيمتها سواء المثقفون أو غير المثقفين “.(3)
أيضاً برأيي المتواضع أقول: “في عالمنا العربي وفي معظم عروض مسرح الشارع، يحصل أن يوجد الفن ولا يوجد معه الجمال على الرغم من الصلة الوثيقة بينهما، وما مرد ذلك إلا غياب السينوغرافيا الذي يؤدي إلى اضعاف صورة العرض الفنية وفقدانها صياغة المعنى وتفسير محتواه”.
لقد رافقت السينوغرافيا المسرح منذ نشأته بمفاهيم تطورت على مر الزمن وفقاً للظروف البيئية والتكوينات الفكرية والسياق التاريخي والإجتماعي والثقافي ولمسيرة العلم المرتبطة دوماً بالتطور التكنولوجي، والممعنة في التصدي للإنعتاق من النمط التقليدي بغية تحقيق المتعة والإفادة والجمال عبر أبعادها الوظيفية والدرامية والدلالية والجمالية بواسطة عناصرها المؤلفة من (الديكور – الأكسسوار – الإضاءة – الموسيقى – الأزياء – والماكياج) لتكوين صورة فنية يتفاعل معها ويدرك إيقاعاتَها الممثل والمشاهد معاً شكلاً ومضموناً بفعل نسيج بنائي يضبط عملية التواصل بين مختلف الأشكال والخطوط والكتل والألوان والفراغات، وبوحدة تَنتج من تآلف عناصر السينوغرافيا وإيقاع يوّلد بتناغمها الحركي توازناً يساهم في الحفاظ على التواصل البصري والحسي مع المشاهد.
إن الصورة الفنية في مطلق عرض مسرحي في الشارع هي لوحة تشكيلية يبتكرها السينوغراف لوحة ناطقة تضفي على المكان فضاءُ تجول في أرجائه كل الجماليات حيث يختال الديكور وتحيا الإضاءة وترقص الموسيقى وتزهو الملابس وتتلون الوجوه ويسمو الخيال، هذا الخيال ببعده المجرد في تكوين الكتابة البصرية التي ابتكرها السينوغراف وأضافها على روح النص وتكاملت مع رؤية المخرج، أثرت الصورة الفنية في قيمتها البنائية في اللغة المسرحية بنظامها التشكيلي وتمكينها الممثل من بلوغ التوازن الإبداعي بين مختلف حواسه البصرية والسمعية والحسية والشمية وبتحويل المكان من نسيجه الطبيعي إلى مكن يحاكي الوجدان والأحاسيس وجعل المشاهد يشعر بأن المكان الذي يوجد فيه هو الفعل المسرحي وليس مجرد إطار وهذا ما درج عليه في عروضه كل من (روبرت ويلسون وجورج لوباج وباتريس شيرو وغيرهم).
بالعودة إلى (باتريس بافيس)، بخصوص المسرح في مختلف وجوهه وفي نظرية وعلوم العرض يقول: ” ما زلنا بعيدين جداً من نظرية موحدة للمسرح، نسبة لا تساع وتنوع مظاهر التنظير في تلقي العرض وتحليل الخطابات ووصف المشهد… إلخ. والتنوع في الآفاق، يجعل خيار وجهة النظر الموحدة صعبة جداً، وكذلك النظرية العلمية القادرة على ضم الدراماتوجيا والجمالية والسيميولوجيا، حتى الآن في الواقع وقبل البحث البنيوي عن نظام واسع بما فيه الكفاية لإكتشاف تظاهرات مسرحية كان التنظير مؤمناً بفضل علوم مختلفة مثل: الدراماتوجيا (بالنسبة إلى تركيب المسرحية والعلاقات ما بين مكان وزمان القصة والاخراج)، والجمالية (بالنسبة إلى إنتاج ما هو جميل والفنون المشهدية)، والسيميولوجيا (بالنسبة إلى وصف الأنظمة المشهدية وبناء المعنى)، هذه العلوم الثلاثة التي نريد أن يكون نهجَها علمياً قدر المستطاع، هي أدوات للنظرية المسرحية، ليس عليها إذن أن تتنافس، بل أن تسمح بتبادل منهجي بين العمل الخاص والنموذج النظري الذي تُشكِل فيه تنوعاً ممكناً. ويكمل القول: “بهذا المعنى من العقم أن نتساءل أي علم يشمل البقية؟ أحياناً، هل الجمالية كنظرية إنتاج، أحياناً اخرى، هل هي الدراماتوجيا كصورة عن كل التفاعلات الممكنة بين زمن وفضاء القصة والعرض، وأحياناً ثالثة، هل هي السيميولوجيا التي تقدم تحليلاً لكل الأنظمة ذات المعنى وتنظيمها في الحدث المسرحي “.(4)
إن كل ما أتى على ذكره (باتريس بافيس) هو في صلب السينوغرافيا وصورتها الفنية، ومسرح الشارع الذي ولد من أجل تعزيز الوعي الثقافي وتغيير الوضع الإجتماعي إلى ما هو أفضل، ومن أجل التعريف بالمسرح إلى من يجهله، يبقى في عالمنا العربي يفتقر إلى الدعم المادي والمعنوي من قبل المؤسسات الرسمية وحتى الثقافية.
ختاماً في مسرح الشارع أو المسرح في الشارع لا توجد تذاكر ولا تنظيم مالي يحكم مداخيل الفنانين العاملين به، والفنان المسرحي شخص تعلم وسهر الليالي لا ليعمل بالمجان وعلينا أن لا نشاطر المجانية في مسرح الشارع أو المسرح في الشارع الذي كي يعمل كل منهما بمفهومه الصحيح يفترض أن يصار إلى وضع منهج مدروس بدقة لكل منهما، وأن ندرك بأن لكل منهما سينوغرافيا لها صورتها الفنية التي تضفي على المكان سحراً تسهم في بلورته الأجهزة التقنية التي تلعب دوراً كبيراً في صياغة المشهد، لأن مسرح الشارع وكل الفضاءات المغايرة للعلبة الإيطالية لا تختلف صورتها الفنية في حمولتها المعرفية وخلفيتها الجمالية في نسق البناء الدرامي.
الاحالات:
(1): “معجم باتريس بافيس” ص. 554 – 553 ترجمة: ميشال ف. خطار
“(2): كتاب ‘جماليات الأداء نظرية في علم جمال العرض’. ترجمة: د. مروى مهدي – ص 221.
(3): كتاب “الجمالية المعاصرة مارك جيمينز” – ترجمة: د. كمال بو منير
(4): “معجم باتريس بافيس” ص: 571 -570 ترجمة: ميشال ف. خطار
** شادية زيتون دوغان/ مصممة سينوغرافيا ( لبنان)