*****************************
كدت أراه … ورماد أمجاد
بين الإلهام والاستلهام
مدخل للاستئناس
أصدر عبد الحق الزروالي كتابا يتضمن مسرحيتين هما : كدت أراه … ورماد أمجاد خلال هذه السنة ( 2019) عن منشورات دار الوطن بدعم من الهيئة العربية للمسرح في حلة جميلة وأنيقة .
وعبدالحق الزروالي ـ كما يعرفه الجميع ـ فنان مسرحي استثنائي في كل شيء مؤلفا ومعدا دراماتورجيا ومخرجا وممثلا، عالم بدروب أبي الفنون، وخبير بقضاياه، متعدد المعارف يكتب الشعر والقصة والرواية.
سحره المسرح وعمره لم يتجاوز الأحد عشر ربيعا، تنقل في بداية مساره المسرحي (1961) بين العديد من الفرق المسرحية بمدينة فاس المغربية، ليختار بعد ذلك مساره ضمن المسرح الفردي والتي من خلالها سيتربع على عرش هذه التجربة منذ أول عرض له فيها سنة 1967. فمن هذا التاريخ والمبدع الزروالي ينتج سنويا الى أن راكم أكثر 42 عرضا منها 27 من الصنف المونودرامي وهو رقم أهل مبدعنا ليكون من الرواد في وطننا العربي.
كل نص من نصوصه ينبني على رحلة افتراضية تتأسس على البوح وتنطلق من مرجعية ذات حمولة ثقافية أو فكرية أو فلسفية، يستلهم من خلالها قضايا إنسانية، ويعالجها بمقاربة نقدية وتحليلية بعيدا عن أي ادعاء او تحريض. كل هذا يجعل جمهور هذا الفنان من عينات خاصة، لا يستهلك الفرجة بل يحاكيها ويتفاعل معها بشكل متنام.
ينحت عبد الحق الزروالي في الشخصية المسرحية بدقة، فيتقمص عمقها بكثير من المساءلة والمكاشفة والوعي الى درجة أنه يوهم المتلقي بروحها في تداول منفتح عن زمانها ليأخذ منها روحها وموقفها وتأثير صداها الذي يسكن فينا وفي مجتمعنا.
وبقدرما أن مسرحه، مسرح قضايا، فهو أيضا مسرح جماليات، فكل ما يؤثث الفضاء المسرحي لا يوضع عبثا، بل له وظيفة وقوة ايحائية، ورمزية دالة.
أصدر الزروالي أحد عشر نصا مونودراميا: (ـ جنائزية الاعراس ـ رحلة العطش ـ برج النور ـ زكروم الأدب ـ عتقوا الروح ـ انصراف العشاق ـ شجرة الحي ـ كرسي الاعتراف ـ آش سماك الله ـ كدت أراه ـ رماد أمجاد ـ البطل الهارب الميت)، كما أصدر رواية (الريق الناشف) وديوانا شعريا (نشوة البوح)
وللإشارة فقط فإن أغلب نصوصه المسرحية التي ألفها قد قام بإعدادها للمسرح ثم إخراجها وتشخيصها
مسرحية كدت أراه …ترنيمة عاشق في محراب صوفي
استلهم عبد الحق الزروالي هذه المسرحية من كتاب المواقف والمخاطبات للعلامة الصوفي محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، ويتأسس مضمون هذا النص على بوح البطل البوهالي العاشق المتيم في مواجهة جبروت البحر القاسي وغير الرحيم، حيث هذا الأخير سرق شافية من العاشق فقطع حبل الوصل بينه وبينها دون شفقة أو رحمة، لتبدأ الرحلة في صراع وجودي تراجيدي بين قوتين متناقضتين وغير متكافئتين: الأولى يمثلها البطل الذي يبحث عن حقه في استرجاع شافية المعشوقة، والثانية يمثلها البحر القوي العنيد المستبد الذي سرق المحبوبة غدرا ودون سابق انذار ورفض تحريرها.
داخل هذا السياق المتناقض يتاجج الصراع في حوار مفعم بالعشق مغلف بالصوفية بلغة شاعرية ذات جرس موسيقي متناغم يعطي للنبر توازنه الايقاعي، وباختيار الفاظ دالة وموحية، وحوار رصين ودقيق.
يهيمن الخطاب الصوفي في حوارات ( كدت أراه ) بشكل قوي، خصوصا في السيرة الذاتية الروحية للنفري المبنية على العشق الإلهي والوقوف والاستجداء بين يدي الخالق، والانتشاء بالمحاورة والمخاطبة التي يرفع من خلالها الحجاب ، ويظهر مثل ذلك في كثير من العبارات نذكر منها ما ورد في صفحة 18 من الكتاب :
( يا عبد الودود …
قف بين يدي
لأني ربك ولا تقف بين يدي
لأنك عبدي
قف حتى يجيئك حكمي القيوم .. وتكون .. لي وحدي
أتدري يا عبد العلي
من ينظر الى قلبه يجده فارغا
فلا … لا تكن في الهلع مبالغا …
السكوت .. السكوت
واعلم أن من يتعلق بمن سيموت
كمن … يتسلق … خيط العنكبوت )
ثم يستطرد بعد ذلك في حوارات أخرى حول المعرفة الصوفية التي لا تتجلى الا بالاسترشاد الى القلب والانغماس فيه ، فيقول في الصفحة 22 :
(من ينظر بقلبه لا تعكسه المرايا
من لم يقف عند الإشارة
لا .. تنفعه .. العبارة )
إن حجاب الرؤية في مسرحية ( كدت أراه ) لا يكشفه إلا القلب عن طريق المحبة واليقين بقدرة الخالق على توجيه المخلوق ، والتدرج في عشق الله للوصول الى أعلى المدارج والمراتب ، فيحل الحلول وتكتمل الرؤيا للوصول الى باب المعرفة ، فيقول في ص 27 :
( طلبت منه ..أن يدلني .. كي أعرف
قال لي : المعرفة نار تأكل المحبة من الخلف
المحبة احتياج .. والاحتياج ضعف
الضعف بداية الشك والخوف
الخوف بوابة الكفر والزيف
( ….)
احكم بيني وبين هذا القلب
مرة أجده مرتعا للغزلان
ومرة ديرا للرهبان
ومرة متحفا للأوثان
ومرات فيه ما يكفي من ألواح التوراة .. من الانجيل .. ومصاحف القرآن )
إن البطل في هذه المسرحية سيتحول من عاشق ولهان حد الغواية لمحبوبته شافية إلى الانغماس الكلي في حب الله حد الروية، بعدما تطهر جسده وأيقن قلبه، وبلغته الحجة بالإشارة، فزال بينه وبين الحق الحجاب، فكان التجلي حد الانصهار. فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، إنه منطق الحلول، حلول اللاهوت في الناسوت، فلا عجب حين يتحقق الكشف، ويتحرر الجسد من شدائد الدنيا وشوائد الخلق، لقد تجسد الحق، وتجلى الأمر، وانكشف السر، فما بقي للعبد (العاشق) سوى التسليم لله والارتقاء إليه بقلبه، ومناجاته لكي يغنيه عن سواه. لكن تبقى شخصية شافية موشومة في الذاكرة، تسكن القلب، تناجي الروح، وتتجسد للبطل في كل لحظات صحوه وبوحه.
أما على مستوى الشكل والبناء فقد أختار عبدالحق الزروالي في هذا العمل المسرحي من الالفاظ ما يجعل الحوار حالما داخل شاعرية ممتعة، خصوصا حينما يصل الى درجات البوح ومناجاة الخالق، ويأتي هذا الاختيار من طبيعة المصدر إلى كتابة جديدة تؤسس بقدر ما تمحو، وترمز بقدر ما تكشف، ليبقى اغتراب الذات من اغتراب الخطاب ، لذلك نجد في كتاب المواقف للنفري عبارة : ( قال لي ..) ، وهذا ما اعتمده الزروالي في كثير من الحوارات داخل المسرحية ، ونفس الشيء في المخاطبات ، اذ نجد النفري يكسر خطابه بلفطة : ( يا عبد ) ، وقد وظفها عبد الحق بإضافة اسم من أسماء الله الحسنى، ومن مثل ذلك نذكر : ( ـ يا عبد الستار ـ يا عبد الغني ـ يا عبد العلي ـ يا عبد البر ـ يا عبد السلام ….) ، ويبدو المتكلم هنا ، وكأنه يأخذ مكان الله في مخاطبة عبيده ، لأن درجات الحلول بين الحق والخلق \ بين الله والمتصوف العالم بمعارف الله تذوب وتنصهر ، وهذا أمر معروف عند شيوخ المتصوفة ، ومن أمثلة ذلك كثير ، نذكر منها : ـ الحلاج : ( ما في الجبة الا الله ) ـ ذو النون المصري : ( عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي )
اعتقد أن الفنان عبد الحق الزروالي حين دخل مغامرته الصوفية في كتابة هذا النص المسرحي ، فقد راهن في ذلك على جمهور خاص له درجات كبير من الوعي والنضج الفكري وله أيضا القدرة على الفهم والاستيعاب ، خصوصا في البعد الصوفي ، لأن الخطاب هنا يحمل مرجعية وخصوصية مختلفة تماما عن باقي الخطابات والحوارات الأدبية العادية ، ناهيك عن لغة العلامة النفري التي كانت مقصديتها في القرن الرابع الهجري تبحر في الابهام والغموض والتشظي ، من أجل التستر بها ، وعدم الإفصاح بما يخالج المتصوفين من مواقف ومبادى وطروحات ، خصوصا بعدما كان مآل المتصوفين في القرن الثالث من تكفير و تنكيل وصلب وحرق حد الموت ، مثلما وقع للحلاج وكثير ممن كان في فلكه . لذلك فهي لغة صعبة تحتاج إلى كثير من التأمل والتأويل والمعرفة اللغوية .
مسرحية رماد أمجاد… وزمن القطيعة مع حكم الاندلس
هو النص الثاني من هذا الكتاب ، ويختلف اختلافا كليا عن النص الأول ( كدت أراه ) سواء من حيث مضمونه أو من حيث شكله ولغته ، وقد استلهم الزروالي فيه شخصية أبي عبد الله الصغير ( 1460 ـ 1527) آخر ملوك الطوائف بالأندلس وحاكم غرناطة في فترتين مختلفتين الأولى ( 1482 ـ1483) والثانية ( 1486 ـ 1492 ) بحيث سلم مفاتيح الأندلس لفيرناندو وايزابيلا يوم 2 يناير 1492 بعدما انهزم في غزو قشتالة نهاية حكمه الأول وسجن ولم يطلق سراحه إلا بعد أن ابرام اتفاقية سرية معه بموجبها تفكيك الجيش ونزع السلاح ثم الانساب من الاندلس والخروج منها ، وبذلك انهار الحضور العربي ، ومن بقي هناك خضع للإهانة والتقتيل ومحاكم التفتيش.
وتشير كتب التاريخ إلى أن أبا عبد الله الصغير كان جبانا ولم تكن لديه خبرة في أمور السياسة، ولا يهتم بالرعية ، وكان يعيش حياة البذخ والترف والمجون ، كما يشير الدارسون الى أنه حين سلم مفاتيح الاندلس لفيرناندو عاد الى أمه حزينا باكيا ، فوبخته أمه وقالت له قولتها الشهيرة : ( ابكِ كالنساء مُلكا لم تحافظ عليه كالرجال )
غادر أبو عبدالله الصغير الاندلس الى مدينة فاس المغربية وبقي فيها الى أن وافته المنية عن عمر ناهز خمسا وسبعين سنة .
وبعودتنا الى هذه المسرحية ، فعبد الحق الزروالي قد استلهم روح فكرتها عن المخطوط القرمزي .. ويوميات أبي عبد الله الصغير لـ ( أنطونيوكالا ) اذ لم يتوقف عند سقوط الاندلس ولا عن الصراع العربي الأجنبي ولا عن الصراع الإسلامي اليهودي من جهة والمسيحي الصليبي من جهة ثانية ، بل تبدا المسرحية حين دخول أبي عبد الله الى فاس مستسلما مقهورا مكسور الجناح مستنجدا ملك المغرب :
( مولاي
قصدت أرضك .. فاس .. يا إدريس الأزهر
مولاي
الراس ضاق بما فيه .. والقلب يكاد أن ينشطر ..
مولاي
لا تعاتب علي أشياء قد قدرت .. وخُطً مسطورُها في اللوح بالقلم )
تبدأ المسرحية بهذه الشخصية المحورية وهي تتحلق وسط جموع من أهل فاس تستنجدهم طالبة منهم الصدقة وقليلا من المال ، سيما وأنه غريب وعابر سبيل ، فيبدأ البوح ممزوجا بالحسرة أحيانا ، وبالألم والندم كلما أخذ يستحضر ما وقع ، فيشرع في استرجاع شريط النكسة التي ألمت به :
(هذا كل ما تبقى منك يا أبا عبد الله الصغير ..
جسد بلا قلب … وذاكرة مثقوبة …
عجبا
من الزربية ولحرير … للحصير والقصدير
هكذا ؟ لا بلاد .. لا زاد .. لا عتاد
آه يا نفسي المحصورة )
يقوم الصراع في مسرحية رماد أمجاد على توزع السلط بين عبدالله الصغير ومجموعة من الشخصيات الرئيسية التي عاشت معه في بيته ومحيطه حين كان ملكا على الاندلس ، وعن طريق استرجاعها يتوقف عبدالله الصغير عند كل محطة اثرت في مسار واقع النكبة التي غيرت مسار الوجود العربي في شبه الجزيرة الايبيرية وقطعت الصلة بهذه الأرض التي عاشوا فيها أبا عن جد لمدة اكثر من 500 سنة.
إن عبد الله الصغير الذي كان بالأمس القريب خائفا جبانا مستسلما في الأندلس، سينتفض هذه المرة على نفسه في فاس ، وسيخرج عن صمته ، فيبوح بما في جعبته من قضايا متخمة بالجراح ومشبعة بالمحن ، من هموم وشجون ، لكن انتفاضته هذه ما هي إلا تبرير لموقف مخذول .
وزع عبد الحق الزروالي محاورة أبي عبد الله الصغير في حلقة فاس بالتدرج على كثير من الشخصيات من أجل تطوير الأحداث ، وتأجيج الصراع ، وتثوير الفعل الدرامي ، فاختار في هذه المحاورة الشخصيات التالية
ـ أبو عبد الله الصغير مع أمه فتحرضه ضد أبيه حاكم قشتالة والا يتبعه في مخططاته الفاشلة وتنصحه بالزواج من مريم ابنة القائد الأكبر علي العطار .
ـ أبو عبد الله الصغير مع زوجته مريم وما كان يجمعهما من حب وتقدير ونبل
ـ أبو عبد الله الصغير مع البستاني الحكيم الذي كان يعلمه ويرشده في الحرب والسلم
ـ أبو عبد الله الصغير مع عمه الطيب يوسف البدين الأكول وما دار بينهما حول الهوية والتعدد في الاندلس
ـ أبو عبد الله الصغير مع مدينة غرناطة بأجوائها وانسابها وسلالاتها والتعدد العرقي فيها
ـ أبو عبد الله الصغير مع أبيه ومناقشة قضايا الحرب في مواجهة الأعداء والتمرد على الاسبان
ـ أبو عبد الله الصغير و مع أبي القاسم المكلف بتربيته السياسية وتوجيهه للحياة مع الناس والرعية
ـ أبو عبد الله الصغير مع الغلام منجب والعلاقة الخارجة عن السياق المألوف وما آل اليه ذلك من مأساة في اغتيال هذا الفتى
ـ أبو عبد الله الصغير مع نفسه في صراع داخلي يبوح فيه باعترافاته وبالفشل الذي رافقه والانهزام الذي أدى به الى الخروج النهائي للعرب والاجناس غير المسيحية من بلاد الاندلس الى المغرب وامريكا .
فكم كنت أتمنى أن ينسج حوارا مع لفيرناندو أو مع ايزابيلا حين استسلم لهما في آخر يوم من حكمه ، وكيف وقع الاتفاقية السرية ؟ ، وكيف كانت حالته حين سلم الحكم ؟
غير أن اهم مشهد قوي ورهيب في المسرحية هو ذاك الذي عبر فيه البطل أبو عبدالله عن صورة مأساوية مستفزة تبرز احساسه بالذنب فيتمنى من الله أن يعجل له بالموت فيبوح لأمه بخطر ما قام :
( ماه … أماه
هي ذي مفاتيح غرناطة
علي أن أسلمها إلى الملك فرناندو الهمام .. وأن أقبل يَدَه مُكرها .. قبل .. أن أغادر المقام ..
هذا ما تنص عليه .. اتفاقية .. السلام
عفوا أماه … أقصد … قرار الاستسلام
لقد هَزُلت
نزعت عني الأوسمة
ويدي ترتجف
ثم رأيت .. لسوء ما رأيت
رايات النصارى في سماء غرناطة ترفرف )
لقد انتهت المسرحية من حيت ابتدأت بنفس المشهد ونفس الحوار ونفس الاستجداء بحيث أن أبا عبد الله الصغير وسط حلقة من جموع الناس يطلب منهم أن يتصدقوا عليه بصدقة ، وعن طريق الفلاش باك تأخذ حكايا هذا البطل تتناسل بالبوح عما وقع .. فهل ما يقوم به هو الاعتراف بالذنب وطلب للعفو ؟ ـ أم من أجل أخذ العبرة من التاريخ ؟ ـ أم أنه تفريغ بما في جعبته للتنفيس عما يحمل من هموم ومآسي .
وختاما يمكن القول إن هاتين المسرحيتين جديران بالقراءة والمشاهدة لأن الفنان عبد الحق الزروالي اجتهد كثيرا في بناء مآسي أحداثها واستطاع يتناول من خلالهما مسرحا يبحث في تيمات خاصة مستلهمة من تاريخ واقنا العربي لكن بكثير من التأثير والتفاعل والتجاذب.
إنها متعة القراءة في أبلغ صورها ، فشكرا لمبدعنا عبد الحق الزروالي على هذا الاختيار وعلى هذه المغامرة المسائلة في الكتابة .
د. عبد اللطيف ندير