في الأدب لا يجد الكاتب نفسه مقيداً بالزمن وبحجم مؤلفه أما في السينما فإن الوقت المسموح به للمخرج لأجل عرض الفلم محدد بقوانين التحسس البصري، فالقارئ يطالع ويفكر ويعيد القراءة أما المتفرج فيجب عليه أن يفهم ويشعر في ساعة ونصف أو أكثر دون أن تكون له فترة للتأمل، لهذا فإن التحديد الصارم من حيث الزمن يجبره على البحث عن شكل لأجل الفلم يتطلب التفكير بالمصدر الأدبي(1) .
لقد ظلت هذه العقدة تواكب السينما منذ بداياتها حين اعتمدت الرواية كمادة لبناء الفلم السينمائي حاولت فيها الاحتفاظ بشكلها الجديد عبر تتابع الشخصيات والمشاهد لتفرض لوناً من التغريب في الفن البصريّ بعد عمليات النقل والاقتباس، فكان لابد من ظهور التباين الحاد بين الرواية كمفردات لغوية وبين الرواية كصورة حية ..
وقد استطاع ـ يونغ ـ أن يميز إلى حد كبير بين نوعين من الخلق الأدبي ـ الأدب السايكولوجي وأدب الرؤيا وهذا ما لم نجده في الرواية بل في الشعر، فعلى سبيل المثال: أن دراما فاوست تختلف في جزئيها الأول والثاني من خلال هذا الاعتقاد لأن الشاعر الكبير هو الذي يخلق في حالة اليقظة ما لا يخلقه الآخرون أثناء النوم !
وقد ظل القراء سنوات طويلة يختزنون نماذجهم التخيلية عن الروايات والقصص التي اطلعوا عليها ولكن عندما شاهدوا تلك الروايات كأفلام سينمائية مجسمة كان لابد من الاصطدام بين الأفكار والأخيلة ..
فروايات.. مثل ( الحرب والسلام ومرتفعات ويذرنج وتاراس بولبا وموبي ديك والأخوة كرامازوف وغاتسبي العظيم و نانا والرسالة والمحاكمة و الأرض و لمن تقرع الأجراس وعمر المختار ومدام بوفاري و البؤساء ووداعاً للسلاح و الأمير الصغير و أوليفر تويست وزوربا وهيروشيما حبيبي و ظلام في النهار و موت في البندقية والحرام و الغريب ودورة اللولب وعشيق الليدي تشاترلي وذهب مع الريح والحب الأول وغادة الكاميليا ) قد أوقعت الكثير من التفاوت بين أصل الرواية وبين شكلها السينمائي وما وقع للقراء كان لابد من وقوعه للروائيين أنفسهم لأن صعوبة التعبير عن الافكار ظلت من أكبر المشاكل التي واجهت السينما، ورغم ان اختراع الصوت كان ميزة كبيرة لصانع الفلم لأنه استطاع مع اللغة المنطوقة أن يعبر عن نفوسنا فالمشكلة الحقيقية كما يراها ـ الكساندر استروك ـ بالنسبة للمعد ليس في كيفية إعادة إنتاج المضمون للعمل الادبي ( المستحيل ) ولكن في كيفية البقاء قريباً من المعلومات الخام لمادة مضمونة بالمعنى الذي نستخدمه في هذا الفعل .
فالنصوص المفعمة بالتفصيلات نادراً ما تقدّم لنا إحساساً بالميزانسين وهو من أهم طرق التعبير التي في متناول يد المخرج كما لا توفر النصوص السينمائية قراءة ممتعة بالذات لأنها مجرد خريطة أو مؤشر للانتاج السينمائي يفتقد الكثير ، بخلاف النص المسرحي الذي يمكن قراءته قراءة ممتعة .
فالواقع السينمائي ليس نسخة مصورة عن الواقع الموضوعي والذي لا يمت إلى الواقعية بدلالتها الاصطلاحية لأن ما صوّرته السينما هو مجموعة من تفاصيل الواقع المنظورة عبر فتحة عدسة الكاميرا السينمائية وهي بهذا لم تقدم الواقع الموضوعي إنما قدمت واقعاً سينمائياً مفارقاً للواقع الأول.(2) فكلمة السينما توحي لنا بمعنى مختلف تماماً عن كلمة الأدب ويعود ذلك برأي ـ ماري كلير ـ إلى فشل العديد من الافلام التي التزمت تماماً بالنص الادبي لأن السينما عمل يسجل الواقع وهو عمل وفن مبدع وخلاّق وإذا سجل بطريقة سلبية فقد يفقد معناه، أما إذا اعتبرنا الفلم وسيلة لنقل المعلومات فلنا ان نربطه بشخصية المخرج وقدرته على التعبير لأن للسينما تأثير أدبي حين تجعل من العمل السينمائي وحدة متكاملة وحساسة إلا انها لا تحوّله إلى خطاب أو قصة.
أما ـ فرجينيا وولف ـ فترى بأن الفلم الذي قد تتوافر له أعداد لا تحصى من الرموز المعبّرة عن العواطف التي يصعب التعبير عنها بالكلمات فكان لها أن تتجنب ذلك .
( هتف الفنان سموكتولوفسكي ـ الذي مثّل شخصية يوري بتروفتش ـ في الأخوة كرامازوف بفزع : التمثيل هنا صعب جداً ، فهنا كل شيء صعب ومرعب مثل الحياة ! ) .
إن فلم الاخوة كرامازوف لم يكن استعراضاً للالبسة والكومبارس بل استعراض للمشاعر البشرية المتأججة لأن فيدور كازاماروف كان وسواس دستوفيسكي نفسه، وكلما كانت الصفات الادبية للنص هامة وحاسمة قلب الالتباس توازن النص وتطلّب مهارة خلاقة لإعادة البناء طبق الاصل، ولكنه اقتباس متساو مع التوازن القديم .
فاختيار النص كان يتحدد ذاتياً في العالم الذي صوّره دستوفيسكي، منتزعاً من الذات الإنسانية خلجاتها القلقة لأن عملية نقل الباطن إلى الفلم تحتاج إلى صورة تكبيرية عليها ان تحيل الرؤيا الادبية إلى رؤيا مرئية بإمكان المشاهد ان يتحسسها، وهذا لا يمكن مباشرته من غير لغة سينمائية معمقة وقابلية على التحور ومن غير الاحساس بالدور الذي هو ما يمكن الوثوق به .
إن إعادة خلق الرواية في السينما وما اختلقته من تضاد في الرأي يجعل من الصعوبة الوصول إلى نهاية أو شكل مقبول لأن حقيقة الرواية كما يصورها ـ البريس ـ ليست هي في الرسم وليست في الموضوع وإنما في الأسلوب، وبهذا لا يمكن مواجهة الاسهاب الظاهر في اسلوب فكتور هيجو وبلزاك وتولستوي .. لأن ذلك يتعارض والحركة السينمائية للصورة، حيث أن أقوى اللحظات تأثيراً في الفلم هي تلك اللحظات التي يفترض أن النص يقول فيها نفس ما تقوله الصورة ! .. ومثل هذا التفاوت أبعد الاسس التي يقوم عليها الجدل حيث لا يمكن تقديم صيغ منفردة استمدت كافتراضات، لأن التباين والتباعد في الرواية المكتوبة وحتى التي تكون أصدق العمليات نقلا للأصل لأن تخرج بشكل فني آخر .
وفي محاولة ـ وارن ـ تقديم رواية تشارلز ديكنز ( اوليفر تويست) كمعادلة موضوعية للنقل الحرفي حتى يمايز بين القراءة والصورة، جرّب ـ ديفيد لين ـ ( مخرج دكتور زيفاجو وجسر على نهر كواي ) أخراج الرواية للسينما فولّدت شعوراً جمالياً مختلفاً كل الاختلاف عن الشعور الذي كانت تولده الرواية الاصلية، لأن وسيلة الاتصال الجماهيري ـ اللغة ـ كانت مختلفة (لأن لاحداهما لغة ادبية تقوم على الهجائية و الثانية سمعية مرئية ) ..
( كان – أوليفر تويست- يسير في ظلمة حالكة يعرج قليلاً ويستبد به فزع غير محدد .. الظلمة كثيفة وأبراج الكنيسة مقعية مثل طيور غريبة وأصوات أنين قادمة في رعب … )
إن ( ديفيد لين ) لم يستطع التخلص من الفكرة التي تسلطت عليه وهي تسجيل أعمال ـ شارلس ديكنز ـ بأمانة وكان على أندريه بازان ان يقول _ لا يجب أن نرحم ناقلي الصور الذين يعيدون السينما عن طريق التبسيط والاختصار لأن خياناتهم نسبية، ولأن الادب لا يفقد من جرائها شيئاً فالسينما هي التي تصنع لكل شيء مستوى، أما اختلاف البناء الجمالي والذي يجعل البحث عن موطن التقارب والمساواة في القيمة أمراً دقيقاً وحاسماً لكون الاختلافات البنائية تتطلب مزيداً من الابتكار والجمال من جانب رجل السينما الذي يسعى للمشابهة وبذلك نستطيع أن نقرر بأن الخلق السينمائي في مجال اللغة والاسلوب يتناسب تناسباً مباشراً مع الأمانة في النقل. (3)
أما الروائي ( أندريه مالرو ) فيرى أن الحوار في الرواية هو الذي يخدم كل شيء لأنه يرسم الشخصيات!، وبما أن الفلم هو الذي يحاول استخدام الحوار في أضيق حدود .. فلأن أهميته أقل، لأن الممثل هو الذي يعطي للشخصية وجوداً مادياً ..
ومثل هذا الحوار وكما يصفه كل فنان لا يمكن أن توضع له قواعد، لأنه موحٍ درامي يتعطل فجأة عن كل شيء كما هو عند دستويفسكي أو يرتبط بالكون كما هو عند تولستوي وهو عند كل روائي وسيلة رئيسية للتأثير على القارئ .. فالمخرج السينمائي دائماً ما يتقدم على الحوار بعد مقاطع من الصمت الروائي وبعد مقاطع من السرد وهي الإمكانية المتاحة لجعل المشهد ملموساً .. ومثل هذا الحوار هو أحد المصادر التي تبنى عليها الصورة .
وفي فلم ( الأرض الاسبانية ) المستل من رواية لمارلو التي أخرجها ( جوريس ايفانز ) بعد أن تأثر بآراء- جون دوس باسوس وليليان هيلمان ,,كما ذكر -موريس شومان-بأن- مالرو -العبقري قد ربط مأساة اسبانيا بصمت الطبيعة وإيقاع العالم بتراجيديا الشعب، إلا ان الفلم فشل فاعتقد –مالرو- بان السبب يعود لأن السينما قد تجاوزت جهود التصوير الباروكي الذي يوحي بالحركة، فالديناميكية المعقودة هنا هي الاحاسيس والمخيلة والحركة وان السينما قد استطاعت ان تؤدي هذه المهمة حين سيطرت على التعويض في الصورة شكلياً .
ثم استمر- مالرو- يؤكد على ان للفلم لغة عالمية وحتى لا تخدعنا القسوة الايحائية للصورة التي لا علاقة لها بخلق الواقع باعتبارها قوة كبيرة .
ان تراجع –مالرو- يعود إلى علاقته الماضية بالسينما والتي كانت بالنسبة له أنبهار ثم خيبة .. وهذا ما جعل معتقداته تتراجع إلى حد ما ..
ولو أخذنا رواية أخرى مثل –المحاكمة- لفرانز كافكا ـ فقد نصطدم بالموقف الذي اتخذه (جيرار بونولا ) عندما قال بأن -اورسون ويلز- قد اتبع بعناد مزعج بعض الشيء هواجسه الخاصة دون ان يعرف بأنه لم يبق عنده من العمل الكبير سوى حطام خالي وركام .
لقد حاول- ويلز, في المحاكمة ان يرى في الرواية ما لم يره –كافكا- نفسه عندما استخلص النص الفكري منها فجاء الفلم كما شاهده ( جي غوتيه ) ـ خيانة لكافكا ، كذلك عنْوَنَ- برنار دورت- مقالته عن الفلم بالمحاكمة أو الرهان المستحيل دون ان يقلل من شأن –ويلز- إلا انه أطلق على الفلم حكماً صارخاً :”ان ميتافيزيقية كرتونية حلّت محل فكر- فرانز كافكا- الوحيد والفريد” .
إننا وعندما نشاهد فيلم ـ المحاكمة ـ فليس كتاب- كافكا – هو ما يأتي مباشرة إلى أذهاننا حتى لو كنا نعرف الكتاب ونقدره ونعجب به أيضاً بل ان ما يراود أذهاننا أفلام –ويلز- الأخرى وفي مقدمتها ـ الظمأ إلى الشر ـ .
فالمعضلات المطروحة عديدة ومعقدة وكأن -كافكا وويلز متفقين -على أمر ، هو اتفاقهما على عدم الانطلاق من الافكار لأن كافكا ينطلق من الأفكار أما ويلز فينطلق من الصورة ، وبذلك يفسر ـ دورت ـ بأن الدلالة لا تكمن على مستوى تسلسل الأحداث وإنما على مستوى كتابة كافكا نفسها ، ولا نرى بأن ويلز قد أخفق عندما اختار ـ للفلم – انطوني بيركنز وجان مورا ـ- لأن كل منهما أعطى للدور أكثر مما نتخيله وجعل الرواية مفهومة إلى حدّ ما ! .
وقد استغل ـ ويلز ـ تجربته الاذاعية في السينما ففي فلم -أسرة أمبرسون- صوّر عدة متكلمين من لقطات قريبة أعطت انطباعاً بأن المدينة كلها تتكلم، وقد عرف المتفرج ذلك بفعل الأصوات والهمهمة المنطلقة، بينما تركز ذلك في المحاكمة على الركض السريع الذي فعله ـ بيركز عندما صوّرته اللقطة في قاعة فسيحة لا متناهية، وكذلك فعلت مشاهد العمارة في الليل وقد تناثرت الأضواء الباهتة لتوحي بغرابة العالم المجهول، فالمحاكمة انما هي نقد لإساءة السلطة، وان المتهم هنا انما ينتمي إلى مجتمع مذنب يتعاون معه، وكان .. ك .. قد ظهر في كتاب -كافكا أكثر سلبية مما في الفلم، وهو ما أراد ويلز تأكيده إذ لا مكان للشخصية السلبية في الدراما. وحتى تثير هذه الشخصية الاهتمام عليها أن تفعل شيئاً .. ، فقد كان-كافكا يريد أن يصور دراما الانسان المحبوس وسط عوالم الانحياز والخوف، وكان يرى بأن الرواية هي طراز التعبير الوحيد والممكن، إلا ان ويلز قلب المعادلة فهناك أفكار كما تلمّح سيمون دي بوفوار لا يمكن التعبير عنها قطعياً دون الوقوع في التناقض، كما يذكر –هوتشنر- في كتابه ( بابا همنغواي ) ان الروائي الكبير لم يتحمل غير خمس وثلاثين دقيقة من مشاهدته لفلم ( وداعاً للسلاح ) الذي أنتجه- د . هـ . سلزنيك- خرج بعدها من السينما وهو يقول لصديقه ( بعد ان تكتب كتاباً مثل هذا وتظل مغرماً به طوال هذه السنين ثم تراهم يفعلون به هكذا، انه كما لو كنت تعمل على تدنيس القدح الذي يشرب منه والدك ! ) ..
قد نتوهم بأن الروائي- همنغواي- قد اعترض لما حف بروايته من تغيير أو لأن الممثلة -جنيفر جونس- كانت اكبر عمراً أو لم تتناسب وحقيقة ( أغنس فون كورفسكي ) التي قدمت تحت اسم (كاترين بيركلي)، ولكن من متابعة حياة- أرنست همنغواي- ومن رواياته التي مثلت للسينما (لمن تدق الاجراس و لاتزال الشمس تشرق و ثلوج كليمنجارو والشيخ والبحر… ) نراه مثل غيره من الادباء متشككاً من إمكانية السينما في التعبير عن رؤياه ولم يعط رأياً قاطعاً إلا حول بعض قصصه القصيرة التي أخرج منها – روبرت ماليجان ـ فلم- نيك آدامز- إذ قال له ( لقد وضعتها على الشاشة بمثل ما كتبته انا على الورق ! ) ..
ان البحث عن ذات الكاتب وتخيّل ما يدور في ذهنه بعد رسمه للشخصية الروائية على الورق تصبح مهمة في غاية الدقة والصعوبة لأن الشكل البصري الذي يراه مرسوماً على الشريط السينمائي يؤدي به دائماً إلى نوع من الإخفاق والشك، لأن الصورة السينمائية مهما كانت دقيقة ومؤثرة لن تصل إلى الشكل الذي اختلقه في روايته ولهذا تبقى مسألة الصورة والكلمة في الظل .
وكما نحس بأن الروائيين لا يستطيعون التخلي عن أفكارهم لذلك لا يمكنهم الايمان بالتحول لن التطابق يصبح مستحيلاً ولا يتوافق إلا عندما يطبق عليهم مبدأ –غودا-ـ الساخر من ذلك : – إذا أراد أحد أن يجعل من الكتاب فلماً سينمائياً فما عليه إلا ان يطلب من أحد الأشخاص أن يقف أمام الكاميرا!! ..
فالسينما كما يراها -فرانسوا تريفو- عليها أن تقدم عملاً مثل الروائي وبشكل أكثر جودة لأن كلمة سينما توحي لنا بمعنى مختلف عن كلمة أدب، وسبب ذلك يعود إلى فشل العديد من الأفلام التي التزمت بالنص الروائي؛ لأن العلاقة بين السينما والأدب لم تكن ذات طريق واحد، وحتى يمكن للسينما ان تشبع القواعد الروائية لابد لها أن تشبع قواعد ومستلزمات المشهد لأنها كتابة وكتابة ذات ألفاظ تشكل علامة المشاهدة عند جان ميتري .
وعندما نأخذ فلم ( الأمير الصغير ).. لأنطوان دي سانت أكسوبري… الذي حاول من خلاله المخرج السينمائي ـ دونان ـ أن يجسد القصة الخرافية، نحس بأن- دونان- استعمل الرمز إلا انه لم يكن مكتوباً كعلامات وانما هو ملامح الطبيعة التي رسمها من الجو وكانت أكثر تقارباً مع ( أرض البشر و طيران الليل وبريد الجنوب)، فقدرة -كسوبري الخلاقة كانت تزداد صعوبة في التعبير السينمائي لأن تحويل الكلمة الشعرية إلى شكل قد لا يشبع عقل الإنسان المتخيل ..!! الزهرة والثعلب والحية وعامل القطار والملك والجغرافي ..!
_ قالت الحية : إنه لكوكب جميل , لكن قل لي ما جاء بك إلى هنا ..؟
_ قال : أنا على اختلاف مع زهرة ..
فتعجبت الحية ولزما الصمت زمناً ثم قال الأمير الصغير ..
_ إنكِ لحيوان غريب عجيب تشبهين في نحافتك إصبع اليد ..
_ قالت : غير أني أشدّ بطشاً من إصبع الملوك ..
فابتسم الأمير وقال :
لا أراك على ما تدعين من القوة والبطش فلا قوائم لك ولا تستطيعين الرحلة من مكان إلى آخر …
قالت : في طاقتي أن أحملك إلى مكان لا تستطيع البواخر بلوغه , فإذا لمست أحداً رددته إلى التراب الذي خرج منه غير أنك طاهر القلب وقد هبطت علينا من إحدى النجوم ..!
عندما نسمع حوارات تقطر عطراً وفيها ذلك الحس الشعري الذي تعجز آلة التصوير .. وحتى الخيال أن يصل إليه .. لأن تحوّل الكلمات إلى صور تعبيرية يدفعنا للتأمل فكيف يمكن للمخرج أن يحوّل الخيال الخرافي إلى صور وحركة ..؟ إن- يوبالاشوف- يرى بأن عصرنا يقف شاهداً على أزمة الفن، فليست الأزمة أزمة أحكام ومقاييس أكثر مما هي أزمة تعبير ، أما مضمون الفن وجوهره الحقيقيين فهما المضمون الباطني، فإذا كان المضمون الظاهر مرتبطاً بفكرة مشخصة أو خبر ينقل خلال السيناريو والحوار أو التصوير فإن المضمون الباطني والذي هو نوع من اللون الذي يفرض أسلوب الفلم بأبعاده على المشاهد عن طريق التقاط الصورة مثلاً أو الإضاءة وحركة آلة التصوير والموسيقى ! .. ومن أجل أن يحقق _ دونان _ إقتراباً من حقيقة الرواية كان له أن يبحث عن حية حقيقية وصحراء ويبحث عن أمير صغير كما رسمه- أكسوبري وكما كوّنه فكرنا خلال الرواية وخلال بحثه عن تلك الشخصية استطاع أن يجد- ستيفن وارنر ( 6 سنوات ) ليحل محل الأمير لأن المقابل السينمائي لصوت الرواية في الأدب هو عين الكاميرا والفرق اكثر وضوحاً بين الراوي والمتلقي , أما في الفلم فيقرن المشاهد نفسه بشخصية العدسة حتى يمتزج ذلك بالراوي .
وفي -الأمير الصغير-يأخذ الراوية العالم بكل شيء نفسه لأن مثل هؤلاء لا يشتركون في القصة إنما يكونون مراقبين ملمين بكل شيء كما وقع ذلك في -الحرب والسلام وتوم جونز -.
وفي الأدب نجد الشخص الأول والراوي العارف بكل شيء ـ النموذجين المتبادلين الوحيدين، فالراوي يخبرنا عن أفكاره ولا يستطيع إخبارنا عن الآخرين، اما في السينما فنجد الجميع بين الشخص الأول والراوية العارف بكل شيء شائع كلما حرّك المخرج آلة التصوير ضمن اللقطة أو بين اللقطاتز. (4)
إن الكلمات والتحليلات لتعجز دائماً عن إعطاء صورة نهائية لما يؤول التحليل فيه لأن السينما بوصفها إنجازاً تقنياً قد نشأت مستقلة عن غيرها من الفنون الأخرى وهو ما دفعها للإتكاء على المسرح والأدب لحين ظهورها وبما أن الحاجة إلى السينما في البدء كانت عملية فإنها مكنت علماء الفيزياء من دراسة الحركة فبينما الكاتب يخاطب الذهن من خلال تأثيث المشاهد تخاطب السينما العين,(5)
إن أفلاماً مثل -هيروشيما حبيبي والسنة الأخيرة في مارنباد وإمبراطورية الشمس وراشامون والعالم عام 1984- ما كان لها أن تأخذ مكانتها لولا ذلك التمازج التعبيري بين الكلمة والصورة رغم تفاوت الإخراج وإلا اعتبرت السينما عملية نسخ للرواية ..
الهوامش :
(1) : السينما والأدب ـ الدكتورة جوليانا يوسف ـ خالد السلطان ـ آفاق عربية ـ العدد 4 ـ تموز /آب 1997 .
ـ ماهي السينما ـ أندريه بازان .
ـ فهم السينما ـ لوي دي جانيتي .
ـ خطاب العين والذاكرة ـ محمود بلوش .
(2): السينما والأدب ـ الدكتورة جوليانا يوسف ـ خالد السلطان ـ آفاق عربية ـ العدد 4 ـ تموز /آب 1997 (3): ماهي السينما ـ أندريه بازان .
(4): فهم السينما ـ لوي دي جانيتي .
(5) خطاب العين والذاكرة ـ محمود بلوش .
ـ الثقافة والاشتراكية ـ الكسندر زارخي .
** احسان وفيق السامرائي (البصرة/ العراق)