كيف قرأت كريمة بدير سيرة عنترة حداثياً!
“هذا عرض يستحق أن يُصدر بفخر إلى دول العالم المتقدمة مسرحياً (أمريكا وأوربا على وجه التحديد) ويُعرض وبجدارة على مسارحها الكبيرة، ليؤكد بأن لدينا طاقات فنية متفردة لا تقلد، وإنما تُبدع من خلال تاريخها وتراثها وذوقها الخاص”
وطن يضيق بساكنيه
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
لازالت صحراء نجد ووهادها ورمالها تردد ماردده عنترة على مسامع عبلة منذ مئات السنين: هل غادر الشعراء من متردمِ أم هل عرفت الدار بعد توهمِ، فيتردد صداها ليذكرنا بتلك القصة الخالدة التي تقترب من الأساطير لولا تلك المعلقة التي وصلتنا، لتبيان ذلك العشق المتقد الذي لا زلنا نراه مستحيلا في هذا العصر، مؤكدة على وطن عربي كبير، كان ولازال وبوعي جمعي – تقريبا- يضيق بعشاقه وساكنيه.
من حكاية العشق تلك نسجت المخرجة/ الكوريوغراف (كريمة بدير) لعبتها المسرحية، التي حاولت هذه المرة أن تُعلي فيها من شأن الجانب الدرامي، بدرجة أعلى من أعمالها السابقة (التي شاهدتها على الأقل)، لتلعب على مستويين؛ الأول:على وتر الحكاية الخيالية النابعة من كاتبها في زمننا الحالي، والمستوى الثاني:المتمثل في الحكاية الحقيقية في زمنها الماضي، الى أن يختلط الخيال بالحقيقة في نهاية العمل.
تكنيك: الاختناق!
من عمق خيمة تلتهم الصحراء بشخوصها وحكاياتها تنطلق السيرة العنترية لتمر بكل المأساة التي مر بها عنترة للوصول إلى قلب عبلة.. نصبت الخيمة التي قُدت من نور( صمم الإضاءة رضا ابراهيم ) يتدرج بجمال ساحر من الأصفر رمز الغيرة وصولا إلى البرتقالي الذي يدل على الحب والدفء، فالبرتقالي المُحْمِر الذي ينز عن العشق المشتعل وعالم عنترة وعبلة المليء بالأسرار والصراعات والفتن.
منذ المشهد الأول، تكتب المخرجة أول علاماتها الذكية المقصودة بعمق من خلال تكنيك الديكور(صممه أنيس اسماعيل) لخيمة / عالم يخنق شخوصه، ويضغط عليهم ويكبسهم تحت معصرة الصراع، بحيث تستوي الخيمة / الملاذ/ الوطن، وتتحول إلى مكان للخنق وكبت المشاعر، حيث تمارس (الخيمة) سطوتها القبلية والعنصرية على الجميع، لا تستثني أحداً، فما بالنا برجل أسود اللون تجرأ على عشق بنت سيد القبيلة وزينة بناتها.
منذ البداية، تشكل شوايات الحديد المتدلية من سقف المسرح، والخيمة بنزولها المقارب لخشبة المسرح/ الصحراء، العالم القامع للحرية والحب والمشاعر، في صورة جمالية بصرية تمثلها خلفية لصحراء ليس فيها سوى الرمال والسراب والضياع.
من جانب آخر فني، شكلت الشوايات حالة من الكشف (الفني) تماشت تماماً مع وجود شخصية الكاتب/الراوي، والنهاية التي تمازج فيها الواقع القديم بالخيال الآني، ضمن تقنيات مدروسة لكسر الإيهام.
تبدأ الحركة بضربات السوط المتكررة ضمن إيقاع واحد يبعث على الاستفزاز، ويدل على استمرار هذا الوضع، ويصر بشكل مقصود على إيقاظ المتلقي الذي يترقب حكاية عشق تجمع بين حبيبين، بأن استيقظ من أحلامك، فالسيد سيد والعبد عبد.
ملابس مبهجة في حدث مأساوي!
بتفجير لوني يموج بجمال ساحر على خشبة المسرح، ويدخلنا في حالة بهجة – رغم المأساة – تخاطب المخرجة رفقة مصمم الديكور والملابس( أنيس اسماعيل) متلقي العرض بصور بصرية غاية في السحر والجمال، لترسل إشارات مفادها أن لا تنخدعوا بكل تلك الألوان الأخاذة التي ترسل إشارتها للمتلقي من خلال ملابس مبهجة فخمة، بل أقرؤوا دواخلها بعمق وتجاوزوا عن السطح، فخلف تلك الألوان وجمالها يكمن قبح النفوس وبشاعة زيفها، في حين تُبقي عنترة في زي مهلهل خال من الجمال لتؤكد على أن النقاء لا يكمن في الشكل وإنما بما تحمله الروح من عفة وصدق وحب حقيقي.
نجد ذلك في الكثير من العلامات التي حملها العرض فشخصية سمية (أدت دورها باقتدار عال- دنيا محمد) رغم جمالها وجمال ملابسها وخفة حركتها وليونتها وطيبها الظاهري، إلا أن داخلها تكمن أفعى تلدغ حين لا تنال مآربها ونزواتها، دون أن تقدمها بطريقة إباحية فجة، وعلى العكس من ذلك الجلاد (أدى دوره بحماس أشرف كوداك) الذي تضفي عليه ملابسه واكسسواراته وسوطه القسوة والرعب والعنف والسادية، لكنه يحمل قلبا رؤوفا يظهر حينما تدير القبيلة ظهره له، فيقبل على عنترة عطوفاً محباً رغم ما يوحي مظهره من شراسة وبغض.
وطن جاهلي وحداثي ؟!
ابتكرت كريمة بدير في هذا العرض رقصاتها التعبيرية / الأدائية بشكل زخرفي تزييني ليناسب تلك المرحلة محاولة خلق تزاوج بين ذلك العصر الجاهلي وحداثة عصرنا دون أن يطغى التركيب الحداثي الغربي على عرض يمتاز ببيئة شديدة الخصوصية، فظلت تقتنص من مفردات البيئة عناصرها كالنقاب والخلاخيل متحاشية الإغراق في العصرنة إلا إن كانت مقصودة (الكاتب / العروس) لصنع نوع من التضاد الحاد، وإن كنت أتمنى التدقيق أكثر في (القليل) من الإكسسوارت وأزياء الجنود التي تداخلت أحياناً في عصور أخرى.
حيل اخراجية!
حركت الكريوغراف مجاميعها المرنة – رغم تفاوت أجسادها– بطريقة استيعابية تبيح تلميحاتها دون أن تعلنها، صانعة من تلك الرقصات صوراً تشكيلية جمالية، بعضها اعتمد على الرقص الجماعي وهو مطلوب لتأكيد الكثير من المواقع الدرامية، كما أنه وسيلة/ حيلة يتخذها أي مخرج واع لمزج قدرات الراقصين، ما بين الأقل قدرة بالأعلى قدرة، لتشكل عنصراً واحداً ذو قوة وجمال لتفاوت القدرات الفردية، مما يجعل الكتلة الكبيرة المتحركة في آن واحد لا تظهر بعض الهنات الفردية، أما اختياراتها في الرقص التعبيري المنفرد فجاءت موفقة لمعرفتها بقدرات صانعيه ومؤديه مثل عنترة (قام بدوره باسم مجدي عزت) الذي عرف مواطن الضعف والقوة في شخصية عنترة فأسلب نفسه ليتابع حركاته التي تراوحت بين الكآبة التي توافقت مع وضعه كعبد مسلوب الإرادة بلباس بسيط، ووضعه عند محاولة التحرر والخروج من ربقة العبودية وصولاً إلى تحوله لحر منقوص الإرادة، مع قوة حركاته التي ظهرت بشكل خاص في مشهد الحرب (أحد أجمل المشاهد) الا أن المخرجة وبوعي مقصود حاولت أن تبتعد عن إظهار التسلط في تعبيراته الجسدية كي لا يمارس دور المقهور / الظالم، أو الضحية / الجاني، مؤكدة على ان الصبغة العاطفية في شخصيته التي أثرت بلا شك على الجانب العقلي المنظم لديه وأضعفته، وهذا ما قدمته في تعبيراته الأدائية المتراوحة بين الضعف والقوة.
اعتقدتها أخطأت ؟!
أما عبلة (قامت بدورها بمهارة فاطمة الشبراوي) والتي حين دخلت الخشبة اعتقدت – وأنا أراها بهيئة صغيرة – أن المخرجة قد أخطأت في اختيارها (تعودنا في الذاكرة الجمعية أن تكون عبلة مكتنزة وضخمة) لكن ما إن بدأت في أداء لفتتاها التعبيرية التصويرية وإيماءاتها بالتزام جمالي ومرونة جسدية عالية، حتى أدركتُ سر اختيار المخرجة لها لأداء شخصية عبلة، كونها تتمتع بقدرات تضاهي أية راقصة تعبيرية أجنبية بروح شرقية مغايرة.
كذلك الأمر مع العناصر الأدائية الأخرى مثل شيبوب (قام بدوره نادر جمال) وأظهر رشاقة عالية تجمع بين التعبير والأداء بسلاسة، ووالدة عنتر (نوران محمد)، وشداد (قام بدوره رضا رنجو)، ومالك (قام بدوره ابراهيم خالد، والملك النعمان (قام بدوره محمد هلال) وإن تحفظت على بعض من حركاته التي نحت باتجاه الأداء المرن والسريع بما لا يتناسب ووضعه الدرامي كملك.
جاء اختيار المقاطع الموسيقية (لأحمد ناصر) بروح عنيفة في كثير من المواقع بما يتناسب مع فكرة السيطرة والتسلط، وأجواء ناعمة أحياناً أخرى لتعكس مشاعر الحب والصراع بين القبيلة والقلب، لكنها استطاعت في أغلب الأحيان التزاوج مع العرض ومسايرته، مع بعض الحاجة للتخلص من (بعض) الموتيفات الموسيقية التي انزلقت (أحيانا) إلى الموسيقى الغربية خلافاً للجو الشرقي التراثي العام.
الشاعر والكاتب المسرحي محمد الزناتي
شاعران في عرض لشاعر!
أما بالنسبة للجانب الدرامي، والأشعار التي كتبها الشاعر والكاتب المسرحي محمد الزناتي، فيحسب له وبذكاء، عدم استغراقه بالحكاية على حساب الأداء التعبيري الذي جسده العرض براقصيه/ مؤديه، حيث لم تطغِ الحكاية لدى الزناتي على الأصل في عمل الفرقة التي تؤكد على الرقص التعبيري ضمن خط درامي بسيط. وإن كنت أرى أنه كان سيعلو بعمله أكثر لو استخدم واستفاد درامياً- بشكل أكبر- من أشعار عنترة فقط، حتى لا يجتمع شاعران في عرض يتناول سيرة شاعر، ليكون هناك مواءمة بين دور عنترة كفارس، بالإضافة لكونه أحد شعراء المعلقات العظام، صحيح أن الصور الشعرية لـ (الزناتي) كانت جميلة ومعبرة، ولكنها ستكون أكثر توفيقاً لو استخدمت مع بطل آخر غير عنترة الذي رسخ في ذاكرتنا كشاعرفحل.
عنترة يواجه جورج!
صحيح أن الحرية تنبع من دواخلنا لا يقيدها تراتب اجتماعي أو اقتصادي أو لون، لكن اللاعدالة تظل قائمة في كل العصور، ففي كل يوم يولد عنترة من جديد، حتى مع الحاضر الذي مثله شخصية المؤلف (أدى دوره بتميز أسامة فوزي) الذي عرف حدود دوره فلم يستعرض على حساب الجوهر الراقص للعمل، بل حاول أن يظل أميناً على الحكاية، حتى في لحظة التجلي حين رغب أو طمع- وإن في خياله – في عبلة وحوّلها– قصداً- إلى عروس من زمننا بملابس عصرية، ورأى في دواخله أن عنترة (الأسود) لا يستحقها، وأنه الأولى منه بها، فحاول انتزاعها منه، لتدور الدائرة عبر استمرار ذلك الطغيان في عالم يموج بالعنصرية، فمن خلال مشاهد إهانة عنترة، تذكرت تلك الصورة الحديثة التي مثـلها ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين عنترة جديد هو الأمريكي الأسود جورج(بن) فلويد (عنترة بن شداد الجديد) الذي سُحق تحت أقدام شرطة مينا بولس، إنها حتما العنصرية التي لن تنتهي، والتي أكدها العرض في جملة متكررة ” في كل يوم يولد عنترة من جديد”.
المخرجة كريمة بدير
مخرجة مبدعة وطاقات متفردة
عرض (سيرة عنترة) من تصميم وإخراج كريمة بدير، الذي قدم على خشبة مسرح الجمهورية ضمن عروض مهرجان المسرح القومي في دورته الـ 15، عرضٌ يستحق أن يصّدر بفخر إلى دول العالم المتقدمة مسرحياً (أمريكا وأوربا على وجه التحديد) ويعرض وبجدارة على مسارحها الكبيرة، ليؤكد بأن لدينا مخرجة مبدعة تتخطى حدود المحلية، وطاقات فنية متفردة لها أسلوبها الخاص، لا تقلد أو تستنسخ، وإنما تبدع من خلال تاريخها وتراثها وذوقها الخاص.