لا خلاف ان التجريب ليس هدفا في حد ذاته بل احد أدوات الطموح لتجاوز السائد في ظل ثقافة مشحونة بطاقة الاستشراف والتبصر والترقب ثقافة قادرة علي طرح التساؤلات عبر الفكر النقدي فهي ثقافه تمتلك امكانية ادراك قيمة التجريب والقدرة علي ابتكاره واستيعابه بخلق مساحات قبوله واستمراره وحمايته..
من نقطه حمايته يبدو لنا المخرج الحقيقي وهو الساعي نحو حماية فكرته بتخطي اي مشكلة ومضاعفة امكاناته،
فالمخرج المسرحي الجاد لا يقاس تقدمه بدرجة انفتاحه علي التغير بل بمدي إيقاع الاستجابة للتغير الايجابي وانجازه خروجا من العجز الي القدرة
وذلك امر مرهون بتحرير فكر المخرج والتجريب احد آليات شحذ طاقة المخرج علي تطوير ذاته وتفعيل امكانات تحولاته،
وذلك يتطلب مهارات وشجاعه الوصول والتعامل مع صيغ التحول المسرحي
ولاننا لا نستطيع الحصول علي مسرح افضل ما لم يكن لدينا مخرج افضل
المخرج يري بأكثر من عين ..
من المؤكد ان هناك نقص مكتوب في النص ولابد من ترك مساحة لما سوف يكتمل ويتفاعل، فنسيج النص المسرحي لا يكتمل حتي يكتب مع اشياء اخري غير الكلمات، مع شيء نحمله وشخص بتحرك ولون يظهر ويختفي. فالنص يكتب مع الفراغ وبداخله الفضاء، ولأن النص قلق فهو بحاجة الي اعاده الكتابة مرة اخري مع الجسد والفضاء,
فمن خلال المخرج المميز يصبح العرض نفسه نصا فهو يلتقط النص ويقوم بعمل عقد مع بنية الفضاء المسرحي ليؤدي النص دوره مرة اخرى ..ففي المسرح كل شيء يعد نصا وكل شيء يأتي ليتداخل مع الممثل ومع الفضاء ومع جسد المتلقي، إذ يصبح كل شيء طبقا للعبارات المتسلسلة وللجمل التي تنطق بها الاشياء هي فرجة تشبه العرس…نعم عرس اللغة والمادة،
ليمر الانفعال من المرئي الي اللامرئي لان كل شيء تتم رؤيته في المسرح بالتلاقي بين اللغة والازمنة لتبدو اللغة ذاتها الي دراما مرئية حتي الفكر يمكن رؤيته خاصة وهي في يد مخرج واعي يجعل الماده تتحد مع اللغة صانعا نسيج للعرض هو تقريبا ما يسمى كلمة نص وكأن المادة الكلامية مع المخرج المجرب تتجلي في مسرح مثقوب ومفرغ يظهر بريقه بوضوح في نقصه الملموس..
اما المادة في يد المخرج هي الاداة البصرية للمسرح هي منسوجة باللغه..
فالمخرج المجرب ياخذ المتلقي الي رحلة جديده مع نفس الكلمات ولكن بشكل مغاير.. عبر لحظة اغتراب ملحة لاندهاش ملموس لادراكه الحسي…ليبدو الممثل قادما من عمق المسرح من داخل فمه لا من انسانية اللغة..
وهنا يتحول المسرح ذاته الي نقطة يتاح من خلالها مشاهدة الكون كله.
اما اللغة فهي في نفس اللحظة في يد المخرج تبدو كظاهرة طبيعية تسقط علينا فجأة…في حريق جرئ للكلمات وللجسد من خلال لعبة المخرج بل ودميته وهي الممثل الذي يعطي أحرف النص قاذفا بهاخارج جسده عن طريق فمه،
وهنا نحن أمام سؤال ..
هل المسرح هو فن الحقيقة ام الكذب؟
هو بالفعل فعل الحقيقة، ففي الحقيقة اتفاق الزمن الموجود هناك مع الفضاء الموجود هنا عبر ممثل هو في الأصل حامل للنص، يجب أن يمتلك احساسه بالارض فهو ممسك النص ومعطي حيادي وصارخ ومنتبه في اللحظة المنطوق بها ..
يا سادة يا كرام النص لا تتم قراءته الا بمئات الأعين.. فالنص يمكن رؤيته مكررا كل يوم علي الخشبة بشكل مختلف عبر جمهور متنوع وغامض، فالكلمه تتضافر مع عشرات الأجساد الموجودة هنا معا في نفس الفضاء..واللغه تتسلل لمتلقي يتبعثر جسده ويتفرق علي كراسي في صالة, ولا يملا فراغات هذا الجسد الا مخرج يدرك ان التجريب ضرورة وحالة لابد من وصولها بأي وسيلة، حتي لو تحول المتفرج وجسده لضحية ينشطر وينقسم كما لو كان المسرح هو مكانا للتضحية البصرية. فالكلمات لا تنطق فقط عبر فتحة وجه الممثل ولكن من خلال فم الفضاء كله الذي يبدو مفتوحا، فالمخرج الجاد هو الذي يقر حقيقه ويؤكدها اننا نذهب للمسرح كي نري لغة جسدنا عبر تحول عقل المتلقي ذاته الي مسرح من خلال ما يسمعه، فالكلمة تخلق الفضاء والمتلقي يراه، والمخرج ينظمه بالضرورة عبر اكثر من مرحلة ..تبدأ الاولي وقت القراءة الاولي للمخرج وهي ايضا عين واحدة، ثم في الثانية تتسع قليلا عندما نري النص علي الطاولة وقت القراءه الاولية التي يؤديها الممثلون بصوت مرتفع لتظهر مسرحية اخرى هو نفس النص لكنه في عالم آخر.. أما المكان الثالث هو عندما يقف الممثل تاركا مقعده ليتحول الي جسد متكلم يجوب الفضاء..هنا نحن مع نص ثالث مع دراما الفضاء.
اما المكان الاخير، هو وقت العرض، وهو مرحلة، الانعكاس البصري لدرجة أنه يخلق نصا رابعا مختلفا تماما بتواجد الجمهور.
وهنا سؤال ..
هل تحول النص الي نكره؟ وهل تحول الممثل الي نكره؟
بالفعل لابد أن يتحول الممثل الي نكرة والنص الي نكرة في يد المخرج وهو الوحيد المعرف بالداخل لعبة العرض.
خاصة بعد توقف الممثل عن كونه المركز البؤري في الفضاء الذي يحترق فيه النص …هو مجرد عارض وجسده مكان للحدث،
ففي العرض المسرحي يضحي المخرج بالممثل وبالنص، فنحن نري ممثلا ينفعل ليحرق الكلمات.
لكن حريق الكلمات هذا هو في حد ذاته ما يكفل لكلا من الممثل و النص خلودا وقوة …لكن هنا خطاب القوة لايأتي الا بتوقيع سيادة المخرج المجرب….
إذ انه كل فكر يأتي إلينا من جسد الممثل هو نابع من الطريقة الموضوعة بها قدماه علي الارض ومن هيكل السياق الدرامي ومن مادية اللغة ونسيج الزمن.. لمستجوب عبر مخرج مجرب… يجرب في المسرح وبالمسرح خاصة ان كل شيء في المسرح من جسد ممثل، وجسد للغة متقاطع مع الفضاء…فالمخرج يخرج كل شئ من محبسه من الجسد ..كل شيء يتم تحريره بعد التحية الختامية..
عندما يتحول الممثل الي دميه..
المخرج المميز هو من يجعل من الممثل دمية، نعم دمية يحركها شئ آخر وشخص آخر، والشئ الجميل في لعبة الدمية هنا هو لعبة الخروج، خروج الإنسان من الدمية ذاتها وهذا الخروج يتطلب ممثلا واعيا ومميزا بشكل كبير فهو الممثل المشطور للغاية الذي يستطيع القيام بها عبر تحكمه في ادواته ليتحول الممثل هنا الي منشطر ومتفرق الي شخص يشاهد نفسه هو إنسان يخرج من إنسان.
فالمتلقي ياتي الي المسرح ليشاهد عملية خروج جسد الإنسان كقربان لفن المسرح هو عبور عنيف من عالم لآخر..
هذا العبور دوما بقف خلفه مخرج ينفذ لعبته التجريبية، طبقا لوعيه وفهمه وقدرته علي الاستيعاب وخلق مساحات القبول والاستمرار والحمايه لهذا التجريب ..