يقول (شين بي لايو): “التخيل هو تمثل الأشياء دون أن تكون ماثلة أمامك كما هي في الواقع، في التو، وبذاتها يمكن للمرء استخدام التخيل لتمثل الإمكانات المحتملة لا الواقعية، ولتمثل الأزمان الأخرى لا الحاضر، ولتمثل وجهات النظر غير الخاصة به. وبخلاف الإدراك والاعتقاد، فإن تخيل شيء ما لا يتطلب أن يكون ذلك الشيء حقيقياً. وبخلاف الرغبة أو التوقع، فإن تخيل شيء ما لا يتطلب من المرء أن يتمنى أو يتوقع أن يكون الشيء واقعيا”.
انطلاقا من ذلك نقول اجتاح أدب الخيال العلمي مساحات اشتغال واسعة في أجناسه المتعددة، وتحديداً في القرن التاسع عشر، وتمركزه جوهرياً باحثاً عن الذات والتمظهر في بداية القرن العشرين ومازال، وهذا طبيعي بفضل التقدم التقني والتكنولوجي في العالم، وقد كان التحول الزمني حاضراً في الأدب ومنه الأدب المسرحي، وفي مقدمة من كتب في هذا الاطار ( هربرت جورج ويلز ) في روايته (الة الزمن )، كما كتب أدباء عرب ضمن هذا النسق ومن بينهم ( توفيق الحكيم) وأشار إلى ان: ” فكرة الزمن ومحاولة الإنسان التغلب عليها قد شغلته، وشغلت من قبله الفراعنة، ومن بين مسرحياته (رجل الكهف، ورحلة الى الغد)، ولكون الكتابة في هكذا اتجاه مهم وحيوي وعسير فان الاهتمام به صار واضحا وجلياً للكثير من الباحثين.
إذ يقول (احمد الصفار): “تمثلت موضوعات الخيال العلمي بفكرتين تقليديتين هي المغامرة الكبرى ما بين الكواكب والمجرات من جهة، وما بين الاستكشافات الاسطورية من جهة أخرى”، وهذا ما تؤكده الأبحاث التي تتحدث عن الخيال العلمي وموضاعته التي تم حصرها بالآتي 🙁 الفانتازيا، الغرائبية، العجائبية، المستقبلية، الخيال، التصور، اليوتوبيا، الميتافيزقيا، الحكاية الخرافية).
وبناءً على ما تقدم فان الكاتبة (زينب عبد الأمير)، كانت مدركة جدا لصعوبة ما تقوم به، رغم أن التجربة في هذا الاطار ليست حديثة أو أنها تشكلت من علائق اجناسية مبتكرة للتو، بل قد خاضها آخرون لكن عبد الامير، استطاعت عبر هذه المجموعة أن تجانس السباقات الحداثية بتوليدات نصية مبتكرة في إيصال الأفكار بشكل علمي متزن، دون الحاجة للشكل الفني وأن وجد بقوة، على اعتبار أن من معايير أدب الخيال العلمي هو التركيز على الأفكار، وقد اقتصرنا لتشريح هذا النص كنموذج من النماذج التي حوتها مجموعة (عبد الأمير)، لاعتقادنا أن النصوص بحاجة الى قراءة متأنية، اولاً: كل نص على حده، وثانيا: إبراز الملامح النصية عند الكاتبة، وسنحاول الان ان نفكك الذي أشرنا له في المقدمة ونقرا بقية النصوص تباعا ان بقيت الحياة.
حددت الكاتبة عمر زمن الفتاة التي تدور عليها الاحداث وهذا مهم، فمن بنية العنوان الرئيسي توظف الكاتبة ثيمتها المركزية فاختيار الأسم (زمن) هو بحد ذاته تحول في اتجاه العلامة صوب رحلة وزمن، وهذين المعنيين فيهما إشارات لأكثر من معنى، أولا: التحول في الزمن هو البحث عن حالة جديدة سواء في الماضي او المستقبل، وثانياً: يمكن أن نستدل على ذلك فرضية تبنى عليها العلامات القادمة في النص، فتاة حالمة تبحث عن اشياء فوق العادة وهي في ذات الوقت تمتلك ذهنية خصبة وثراء معرفي، بحدود عمرها يجعلها مميزة عن بقية الطالبات ، تبدأ الخطوة الأولى من حوار زمن مع أمها حين ايقظتها باكراً.
زمن : “اووه ياامي ، لقد ايقظتني من حلم جميل”
ام زمن : “حسنا حسنا يا صغيرتي، ارويه لي حال عودتك من المدرسة ، أما الآن فسارعي لتسبقي الزمن”
زمن : “نعم ساسبق الزمن لم لا؟؟ ، مادام الدرس الأول لهذا اليوم هو العلوم ، كم أعشق هذه المادة، لاسيما وأن درسنا لهذا اليوم سيكون عن النظرية النسبية لانشتاين”.
وهذا الحوار يكشف علاقة الزمن بالعلم ومستوى عشقها له، وكذلك إشارة إلى موضوع الدرس، الذي استدلت به الكاتبه لبث ثيمتها الاساسية، ولا أدري هل تدرس النظرية النسبية في كتاب العلوم للصف السادس أبتدائي ام لا؟؟!!!
ثم تنتقل الكاتبة عبر المشاهد السبعة في النص لتوضيح الثيمة التي أشارت لها في المشهد الأول، ففي المشهد الثاني تصف الكاتبة موضوعة الدرس والحوار الذي دار لإيضاح النظرية النسبية لانشتاين من قبل (ست ريهام)/ المُدرسة، ومداخلات زمن وصديقتها المشاكسة ( آن )، تقول (ست ريهام) بما مضمونه: إن لانشتاين الفضل في اكتشاف البعد الرابع وقد سمته الزمن، إذ كانت هناك ثلاث أبعاد (طول وعرض وارتفاع )، وبدأت تسرد تفاصيل هذا الموضوع مع مداخلات زمن وصديقتها، لنصل إلى أن هذا المشهد هو في ذاته تعليمي أكثر مما هو متعوي، وإن الكاتبة حاولت إيصال كيف ينتقل الإنسان بالزمن مستقدماً التقنيات؟ وهذا مما جعل زمن تستغرب من المعلومات التي هي في ظاهرة ربما تجلبك إليها، لكنها صادرة من مخيال قريب إلى (الأسطرة) أو (الخرافة) الخ، لتحميل دلالات تقرا الواقع الراهن ويستفيد منها في البحث عن معالجات لتسوية إشكالات المجتمع.
زمن : “السفر إلى الماضي لا يعنيني، فأحداثه معروفة لنا، وموثوق عبر التاريخ، أما المستقبل فأحداثه غامضة، ولا نعلم عنها شيء”
ست ريهام : “جواب منطقي يا زمن أحسنت، ولكن قد لا تعجبك أحداث المستقبل، وستعودين ادراجك إلى الماضي، وعندها ستقعدين بلا أمل….”
فالحوار يفصح علاقة الانسان بالماضي والمستقبل، فالأول حاضر وواضح ملامحه وأن كانت الحقيقة فيه (متارجحة)، أما المستقبل فبكشفه لا يبقى أمل، ولاثمة فسحة للفرج كونه سيكون ماثلاً لا يستطيع أحد تغييره، وهذه إشارة من الكاتبة بعدم العبث بسنن الله وتعاليمه، فهو أدرى بها وليحيا الانسان لحظته، _ وبتقديري _هذه اهم الرسائل في النص والتي سنكتشف عمقها في النهاية، ثم تصف الكاتبة في المشاهد اللاحقة بحث زمن عن الانتقال إلى المستقبل عبر اللقاء بشخصية افتراضية وهي شخصية (سايباد)، التي تحقق امال زمن عبر البحث عن المستقبل، إذ تلتقيه زمن في حديقة، وبعد جدل بينهما يتعارفان ويتفقان أن يسيرا معا، لكن صديقتها المشاكسة تحاول أن تكون معها في الرحلة، ثم تؤسس الكاتبة فرضيتها في الغور في عمق الكواكب والمجرات عبر الة خاصة تنقلها باستخدام السكرين والداتشو، والملفت هنا: إن الكاتبة وظفت برأيي شخصية ( الراوي) لتحقيق هدفين الأول: هو لتبسيط وإيضاح ما يجري من أحداث عبر المشاهد وإرسال بعض الافكار التي تريد إرسالها إلى الآخر .
والثاني: استخدمتها اي _ الشخصية_ لربط المشاهد مع بعضها البعض وكذلك لتحقيق التشويق والمتعة، كون المشاهد تحمل معلومات علمية بحاجة الى كسر الرتابة وايقاظ العقل لاستلام العلامات النصية، وبتصوري استعانت الكاتبة باليات (المسرح الملحمي) ومنها (الراوي) كون ثمة تقارب في الاتجاهين، اولاً: المخاطب هو العقل وبالتالي يحتاج إلى أن يبث له مجموعة من الأفكار تحتاج إلى تركيز وتأمل، ثانياً: إن ما يحدث ليس بحقيقة وإنما هي فرضيات ترسل كي يستبطن منها علامات أساسية وفرعية لإيضاح الخطاب المعلن وحتى المخفي، ومن هنا نجحت الكاتبة في هكذا توظيف واستمرت في إرسال العلامات إلى نهاية المشاهد فالتحولات الدلالية جاءت ببحث (زمن) مع (سايباد) وصديقتها وما آلت اليه الرحلة من عناء، وكشف العوالم المخفية وكيف أن (زمن) وصديقتها لا يمكن لهما أن يعيشا في هكذا عوالم لسبب بسيط، هو أنهما لم يخلقا لهذا العوالم، وبغض النظر عن ما جرى من أحداث ومعاقبة زمن وصديقتها بسب اتهامها بالتجسس إلا أن علامات المشاهد واضحة، وقد كشفت حقيقة مثلى أننا يجب أن نعيش كما نحن، وإن نغير ما فينا من اخلال كي نبني ونتطور، مستفيدين من التقدم التقني لبناء عالمنا، الذي من الله به علينا، لذلك يمكن القول بأن: هذا النمط التعليمي في (مسرح الطفل) متفرد والخوض في غماره يحتاج إلى خيال خصب ومهارة التوظيف وخزين معرفي، كي لا يقع منتجة في إشكاليات من الصعب تجاوزها، وأكد أن الكاتبة على الرغم من علمية المعلومات ودقتها إلا إنها سعت إلى أن تسحب القارئ إلى مساحتها، بشكل سلس وممتع.
ويمكن أن نضع بعض المؤشرات وفقا لقراءتنا للنص على النحو الاتي:
اولاً/ سعت الكاتبة عبر فرضية (الخيال العلمي) أن تسوق بعض الأفكار العلمية وترسلها إلى القارئ بطريقة ممسرحة.
ثانياً/ دقة الكاتبة في التوليدات النصية، وفي إنتاج العلامات بدءاً من العنوان حتى الخاتمة وعودة (زمن) من عوالم البحث الى كوكب الأرض.
ثالثاً/ أمتاز النص بالسعة في الافكار وبما يتناسب وحجم العمر المقترح ، كما منح الشخصيات شيء من الحرية في التعبير والحوار.
ثالثاً/ الصراع القائم هو صراع أفكار وهذا الأخير هو الذي ينشط الفعل الدرامي، أي إنَّ التصدر السيميائي هنا فكرياً وليس مادياً وهذا ما سعت الكاتبة لتأكيده.
رابعاً/ التطور الحاصل في المشاهد كلها مبنية على التسابق مع الزمن، ولكن ماهيته كانت مقترح أسلوبي افتراضي ولم يكن تمثل واقعي عياني، وهي إشارة أن الأصل ما ينتج من علامة متخيلة بالفكرة وليس ما ينتج من فعل بالحركة، أي البحث عن المعنى في المخيال هو الاصل.
خامساً/ سحرية الطرح وشاعريته كانت حاضرة في حكم الاطار العلمي، والخيال العلمي واسطة لإيجاد هكذا تمثلات.
أخيرا.. يقول (عبد المجيد قاسم): “انّ الطبيعة الأدبية في هذه القصص ويعني_ القصص العلمية _ ليست خالصة، بل هي مقيّدة بالمضمون العلمي الذي ضمّه الخطاب الأدبي. ولذلك يحتاج الكاتب في هذا المجال لأن يجمع بين الموهبة والخيال الخصب من جهة، والمعرفة أو الثقافة العلميّة الواسعة من جهة أخرى، وهذا ماتحلت به الكاتبة في صياغاتها النصية الجمالية” .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*رحلة زمن عبر الزمن، هو أحد نصوص المجموعة المسرحية التي حملت عنوان النص نفسه، وإن هذا النص وصل إلى القائمة القصيرة (قائمة العشرين) في مسابقة التأليف المسرح الموجه للأطفال والتي اقامتها الهيئة العربية للمسرح في عام 2017.
** ناقد ومخرج مسرحي / عراقي
الكاتبة ( زينب عبد الامير)