تضعنا مسألة القراءة الإبداعية في مواجهة مباشرة مع الإنسان في ماضيه وحاضره، حيث يعبر قوميا عن هويته، عن ظله، وعن العنف بكل تجلياته، عنف مرأوي يعكس بلاغة الصورة وإوالية الإنتاج، لأن القراءة البصري لا تحاكم النص عبر عتباته الخارجية، بل تتجلى، وكخلخلة تختزنها الذات ونترجمها عبر الفعل والإنفعالي أو ضده، فحضور الشخصيات الثلاث هي رغبة في فك الحصار المعلن عن الإنسان، والوجود، واللغة، وعبر الرحيل المستحيل، لأن الشخصية لا تقول خارج ذاكرتها، وهي تتمرأى داخلها، تعري أناها وتفضحها، وهذا الحضور والغياب هو إدراك لنظام المجتمع، وخطابا متميزا يستلزم استراتيجية محكمة في ايصال مقصدية فعل التمسرح، هذه الاستراتيجية حسب المخرج “حفيظ الموساوي” تثني بنضج عال في مسرحة الواقع، وقدرته على تحويل اليومي واعطائه أبعادا كونية من هنا حاولت الشخصيات الثلاث أن تمدنا بتصور نابع من وعي تجريبي بهذا الجنس الدرامي، كامن خلف جدارية المقروء وتضمينه لحظة فعل التغير وليس التغيير، عمل المخرج على ربط الواقعي بالتخييلي ضمن علاقة جدلية تكثف مسارات النقد، لرؤيته إلى العالم من جهة، ولتصوراته ومواقفه من الإنسان وقدرته والوجود وطبيعته ووفق هذا التصور جاءت المسرحية لمحاكمة الإنسان ويقينية رؤيته التي يحملها عن نفسه، ومجتمعه فهذه الحتمية التي جعلت الشخصيات تنظر في المرآة مع نفي الخوف ذلك الخوف الذي يعكر دواخله، فعدم الاهتمام به يعني إلغاءه وطالما الإنسان حي فالخوف غير موجود، لكن الخوف يسري في شرايينه، تسمح له أن يشكلنا مثلما شكل الفنان من قبل، وعندئد نفهم طبيعة خبرته الإخراجية والتوليدية الجديدة ندرك ذواتنا وعبر عجزنا عن صياغة الفكر، والمواجهة، فالشخصيات تفهم، وتسخر من المكان، والزمان ومن اللغة، فيغدو الصمت امتلاءا، وامساكا بنهايته، ووعي يشدد على كون البعد السلطوي كمكان لا يتحقق خارج اللغة، بل من داخلها يتورط الإنسان ويشتبك مع الخوف دون فهم شفرة الاستجابة، فباتت الكلمات، محطة تقاطع عندهم بدون اختصاص ولا معارف، فتظل الكلمة توهم إنساني، والتوهم باستطاعته فهم الآخر، تحاول كل شخصية أن تبسط فيها إنسانية تصارعت من أجلها شخصية أخرى وتحدث واقعها رغم أنها كان أكبر منها. وهذه الخطوة التعبيرية هي محاكمة للتاريخ، وسخرية في شكل خطاب يتناص خطابات الماضي والحاضر، ويتجاوز مألوفيته لإزالة الخوف، ويهدم اعراف داخلية ويصوغ رؤى أخرى لا من حيث معناها ومن حيث مبناها. وأمام هذا التصور الركحي عمل المخرج “حفيظ الموساوي” على إبراز التناقض السلطوي العربي القائم على هيمنة الكلام، وهذه الهيمنة جعلت العنف يكبل إرادة الفرد ويتقزم دوره في المساهمة التاريخية لخلق وإبداع الإمكانات الوجودية للمجتمع، ومن هذه البؤرة عملت الشخصيات الاخضر المجدوبي، وادريس والخمار المريني على بلورة هذا التعفن السياسي العربي مما ولد علاقات لا أخلاقية وذلك من خلال المؤثرات الصوتية لمحمد بوشنافة، وهذا ما جعل الموساوي يخوض في أعماق هذه الشخصيات سابرا أغوارها ومفككا بنيتها السردية والاجتماعية بغية تتبع مسارها الوجودي كممثلين محكومين في إطار تاريخي اتسم بانهيار الحكم المدني، حسب تعبير “هاني الراهب”.
إن حفيظ الموساوي يحاول عبر هذه القراءة الممسرحة أن يعيد سؤال لماذا لا تنجح المؤتمرات العربية؟ سؤال يوجه الكلام ويسخر البرامج الاجتماعية لتضمن سيرورتها وإعادة إنتاج نفسها بنفسها، إذن لابد لها أن تتحول هذه السلطة الكلامية إلى أداة لتطويع الفرد وجعله يلهث لتحقيق مأربه دون طرح السؤال الجوهري، من نحن إزاء الآخر؟ وكيف لج الحداثة؟ هل نملك عقلانية نقدية لفك الارتباط مع الآخر المهيمن؟ أم نحن فراخ الغرب؟ وما علاقة الوعي بالإدراك؟ فإذا كان التفكير حسب المخرج الموساوي هو أساسي وجود الأنا، فالأنا موجودة عبر المعرفة دون الحواس، لأن العقل هو أعدل الأشياء، ولكن العرب لا يملكون هذه الأداة، نظرا لهيمنة الفطري، وهذا النفي هو استحضار للاشعور، باعتباره خزان يرتبط بالشهوة والرغبة. فهو الموجه الأساسي في سلوكنا العربي، وفي مواقفنا ومؤتمراتنا، من هنا يستنتج المخرج حفيظ الموساوي أن السيرورة السياسية للإنسان العربي قد أفرزت تخوفات سياسية مهيمنة تكشف عن منطق التناقض الذي يطبع الإنسان، لأن الشخصيات تكشف عن بنية عميقة التي تسود المجتمعات العربية، وهي علاقة تحرم في الظاهر ما تحله في الخفاء، فهذه الرغبة اللإرادية تجعل موضوع الخوف الباطني للإنسان العربي كضرورة وحالة نفسية من الإنكسارات والتراجعات، وهذا ما أكدته مجموعة من الدراسات المعاصرة، كالجابري، وعلي أمليل، وجورج طرابشي، وعبد الله العروي والمخرج يحاول عبر هذه المسرحية أن يعيد قراءة سيكولوجية الإنسان العربي على الركح، وكيفية التخلص من الخوف من الآخر المهيمن حسب مفهوم ادوارد سعيد في كتاب الاستشراق، إنها دعوة جديدة لمحاكمة الذات التي تبدو لنا كرغبة في التطابق وتهرب من كل قيد، لأن الموساوي يحاول كما قلت أن يؤصل فعل الإنسان من زاوية تحررية نقدية بلغة درامية لا تعرف المهادنة ولا التوازن الظاهري، لأن الإنسان العربي حسب المخرج لا يعي كينونته، بل يرتبط بشعارات التي تحمي الاستبداد، وتجعله مشروعا قابلا للاحتواء حسب “ميشيل فوكو” (حفريات المعرفة)، لذا دافعت الشخصيات الثلاث حول هذا التحرر الداخلي، لكونها تبحث في الكائن لولادة الممكن، ولتفجر بؤرة الصراع بين الذوات، صراع تم بمقتضاه خلق قناع كلامي يتمرس خلفها المتمرسون، والحكماء لا يرفضون الوساطة، بل يخضعون لصراع القوى المهيمنة لتمتلكهم دون أن يمتلكوها، يعني أن امتلاك المهمش هو امتلاك الحقيقة الذي يفيد امتلاك السلطة حسب تعبير “حسن اغلان” في كتابه “السياسي في الفكر العربي المعاصر”ص-13-.
تتأسس استراتيجية المخرج في قراءته للواقع العربي على تفكيك تلك المسلمات البديهية والقوى المصاحبة لها، واظهار ثغراتها التحكمية، وكل ذلك في سبيل البحث عن عقلانية جديدة في نقد الإنسان لتكون وسيلة نحو التحرر العربي، لأن طرح السؤال من نحن؟ وكيف نفكر، وهل لنا الحق في الكلام الملتزم؟ وكيف نبني ذواتنا بذواتنا في غياب الآخر؟ وكيف نؤسس لأنفسنا قارة ضمن القارات العالمية تكون أكثر فعالية وممارساتية؟ تتضمن هذه الاسئلة إشكالية كبرى سواء على مستوى التنظير أوو على مستوى الممارسة المدنية، وهي قراءة لا تضع الحدود بين الشخصيات – الأخضر، وادريس والخمار، ولا حتى الموسيقى من طرف هاجر وأبوها عزيز بوزكو، ولا حتى البعد السينوغرافي لحسن السعيدي بل ربطت المقدمات باشتغالات فرجوية من قبيل المخرج الموساوي، لأن رسم المرايا هي قياس وموضع الفعل السياسي الذي أصبح مكان سؤال كلياني لا يهتم بالمؤثرات الخارجية، بل يجعل موضوع التحرر من الخوف إغراءا يتفتت حين يجد الوعي، والفكر، والتصور المغاير، عندما يقول: “تمسح وجه المدينة بالحزن، إذا اتسخ الخبز، لا تأكلي من طعام الأم، وإذا دق عبد على الدف لا ترقصي، تدعي وجها، تسرقك الدقائق للهوى والجنون، تنير في اتجاه البحر تدور، وتدور …”. وهذا التورط في هذا المشروع الركحي هو تفكيك آليات اشتغال الخيال والفكر، والحلم، وصورة تدفع المخرج للإحاطة بالقضايا التي شكلت الفكر العربي والإنساني، باعتباره مقياس كل شيء حسب تصور المخرج الموساوي لأن فعل الفكر، وكيف يفكر، ولماذا يفكر، ولمن يفكر، تعددت الأسئلة، وتولدت الثنائيات الشرق/الغرب، والأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد، والقيود والتحرر، والباطن والظاهر، تعددت وتناسلت هذه الثنائيات كما قلت، فوجد الإنسان نفسه في مواجهة مع الآخر الغازي، والمهيمن، فخلق لديه شعور بالخوف والقلق على المستوى الوجودي النفسي، ذلك أن هذا الإنسان ظل أسير الثقافة المحنطة، فشكلت في وعيه عبارة العرب والغرب مستخلصا أن المؤتمرات والشعارات أصبحت أطماعا للإمبريالية، لا يجد لهذه الجدلية مفتاحا لتكون هي الخلاص من هذا الخوف الذي يسكنه حسب تعبير محمد مسكين في “مهرجان المهابيل” لا شك أن المخرج عبر هذا المناص للعتبات الخارجية والداخلية للنص المسرحي “الطربوش والبراميل”، قد اقترح البدائل في شكل مرجعيات سيكودرامية تواضع عليها الممثلين، وكل الطاقم المساعد وشكلت محطة جوهرية في تاريخ المسرح العربي، إنه مفعول وجودي وسلوكي أغنى حسب الموساوي رؤية الإنسان العربي في هذا العالم الأخرس فاحتل مركزا باعتباره حاملا لحضارة، أما اليوم أضحى في هامش مضغوط عليه حسب تعبير حين إغلان كتابه المذكور، ومهما يكن من أمر، فإن المخرج حفيظ الموساوي بحث في تفاصيل هذه المشكلة العربية التي تعقد المؤشرات دون تطبيق، بل تصبح طبولا تضحك للريح بنسيم الدجى وتبقى خريطة الطريق للإنسان هو التحرر الداخلي، والتفكير في قراءة ذاته دون إلغاء التاريخ، والمجتمع، وهذه الرؤية الدياليكتيكية جعلت التاريخ هو المحرك الأساسي، والمبنى الجوهري لكل فعل تحرري، لأن قراءة التاريخ وعي تجريبي لا اندماجي يجعل الشخصيات تبني عبر توحدها ذاتا واحدة مادامت لا تبتعد عن حركية الواقع وسيرورته، فقراءة المخرج كما قلت لا تستقيم إلا من خلال رؤية مادية تقوم ببناء أدوات اجتماعية، ووعي تاريخي الذي يحيل إلى اتخاد موقف مضاد للسلطة الحاكمة، إن التحول من الخوف إلى التحرر والإنعتاق الداخلي هو خروج من هذا التملك الباطني، وجعل الإنسان مفهوما ومرجعا لكل البدائل التاريخانية حسب مفهوم عبد الله العروي في كتابه “أزمة المثقفين العرب” ص-56-.
إ
إن التقنية التي مارسها المخرج حفيظ الموساوي، جعلت الفعل التمسرحي يكتب تاريخ العرب برؤية جدلية، وبواسطة أقنعة مشخصة وبرؤية تغريبية تؤطر التاريخ باعتباره كونا جديدا لا يتميز بالعرق، ولا بالبيئة، وبالجنس إنه عالم مفتوح سبيله الحديث والحرية التي تستطيع أن تخلخل كينونة هذا الإنسان وجعله هو المركز وخلاصة القول، إن المخرج حفيظ الموساوي، وصاحب المؤثرات الصوتية محمد بوشنافة، والموسيقى والألحان بوزكو هاجر، وبوزكو عزيز، وكذا المحافظ محمد حاكمي وإدارة الإنتاج عيادة الموساوي والسينوغرافيا حسن السعيدي، فهذا الطاقم جعل من نفسه العقل الجماعي لبناء رؤيا التي تغذي المادة الركحية، وتفيد الجمهور عبر الامتداد والاستواء الفرجوي لأن هذا التوليف لا يروم للمعرفة وحدها، بل يتسلل إلى تكثيف العلاقات المفهومية والتي تم بناء وتكوين مجالنا المسرحي، وهنيئا بالولادة رغم القيد فإننا هنا واجدون.
”