سلطــة الخطاب وسطـوة المكان في عرض مسرحية ( سينما )/ حيدر عبد الله الشطري
يتميز الخطاب المسرحي عن باقي الخطابات الأخرى كوننا نتلمسه دون أن نستعين بوسيط راوي كما في السرد وأننا نستله من خلال متابعة الشخصيات والأحداث وتتبع الدلالات التي يثيرها العرض المسرحي وعند تحقق عملية التواصل النموذجي بين (المرسل والمستقبل) هنا يقدم الخطاب المسرحي مادته وفق طرح جمالي مقترح وبرؤية فكرية جديدة وليست معرفية فقط.
يقول كير ايلام في كتابه سيميائية المسرح والدراما : ” يقسم الخطاب المسرحي على الدوام باستعراضية ولا سيما بإيمائته الكامنة التي لا تملكها اللغة السردية عادة لان سياقها يكون موصوفا أكثر مما يشار إليه تداولياً”.
وبالإضافة إلى ما تقدم يعد المكان أيضاً عنصرا مهماً من عناصر البناء الدرامي لا يمكن التنازل عنه لكي لا يفقد النص المسرحي أصالته وخصوصيته .
وأن توظيفه في عملية الإبداع المسرحي تعتبر من الوسائل الفنية الخلاقة ذات الأبعاد العميقة وبالتالي تخدم فكرة الخطاب المطروح والدال بكل تجلياته .
والمكان الذي يعنينا هنا ليس المكان الذي يشار إليه بالإنكليزية بـ place ) ) فقط بل هو المكان المقرون بتحديد وقوع الحدث والذي أشير إليه لاحق من قبل النقاد الانكليز بـ (location ).
وهكذا فإن تضافر أسباب الحضور الواعي لمفهومي الخطاب والمكان في العرض المسرحي وهيمنتهما يعد من دواعي البحث عن الأصالة والتكامل والذي كان ذلك هو مسعى المؤلف والمخرج كاظم النصار الذي بدا واضحاً وجلياً عند تقديمه لعرض ( سينما ) والذي قدم على خشبة المسرح الوطني 13/ 4 / 2018 وكان من تمثيل ( إياد الطائي , علاوي حسين , باسل الشبيب , زيدون داخل , ازهار العسلي ) وسينوغرافيا د. جبار جودي ودراما تورجيا د. سعد عزيز.
النص وسطوة المكان :
يقترح النص المقبرة مكانا تدور فيه أحداث المسرحية وهو بذلك يؤسس لبنية مكانية أثيرة من الممكن الاشتغال عليها كثيرا وإنتاج دلالات فكرية تتماهى مع الطرح الذي أراده المؤلف باعتبارها مكاناً ثرياً وغنياً وأن كان يدل غالباً على السكون فأنه يحمل الكثير من المعاني والقصص والأسرار التي تصلح لاقتراح نص مسرحي مفعم بالتشفير والرموز وهو بذلك أي ( المؤلف ) تعمد الدخول إلى هذا المكان بكل توصيفاته ودلالاته وافترش عليه شخصياته وقام بإنتاج نص يتوافق مع طروحاته الفكرية والفنية, متجاوزاً المكان الواقعي الذي يمكن أن تدور فيه كل هذه الأحداث وهو (المدينة ) أو (الوطن) الذي أراد أن يشير إليه النص ومن ثم العرض ولكنه قام بالدخول إلى الدال (المقبرة ) متجاوزاً الواقع (المدينة), ولو أنه لم يقم بذلك وقام باقتراح المدينة مكاناً لدائرة أحداث النص ليسقط المكان الآخر (المقبرة) عليها وفق رؤيته الإخراجية التالية لا سيما وأنه مخرج العرض لكان قد أسس مساحة كبيرة للتأويل أيضاً وذلك ما يبعد العرض عن سطوة المؤلف ويجعل من العرض نصاً مجاورا آخرا لنص المؤلف.ويمكن لذلك أيضاً أن يخلص النص من التفاوت الزمني بين الشخصيات والتي تبتعد أحداها زمنياً (الجنرال) عن باقي الشخصيات الأخرى بأكثر من ثلاثين سنة, ولأجل أن يعزز ويكرس المشتركات المكانية بين الشخصيات كان من الأجدى أن يعمل على التقريب بينهما بالمشتركات الزمانية ليؤكد التقارب بالمحمولات الفكرية للشخصيات ويجعل منها أدوات تعبيرية لزمان ومكان معينين. وهكذا يتضح لنا أن المقبرة مكان آخر تنتهي عنده الأشياء وكيان اجتماعي مستقل, ساكن وثابت لا يقبل التحديث والتجديد وبذلك لا يمكن إسقاطه على (المدينة) المكان الذي ينبغي أن يكون هو ساحة الصراع, فهو الكيان الاجتماعي المشترك والمتحرك المتحول والذي يقبل التغيير بل هو ينتظره وبحاجة إليه .
ولم يعتمد النص على بناء درامي تقليدي متسلسل ومتنامي لأنه اشتغل على تأكيد عبثية مصير شخصياته التي تعيش في مجتمع يتعرض للحروب والدمار وما كانت قضية (الزلزال )التي بينها النص إلا واحدة من تلك الويلات التي تؤدي إلى تراكم كم هائل من الخيبات التي تتعرض لها الشخصيات في زمن يسير باتجاهات مختلفة ويدور دون توقف, لذلك كانت معالم الصراع الدرامي في النص تتمظهر في مقاومة تلك الشخصيات بإراداتها الرافضة مع القوى الخفية التي تحاول أن تجر الشخصيات إلى مآلات كارثية تتوحد بالموت الذي تعددت أسبابه وبقي هو مصيرا واحداً للجميع.
العرض وسلطة الخطاب:
حاول المخرج كاظم النصار الاشتغال على تطويع البنية السردية للنص وإعادة إنتاجها برؤية إخراجية جديدة من خلال إعادة تشكيلها بمعاني صورية حديثة لا تبتعد كثيرا عن مضامين النص التي بقيت مهيمنة على فضاء العرض في كثير من الحالات ولم يستطع المخرج التخلص من سطوتها لأنها تمثل لديه متبنيات فكرية عمل على تدوينها ونشرها سابقاً ولكنه عمل مخلصاً على إخضاعها إلى اشتراطات العرض المسرحي ومتطلبات الخشبة وذلك باللجوء إلى تكثيف الكثير منها عبر تقانات مسرح اللامعقول تارة عند التركيز على اللغة المكثفة والتكرار اللفظي لبعض الحوارات الذي اعتمد عليه بعض ممثلي العرض, وأخرى بالاعتماد على آليات المسرح البرشتي (الملحمي) وخاصة عند عرض المقاطع الغنائية, والتي حاول المخرج أن يعزز بها خطاب العرض, وتأكيد سلطته الجمالية, لا سيما وأنها كانت بمستوى تصوير معاناة شخصياته وكانت تتسم بالطابع السياسي الذي كان طاغيا وواضحاً في رسائل العرض التي بثها بقوالب متعددة كانت تسير باتجاه التحريض ومحاولة انتشال الشخصيات من ركام الواقع المتشح باليأس نحو الحلم والأمل .
ولم يكن تأثيث فضاء الخشبة بما يساهم بإعادة تشكيلها وفق رؤية إخراجية مبتكرة وجديدة فهي لم تتعدى وصف مكان المقبرة وتحديد ملامحه وتبيان حدوده الجغرافية, في الوقت الذي كان العرض بحاجة إلى توظيف الفضاء بالشكل الذي يوحي ويضيف لمعاني جديدة ومبتكرة .
الأداء التمثيلي وسمة الحضور :
عُرف عن المخرج كاظم النصار أنه يعير أهمية كبيرة لعمل الممثل في معظم تجاربه السابقة وتوظيفه لذلك ليصبح جزءا مهماً من طروحاته الفنية التي يتكأ عليها ويستعين بها في تحديد ملامح رؤيته الإخراجية ويتخذ منها أساساً لبناء تصوراته الجمالية في تقديم العرض المسرحي .
لذلك نراه اعتمد على مجموعة من الممثلين الذين استطاعوا أن يجسدوا أدوارهم بطريقة تنم عن دراية كبيرة وبصيرة نافذة في تفسير وفهم مضامين شخصياتهم والتعبير عنها خير تعبير وتأكيد ظهورهم الفاعل والمؤثر على الخشبة باعتبارهم العنصر الأوفر حظاً في الاعتناء بتقديمهم في منظومة العرض المسرحي بعدة أساليب أدائية مختلفة تتراوح بين الأداء الذي يشوبه النمط الساخر وتمثل ذلك بأداء الممثل علاوي حسين والممثل زيدون داخل والذي كان اقرب إلى إجادة دوره وفهم شخصيته وتجسيدها بطريقة تميل كثيرا نحو الكوميديا والذي عرف بتفوقه فيها, وكذلك الأداء الذي يتسم بالجدية والصرامة ويعتمد على الإجادة بإلقاء الممثل وتمثّل ذلك بأداء الممثل إياد الطائي والممثل باسل الشبيب, وأيضا الأسلوب الذي اتضح انه يقف بين الأسلوبين السابقين وتمثّل بتجسيد الممثلة أزهار العسلي وبهذا تحققت منظومة أدائية باهرة تؤكد سلطة حضورهم الفني في تعزيز سلطة خطاب العرض باعتبارهم مجموعة إرادات تصارع من اجل حريتها .
ولابد من الإشارة إلى أن هذه التجربة المسرحية للمبدع كاظم النصار هي امتداد واعي لتجاربه الأخرى التي اشتغل عليها في موضوعة مسرح ما بعد الحرب ونظّر لها وهي إضافة مهمة لأسلوب اختطه لنفسه وسار عليه ليصبح مشروعا فنياً مبدعاً يعتبر من المشاريع الفنية المهمة في مسيرة المسرح العراقي ما بعد التغيير والذي تطرز بالطرح الاجتماعي المشفر ذي الدلالات السياسية والتي تعتبر هذه هي السمة البارزة لتقييم هذه التجربة والتي تتصف ببعض حالاتها وتجلياتها بجزء من ملامح (الكباريه السياسي) الذي يتميز بطرح الموضوعة السياسية بأسلوب ساخر. من خلال تناول نصوص عراقية تناقش الواقع العراقي من زوايا مختلفة لكنها تعمل على طروحات تحاول أن تنتشله من خيباته وانكساراته .
إنه مسرح القضية التي تبناها الفنان المسرحي كاظم النصار واخلص إليها وأصبح واحداً من روادها لما يتميز به من حس متميز وفكر خلاق في تناول الموضوعة العراقية وجاءت مسرحية (سينما) لتكون تتمة لذلك وحلقة وصل لتجارب أخرى ننتظرها بشغف لتكون مكملة لمسيرة فنية حافلة بالإبداع.