فن المسرح هو فن المواجهة متمثلة بجماعية كينونته، وبطبيعة الحال ليست المواجهة التصادمية التي لا يعتمد ولا يرحب بنتائجها و‘نما هي مواجهة افتراضية تعتمد الكلمة واللون والموسيقى، وفوق كل هذا تعتمد الخيال والنظر بعيون فنية ثاقبة لدقائق الأمور التي تأخذ فعلها وأثرها في حركة المجتمع ظاهريا وباطنيا، ومن هنا كان على دراما
المسرح أن تأخذ حصتها الكبيرة وأثرها الفاعل والإيجابي في كل التحولات التي يشهدها المجتمع ولذا بقيت الدراما المسرحية هي الأكثر عمقا وتأثيرا في نفوس الجمهور لأنها تمس أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم. وفي وضع شديد التصور فيما يخص راهن العراق بعد – 2003 – والذي تبدو أوضاعه من التعقيد الطافح نحو الغرابة والخيال في أقصى حالات التصور الموضوعي له فتمسي فاعلية المسرح ومن يقوم بها وكأنها تقترب من روح المغامرة أن هو راهن على أن يأخذ المبادرة والدخول في تفاصيل ذلك الراهن وبأدواته المتعددة إذا ما أراد التفاعل. فيا ترى أيدخل بروح التحريض والتي بدأت أضواءه تنطفئ ولم يعد لها ما يبررها ؟ أم يدخل بانفعال أني لكل ما هو يومي فيدخل في شرك المباشرة والاستسهال فيقلل من روح الفن وتنتفي فاعليته المطلوبة في المتعة الجمالية والفكرية؟ .
هذه الأسئلة وغيرها ستكون مفتاحا لقراءة ما جاءت به أوراق عرض مسرحية ( تمرد ) من تأليف وإخراج الفنان الشاب مصطفى ستار الركابي والتي قدمت في بهو بلدية الناصرية برعاية اتحاد أدباء وكتاب ذي قار وفرقة جماعة الناصرية للتمثيل والمسرحية تعتمد الأسلوب الشعبي كما مثبت في دليل العرض. إن هذا العرض يتوسل بالأسلوب الكوميدي النقدي الساخر لما يختزنه من طاقة هائلة في التأثير، فقد سعى المؤلف المخرج لأن يكشف ويعري ما يتداخل به راهن العراق من متناقضات غريبة ليقربها معتمدا أسلوب الواقعة المسرحية كقالب درامي وهو يتناول كل الظروف المحيطة بمساحة الحدث الذي انطلق من خبر هروب السجناء من سجن أبي غريب وكيف راح يأخذ حضوره في ذاكرة التناول الجمعي وتكوين المواقف التي تنتج من جراء هذا الفعل بعد أن شكل ثلمة في سياقات البناء المهني لدولة يراد لها الاحتكام للقانون وثبات هيبته.
وأسلوب ( الواقعة ): تسمية أو مصطلح ليس له صلة بالمدرسة الواقعية ولكنه يستفيد مما هو موجود في الواقع أو الحياة اليومية كما يقول بذلك الأستاذ سامي عبد الحميد . فالكاتب المخرج مصطفى ستار لم يلتزم بالحدود التقليدية المتعارف عليها وإنما حاول استبدالها بمحاولات ساعدته على الانتقال الميسر وفق بؤر متعددة خلقها في نص العرض فلم نجده يعتمد التسلسل المنطقي في كتابة نص مسرحي فلجأ إلى الافتراض في تحديد صياغة مكان العرض متوسلا بأدوات ساهمت في إيصال رسالة العرض إلى الجمهور ومنها لغة العرض والاعتماد على اللهجة العامية ونقلها بإطار يؤكد قدرتها في التعبير عن دلالات قد لا تجد لها صدى مؤثرا يتوفر في اللغة الفصحى ولهذا نجد الممثلين يستخدمون هذه اللهجة من دون أن يحصل أي تفاوت بين المواقف أو الأفعال حينما يعول المخرج مرة أخرى إلى استخدام أسلوب ( اختلال التوازن ) أي الاعتماد على أظهار المواقف التي يختل فيها التوازن فيلتقط نقاط الضعف وأوجه السلب التي وقعت في المجتمع ويجسدها بشكل مبالغ فيه حتى نضحك عليها و نسخر منها بعيدا عن الابتذال ومحققا بذلك لنا مفهوم الضحك الإيجابي الباعث على المتعة والتسلية وليس ضحكا أجوف . ويضاف إلى اشتغالات المخرج أيضا اعتماده أسلوب التماهي مع راهن العراق فنيا فمنذ مشهد الاستهلال متزامنا مع المسامع الإذاعية وأصوات الإنفجارات وذلك اللغط الصادر من إذاعات متعددة ليؤكد لنا عمق ضبابية المشهد أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا إذ نحن بداخل سجن نشهد فيه محنة الثقافة والبراءة وقد أصرّ المخرج على الإيحاء أنه ليس بسجن متعارف عليه بل هو سجن افتراضي فلم تتضح معالمه وحدوده وهذا ما يسجل لصالح العرض فضلا عن اعتماد المخرج على حركية المكان وبساطته في اشتغال حديث لا يعتمد على ديكور ثابت فبقي متحركا يدفع لنا بمحمولات فكرية وجمالية تنتج باشتغال الممثلين مع أدوات بصرية موجودة في وسط المسرح عبارة عن – طاولة مع كرسيين وحقيبة وجريدة وقنينة ماء وإناء ماء وغيرها – وهذا الاشتغال حقق لحركية مكان العرض الأثر الأمثل لدى الجمهور . وكذلك نجد أن الكاتب المخرج اعتمد أيضا على أسلوب التواصل في تاريخ الأحداث والوقائع والسلوكيات إلى ما قبل – 2003 – حينما سحب لنا بعضا من أناشيد وأغنيات المعركة والتي أتخمت بها الذاكرة العراقية ومنها ( يا كاع اترابج كافوري ) و ( لو باعدتنا أحدود ) ليقول أن مخلفات ذلك العهد ما تزال تجد لها صدى واسعا في راهن حاضرنا اليوم . وما يحسب لصالح العرض في التمرد المطلوب حيث يدخل في مضمار نقد الثوابت والمقدسات الدينية والاجتماعية والتي يراد لها الثبات والديمومة المقدسة غير المقبولة فنرى الفنان مصطفى ستار يقدم نقدا لاذعا وساخرا لكل ما هو رث وسلبي من أفكار وتصورات بعيدة عن جادة المنطق والفهم السليم لقيم الدين ودوره في المجتمع . ولعل ما أسهم من عوامل القبول التي ترشحت لدى الجمهور عن هذا العرض وجود منظومة الأداء التمثيلي فالفنان ( عمار نعمه جابر ) يقدم واحدا من أهم أدواره في الأداء فبدا عليه الانسجام والتواصل وفقا لمتطلبات الحالات المستجدة فكان مقنعا في شخصية عبد الله ، ومع الفنان ( ستار الحربي ) نلمس اتزانه ووعيه الواضح بشخصية حسن المثقف وحالات اختلالاته المتواترة ضمن مجريات العرض ، أما الفنان ( كرار عبدعلي ) بدور الشاعر فكان ملح العرض الجميل حينما جعلنا نستشعر ببهجة المتعة والتسلية المطلوبة في الأداء يضاف إلى ذلك الفنان ( علي راضي ) بدور الإرهابي ورغم حضوره الصغير لكنه شكل تلك الحلقة الفاعلة في الأداء أيضا . ويمكن لنا أن نؤشر بدور الفنان ( أحمد الهلالي ) في الإضاءة والفنان ( ذو الفقار سالم ) في عنصر الموسيقى . ويبقى أن نؤشر لبعض المأخذ التي كان على الكاتب والمخرج أن يلاحظها ونجد أنها لا تتساوق مع مجريات وطموحات ما أراده هذا العرض ربما شكلت علامة سلب ليست في صالح العرض المسرحي ومنها – أن عنوان ( تمرد ) ليس متوائما مع ما يطمح إليه العرض المسرحي سيما وأنه يتبنى الهم الشعبي كطريق وأسلوب في الطرح فكان الأجدى أن يعتمد عنوان أخر لكي يكون بموازات ما بثه العرض;