المثقف بين حرية الابداع وابدع الحرية/ البروفيسور الأسعد الجموسي

منزع الحرية في مسرح موليير نموذجا
احتلت مسألة حرية الإبداع من السيرورة الإنسانية موقعا مركزيا. وينطلق مبحثنا من الإقرار بأن إنسانية الانسان مدينة للمنزع الكامن فيه للخلق والابتكار وتنسيق الأشكال ورسم الصور البصرية والصوتية والحركية والجسدية، مند القدم. ولعل أهم مثال على الدور المركزي للإبداع في تطور البشرية يكمن في الفنون الصخرية التي أنتجها الانسان مند الطور النياندرطالي الدي يعود الى حوالي أربعين ألف سنة. وقد مكنت هده الفنون بتنوع أشكالها وألوانها ومحاملها وصورها ورسومها، من تيسير وعي الانسان بذاته وبمحيطه ومن ثمة، فإنها مثلت أولى درجات الادراك المجرد للعالم والأشياء بتحول الرسم الى علامة. أي ان الإبداعات الأولى للبشرية كانت مرتكزا هاما من مرتكزات نشأة اللغات القديمة فحررت مجالات التواصل والذاكرة والتفكير وساهمت من خلال دلك في تحرير الانسان من قيود التمثل البدائي للكون. وإذا اعتبرنا بأن سيطرة الانسان على تمثل الأشياء واستحضارها في ذهنه وذاكرته من خلال ادراكها الذهني فانه من البديهي ان نؤكد بأن تحرر مهج الابداع تساهم بشكل هام في تقدم البشرية وتحرر الانسان بما يسمح بالقول ان حرية الابداع تؤسس الحرية.
وددت ان ابدأ مقالي بهده المعاني الإنسانية الشاملة لأنها تمثل حجر الزاوية في مبادئ الإبداعية «la créativité» التي لا يمكن ان تنمو الا ضمن حيز الحرية المطلقة لملكات الابداع الكامنة لدى الأفراد والجماعات.
حرية الابداع تؤسس لإبداع الحرية. تلك هي الصيرورة الجدلية التي ترفع مستوى الشعوب الى مصاف الاسهام الحضاري والارتقاء الثقافي الدي يحدد أنماط السلوك والعقليات والعلاقات والعيش المشترك.
حرية الإبداع تؤسس لثقافة الحرية بما هي خلق متواصل للقيمة الجمالية والإنسانية والإيتيقية، ينبع من الذات المبدعة المترسخة في تربتها، المنصتة الى ما يختلج فيها من تنوع واختلاف وجدة وثراء، في كنف تفاعلاتها مع حركية تاريخية متواصلة. كذلك يكون المبدع متأصلا في نصغ الذات الجمعية، مساهما في توقها الى مسارات الحرية من خلال نحت تطورها السليم المعافى من آفات التسلط باسم الدين أو باسم الأخلاق او باسم الدفاع عن “القيم” وكأنها جماد غابر لا يعتريه نسق الحياة. الهوية الذاتية تتغذى بما يصادفها من مصادر معرفية وتجارب حسية وعلاقات أسرية واجتماعية ومشاعر متفاعلة مع المحيط المحايث وهي بكل ذلك تنمو وتنحت وتتغير وتتطور، وكذلك شأن الهوية الجمعية تصنع من انتباهها لذاتها باعتبارها مجبولة على التنامي والتقدم والتطور والبناء المتواصل أن كانت قادرة على الوعي بذاتها من اجل إبداع تلك الذات على نسق جميل تواق الى رقي العقليات والسلوك متشبع بمعاني الحرية. ثقافة الحرية هي ان يرفض الانسان ان يعيش تحت نير الآخر مهما كان سلطانًا او اهلا او أقارب وأن يرفض أيضا ان يُخضع الآخر الى سلطته الذاتية مهما كان موقع الآخر، قريبا أهلا، او مرؤوسا. ومجتمعنا لم يتشبع كما ينبغي بمعاني الحرية حتى تصبح ثقافة اي طبيعة ثانية مترسخة في الذات بشكل دائم وقائمة على السلوك والعقليات. بالمقابل فان هد المجتمع قد تأثر بالزخم العظيم الدي أسس له أعلام الابداع على امتداد القرون السابقة، من دلك ما أسهم به المفكرون وأعلام الإصلاح والشعراء والأدباء التي غزت أفكارهم مجال الثقافة العامة فضلا عن خاصة أهل الثقافة العالمة. ولنا في دلك عديد الشواهد من المقولات المأثورة التي استنبطنها العموم. فنجد عامة الناس يدكرون ابن خلدون “العدل أساسي العمران” أو “ادا عربت خربت” كما يدكرون الشابي “ادا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر” وهو شعر ثائر على القدر الدي تعتبره العامة مقدسا. ومن دلك أيضا أن يردد العامة بعض ما ترسخ في الذاكرة الجمعية من شعر الصغير أولا احمد “أحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد صباحا مساء وقبل الصباح وبعد المساء ويوم الأحد” وادا قلت لأحد المارة “نساء بلادي” يجيبك بقول الشاعر أولاد احمد “نساء ونصف”. ومجمل هده الأمثلة تفيد بأن معاني الحرية تولد من رحم الابداع الفكري والفني ثم تسري وتتفشى لتساهم في صنع القيمة والتأثير في السلوك والعقليات.
وباعتبار مرور أربع مائة سنة عن ولادة موليير بباريس سنة 1622، فاني سأخصص المثال المركزي لفكرة تأسيس الحرية عبر حرية الابداع من بعض ما أتاه هدا المبدع الفذ في عصره وما عاناه من التحدي والمثابرة في انشاء سبل الحرية.
تحتل فرنسا في التاريخ الاوروبي مكانة مخصوصة من حيث بناء الدولة الامة منذ توحيد التراب الفرنسي في عهد الملك شرلوماني بين القرن الثامن والقرن التاسع للميلاد. وقد تنامى دور الدولة المركزية بفضل النهضة الاوروبية حيث ازدهرت بالمعارف والعلوم والفنون في عهد الملك فرنسوا الاول وهانري الرابع خلال القرن السادس عشر، كما عرفت فرنسا اوج نهضتها العلمية والفنية والاقتصادية والعسكرية خلال القرن السابع عشر على ايدي الملكين لويس الثالث عشر وخاصة الملك الشمس لويس الرابع عشر الذي تقلد الملك وخلف الدولة من سنة 1643 الى سنة 1715.
وقد تميز عهد لويس الرابع عشر الذي دام اثنين وسبعين سنة بالحكم المطلق الذي يستقي ذاته من الحق الالاهي. وبعد ان قضى حكمه في سحق تمرد النبلاء من ( 1648 الى 1653 ) والاجهاز على حركة البروتستطية والمذهب اليوحنوي « Jansénisme » استطاع ان يفرض الولاء والطاعة من جميع الاطراف كما تمكن من مراقبة الراي سواء في المجال الديني والأدبي والفني عموما .
اما مجال الآداب والفنون على وجه التخصيص فقد عملت مؤسسة الاكاديمية التي تكونت سنة 1635 على توحيد الذوق وقواعد الكتابة الادبية والشعرية والمسرحية وتعتبر الاكاديمية التي تسيطر عليها الدولة وسيلة من وسائل الهيمنة على مجال الابداع الفني وعلى انماط التفكير بحيث يصبح النتاج الأادبي والثقافي عموما عاملا من عوامل الاشادة بالملكية المطلقة وبوقا لإذاعة القيم المسيطرة في تلك الفترة التاريخية.
هذه القيم المهيمنة التي تصطبغ في نهاية التحليل بشكل من اشكال التقديس المتعالي عن النقد والنظر فإنها تتمثل في تشكل ثلاثي الصور تتصدره صورة الالاه الذي يمثله البابا في روما والذي يمثله الملك في باريس وعن تلك الصورة الالاهية الملكية تنحدر صورة الاب البطريقي « pater familias » الذي تتمحور حوله البنية العقلية الابوية. هكذا يتمكن الثالوث السلطاني المقدس (الالاه – الملك – الاب) من كل مفاصل الافكار والعقليات والسلوكيات.
بالمقابل فان ضراوة تصلب نفوذ هذا الثالوث الذي تكرسه الانتاجات الادبية الرسمية في تناقض شبه تام مع سيرورة التاريخ ومحركاته باعتبار ان التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي اتت بها النهضة الاوروبية عموما والنهضة الفرنسية على وجه الخصوص تقوم على بناء مكانة الفرد واعلان ولادة الانا الذي يحث على اثبات ذاته عبر الفكر والفعل. فمن جهة نجد الكوجيتو الديكارتي الذي يعلن عن وجود الانا عبر التفكير مؤذنا بإنجاز عهد الانسان العقلاني، اما الثورة الكوبرنيكية فإنها هدمت اسس العقيدة الكنيسية لنظام الكون. ومن ناحية التحولات الاقتصادية الكبرى فإنها تتميز بتنامي راس المال بنسق متسارع وهو بذلك يدفع في اتجاه اذكاء المبادرة الفردية ويشجع المراهنة على المستقبل من اجل تنمية الربح.
نلاحظ اذن ان القيم الجديدة التي تحملها التحولات التاريخية تؤسس لرؤية جديدة للعالم قوامها الفرد المبادر، المفكر، المجدد، الصانع الحر.
وقد شهد القرن السابع عشر تقابلا شديدا بين القيم السلطانية الابوية القديمة التي تدافع عنها الدولة وتحرسها بشراسة بدعم من الكنيسة وبين محاولات الافصاح عن المنظومة القيمية الجديدة التي تقوم على مبدا الحرية وتؤسس للحداثة في حيز ما يسميه الفكر الفرنسي ميشال فوكو بالقطيعة الايبستيمية.
وليس ابلغ عن ذلك مما سمى بخصومة القدماء والمحدثين، فمن جهة نجد احد زعماء الاكاديمية الفرنسية «Nicolas Boileau» الذي يتراس فكرة الدفاع عن اتباع النموذج الاغريقي والروماني في الابداع الادبي مهما كان والاحترام التقديسي للقواعد الكلاسيكية كما جاءت في فن الشعر لأرسطو، وفي المقابل نجد « Charles Perrault » زعيم الحداثيين الذين يعتبرون ان الادب ابداع وتجديد وتحديث واثبات للذات المبدعة الخلاقة انطلاقا من الزمنية الجديدة وما تحمله من تحولات.
ولابد من التأكيد بان كلا الفريقين يسعى وراء ارضاء الملك لويس الرابع عشر وادراج راي التقليد او التجديد في خدمة الدولة والسلطة واعلاء صورة الملك.
ولا شك ان فريق المحدثين حتى وان اظهر الولاء المطلق للدولة واعتمد الثناء والمبايعة اللامشروطة للملك فان ذلك لا يعني ان الابداعات التي تصدر عنه تمثل دعما لأركان المنظومة السلطانية بل على العكس تماما اذ انها تشتغل على مستوى البنى العميقة لأركان هذه المنظومة في اتجاه تفويض القيم التي تقوم عليها.
والى جانب الاكاديمية الفرنسية التي اسستها الدولة للدفاع عن منظومة التقليد، نجد الكنيسة مجندة لنفس المارب. وقد تأسست لذلك الغرض جماعة دينية شبه سرية اطلقت على نفسها اسم la compagnie du saint sacrement التي يمكن ترجمتها ب : ( صحابة التقديس الصالح ) . وقد تزامن تأسيس هذه الفرقة الدينية تقريبا مع تأسيس الاكاديمية الفرنسية وتمثل برنامج عملها في الضغط على الدولة في مجال تقيد الفضاء العمومي والخاص بالأخلاق المتشددة ومقاومة كافة اشكال التحرر او الاقبال على الاحتفال والزهو والسعادة، كما انها جعلت من تحرر الفكر والابداع الفني مرادفا للشر المطلق.
تلك هي الظروف الموضوعية التي تنامى في ظلها مسرح موليير، فقد كانت اول صدمة له مع حماية السلطة وانقلابها عليه عبر الامير ارمان دي بوربون كونتي Armand de Bourbon Conti الذي منح اسمه ورعايته لفرقة موليير في سنه 1654 الى سنة 1656 في جنوب فرنسا وعلى وجه التحديد بقصر بيزيناس حيث استقرت الفرقة والتقطت انفاسها بعد ان كانت تجوب المدن والقرى لتقديم اعمالها الهزلية الكوميدية . ولكن الانقلاب على موليير تم بانخراط الامير في ” جماعة صحابة التقديس الصالح ” بعد ان اعلن التوبة عن حياة اللهو والمجون والفسق، عند ذلك قام بطرد موليير من قصره وكفر عن رعايته له بكتابه مؤلف بعنوان Le Traite des comédies et des spectacles كتاب الكوميديا والفرجة الذي يحرم فيه المسرح عموما ومسرح كورناي التراجيدي ومسرح موليير الكوميدي على وجه الخصوص.
هكذا عاد موليير الى باريس بداية من 1658 وتحصل على حماية الملك لويس الرابع عشر الذي مكنه من الدعاية والتمويل اضافة الى تمكينه من فضاء مسرحي للقيام بأعماله.
بعد هذا الجرد للظرف التاريخي وللمعطيات الايبيسيمية التي ميزت الصراع بين قوى الجذب الى الوراء وفرض قيم التقليد من جهة وقوى التجديد والتحديث والحرية من جهة مقابلة يجدر ان نركز على اهم عملين مسرحيين قام بهما موليير تجاوزا للقيم المهيمنة واختراقا لقوانين الرقابة وقواعد الابداع.
المسرحية الاولى التي سوف نتناولها بشكل سريع تتمثل في الرائعة التي قام فيها موليير بسلخ المنافقين من رجال الدين. ظاهريا يتعلق الامر بشخصية تارتوف Tartuffe التي تحمل جانبا تضخميا هزليا مفرطا في النفاق والدهاء امام شخصية اورقون Orgon المفرطة في السذاجة مما يمثل البنية الهزلية وعناصر السخرية والضحك. ولكن باطن العمل يحمل نقدا لاذعا للنفاق والمنافقين ومن ورائهم كافة المتشددين والمتطرفين الدينيين. واذا تأملنا في المشهد الاول الذي يشمل على مقابلة بين ام اورقون السيدة برنالDame Pernelle من جهة وكافة افراد اسرة اورقون من جهة ثانية ( زوجته واخوها وابنه و ابنته والخادمة ) تبين ان فحوى المشادة الكلامية بين الطرفين يتمثل في الدفاع عن الحق في السعادة والاحتفال والاقبال على الحياة عبر مسايرة العصر من جهة افراد اسرة اورقون وفي تجريم مظاهر الزينة والضحك والاختلاط والتزاور والتكلم بصوت عال والتبذير وحب الحياة والاقبال عليها في منطق العجوز السيدة برنال التي تمثل قوى الشد الى الوراء. فالصراع هنا يعود بنا في نهاية التحليل الى البنى الرمزية العميقة التي تتصادم خلال هذا القرن بين القوى المتشبثة بقيم التقليد وبين قيم التجديد والتحديث والتحرر.
وقد اشار عديد المختصين في مسرح موليير ان هذه المسرحية كتبت ايضا للإشارة الى شخصية امير كونتي le prince de Conti ومن شابهه من اعضاء ( صحابة التقديس الصالح ) . وفي كل الحالات فان منع مسرحية تارتوف تم على اثر تدخل هذه الجماعة الدينية المتطرفة التي اثرت على الملك.
خلاصة ما يهمنا في هذا المثال الاول هو ان موليير كان من قلائل المبدعين المسرحيين الذين تجرؤوا على مؤسسة الدين وعلى الكنيسة وفرقة المنافقين المتشددين فحول بذلك قانون المنع من الرقابة الذاتية التي فرضها الجميع على انفسهم الى مشاكسة الخصم ودفعه الى رد الفعل عبر تكريس المنع. ومن جهة اخرى فان تاريخ العلاقة بين المسرح والكنيسة يبين ان الكنيسة كانت دائما في موقع هجوم على المسرح واهله حتى انها ادانت كافة اشكال العرض المسرحي بما فيه العروض الدينية من خلال قرار ” برلمان باريس ” الذي هو هيكل ديني كنسي يمنع المسرح وعقاب من يمارسه واخراجه من الملة وذلك سنة 1548.
اذن تقاس جرأة موليير في التهجم على النفاق والمنافقين وعلى اجهزة الكنيسة الموالية لأجهزة السلطة بمقياس مكانة الكنيسة وقدرتها الهائلة على الاساءة.
ولان استطاعت قوى التقليد ان تمنع رواج مسرحية Tartuffe فإنها جعلت موليير يزيد اصرارا على مهاجمة المنظومة السلطانية وقيمها عبر الحفر في بناها الفكرية والفلسفية العميقة من خلال مسرحية دون جوان Don Juan.
كثيرا ما تقتصر اقلام الباحثين في مسرح موليير على الظاهر الكوميدي وعلى ميكنزمات الفن الهزلي مثل الحركات او الحالات او الوضعيات او مخاطبة الجمهور او الإخفاء والاظهار وغيرها من عناصر الهزل والضحك من الشخصيات المفرطة في التحذلق.
ولعل ذلك ما جعل بداية فاتحة مسرحية دون جوانl’incipit، مبهمة بالنسبة للكثير من النقاد، حيث أنهم لا يتوقفون بما فيه الكفاية على الخطاب الافتتاحي للمسرحية على لسان شخصية Sganarelle، في حين ان هذه الافتتاحية الغريبة تعتبر اهم عنصر من عناصر ما يسمى بعقد القراءة او بعقد التأويل بين الكاتب والمتلقي.
فلنتوقف قليلا عند هذه الافتتاحية : تختلف افتتاحية دون جوان على ما داب عليه المسرح من مقدمات ضرورية لفهم ظروف الزمان والمكان والشخوص والرهانات فهي في بدايتها لا تمت بصلة الى ما نسميه بمشهد التقديم scène d’exposition باعتبار انها تبتدأ بذكر فوائد التبغ وتؤكد على انه بالرغم مما يمكن ان يزعم ارسطو وكل الفلاسفة بان للتبغ فوائد لا تحصى وان من يتعاطى هذه المادة يصبح كريما مع نفسه ومع الاخرين ويكون بذلك متألقا وقريبا من صورة L’honnête Hommeاي الرجل او الانسان الانيق حسب النموذج المثالي لاعيان القوم في القرن السابع عشر ثم ينتقل Sganarelle مباشرة الى ذكرDonna Elvira دونا ألفيرا وعزوف دون جوان عنها بعد اغرائها والزواج منها وكيف انها ارسلت خادمها لاقتفاء اثره. ومن هنالك ينطلق مشهد التقديم “scène d’exposition” فما علاقة الخطاب الافتتاحي بباقي المسرحية: هنا يكمن عقد التأويل.
اهم عنصرين في الخطاب الافتتاحي يكمنان في تحدي ارسطو كل الفلاسفة
” بالرغم عن ارسطو وبالرغم عن الفلسفة جمعاء فليس هناك شيء في الدنيا يضاهي التبغ اهمية ”
ثلاثة مفاتيح في الجملة الافتتاحية 1) ارسطو، 2) الفلسفة، 3) التبغ.
اما عن ارسطو فان الاشارة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار باعتبار التسافي والمعارضة للأركان التي تعتمدها مرجعية الاكاديمية الفرنسية وتطرفها الاصولي في فهم وتفسير فن الشعر لأرسطو واتباعها المتشدد لقاعدة الوحدات الثلاث (المكان والزمان والحدث) وغيرها من قواعد انشاء التراجيديا.
وما ذكر ارسطو في مقتبل الخطاب الا ضرب من ضروب التهكم والتهجم على المقلدين من زعماء الاكاديمية. ولعل البنية الدرامية المتفتحة الباروكية لمسرحية دون جوان عنصر تحد واجابة على تجاوز قواعد ارسطو حسب ما اوردها عتاة التعصب الكلاسيكي.
واما المفتاح الثاني فانه يشير الى البعد الفكري والفلسفي للمسرحية وهو بعد سوف يعود النص الى ابرازه عبر ذكر اسم Epicure ( ايبوكير ) فيلسوف المتعة واللذة والحياة عند تقديم صورة دون جوان من طرف سكاناريل .
ولعل في هذا المفتاح دعوة للقارئ بعدم التوقف عند ظاهر البنية الدرامية بل حثه على استحضار البعد الفكري والبنى العميقة الثاوية في حشايا النص والاحداث والشخوص.
اما التبغ فانه يشير الى جماعة ” صحابة التقديس الصالح ” بشكل مبطن للقارئ العادي ولكن بشكل واضح للقارئ المطلع على تطرف فتاوي هذه الجماعة باعتبار انها اصدرت “فتوى ” بتحريم التبغ.
وهنا يمكن التجاوز المولييري لقوانين المنع والتحريم والرقابة من خلال الابداع بعينه.
و بالنظر الى مجال هذه المفاتيح التي تأتي على لسان سكاناريل في افتتاحية النص فان القول بان موقف موليير متأرجح بين ما يذهب اليه دون جوان من تطرف في المادية الايروسية وبين دفاع سكاناريل على منظومة الافكار والمعتقدات، لا يستقيم باعتبار ان الرفض لفلسفة القواعد الارسطية والاحتفال بفوائد التبغ ومحاسنه ضد ما يذهب اليه دعاة التعصب الديني تأتي على لسان سكاناريل نفسه.
وبالتالي فانه من الارجح ان نقول ان موليير يختفي وراء موقف دون جوان الفلسفي الذي يدعو الى الاحتفال بالحياة واثبات الذات المتحدية لكافة المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية. وفي نهاية التحليل فان موقف موليير يعتبر هجوما وهدما للمنظومة السلطانية الابوية التي تقوم على تلازم تقديسية الالاه والملك والاب.
ففي بداية المسرحية وعلى وجه التحديد من خلال المناظرة الفكرية بين دون جوان وسكاناريل في المشهد الثاني من الفصل الاول يركز موليير على تلازم تحدي النظام الاسري وعقد الزواج مع التحدي للدين الذي يضمن قدسية هذا العقد
وفي المشهد الثاني من الفصل الثالث نجد موقع التحدي والتمرد على المنظومة الدينية من خلال رفض دون جوان التصدق بالمال لوجه الله واستبدال ذلك من اجل الانسانية.
اما في المشهد الثاني من الفصل الرابع فإننا نتابع تمرد دون جوان على المنظومة المالية الاقتصادية من خلال رفضه لتسديد دين عليه للسيد دمانش Monsieur Dimanche وهو المشهد الذي يمهد للتمرد المباشر على أبيه دون لويس Don Louis الذي يأتي في المشهد الرابع ليلوم دون جوان على صنعه.
وهكذا يتدرج صعود التمرد والتحدي حتى يصل الى تجسيم الحضور الميتافيزيقي عبر تحرك التمثال ودعوة دون جوان للعشاء. فمن سلطة الرابطة الاسرية الى سلطة المال الى سلطة الاب الى سلطة الدين، يهاجم البطل الاسطوري جميع القيم التي تنبني عليها المنظومة الاجتماعية والسياسية الفرنسية في عهد لويس 14.
وخلافا لمسرحية دون جوان الأصلية باللغة الاسبانية التي ألفها تيرسو دي مولينا Tirso de Molina التي خر فيها دون جوان ساجدا راجيا العفو والمغفرة فان دون جوان موليير يبقى على موقف التحدي والتمرد الى الاخير دون خوف ولا ريبة رافضا ان يستغفر.
نلاحظ اذا ان مختلف صنوف ومظاهر السلطة الاجتماعية الاسرية والدينية والمالية والابوية تصبح محل استهداف وتحدي من طرف موليير عبر شخصية دون جوان.
واعتبارا لأهمية هذه المطارحة الفكرية وعمق مداها الذي ينتقد البنية السلطانية العميقة، فان مسرحية دون جوان فتحت الابواب على مصراعيها للتفكير في هذه القضايا التي لم يجرئ المفكرون والادباء والفلاسفة الاوربيون على طرحها الا بعد عقود طويلة عبر فلسفة الانوار في القرن الثامن عشر وفي القرن الموالي وعبر الفكر النيتشوي. كما أن مساهمة موليير في رسم المعالم المتمردة على ثقافة الاتباع تؤكد الفرضية التي انطلق منها مبحثنا، وتثبت ان حرية الابداع تصنع الحرية في المجال الواسع لثقافة الحرية وتؤسس لبناء القيم ونحت العقليات والتأثير في السلوكيات. دلك ما نستشفه من شغف الشعب الفرنسي بشخصية موليير وبمسرحياته، ودلك أيضا ما يفسر اهتمام النخب المثقفة في مصر وتونس ولبنان بهذا المسرح وما يحمله من النقد للمعتقدات البالية ومن قيم التجديد والتحرير.
وبالمقارنة مع ما نحن عليه اليوم من تكميم للأفواه وتكفير للاجتهاد ومراجعات للمكاسب الثقافية فان الحاجة لمثل هذه التجاوزات الجريئة اصبحت أكثر الحاحا واشد ضرورة.
ومن دواعي الارتياح أن نشهد عديد الدوائر الإبداعية، فكرا وأدبا وشعرا وسينما ومسرح التي تقاوم من أجل اثبات الوجود رغم ضيق الإمكانيات وتساهم في مقاومة تيارات الرجعية الرسمية التي عملت على اهدار معالم الشخصية الثقافية الوطنية، ونشر الكتب الصفراء، وتأسيس الإذاعات والتليفزيونات الدينية المتزمتة وشبكات التواصل المعولمة وبرامج الاثارة والتشهير والتدني. بين هذا وذاك يصبح دور المثقف المبدع دورا مركزيا في ابداع الحرية عبر حرية الابداع.



