جديد المسرح التونسي
قدّمت شركة عطيل للإنتاج الفنّي سلسلة عروض لآخر أعمالها المسرحية مؤخرا بقاعة المونديال بالعاصمة والتي حملت عنوان «بورقة» وهي مقتبسة عن مسرحيّة Huisclas (دون حضور جمهور) للفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير «جون بول سارتر”.
والمسرحية في نصّها السارتري «الأصلي» تتعرض إلى الجحيم برؤية فلسفيّة وجودية أتقن سارتر صياغتها وحكم على الممثلين (شخوصها) بالتواجد في غرفة صغيرة، كل واحد على كرسيّ ليبدؤوا بمحاسبة بعضهم البعض وليتعرّى كلّ واحد نفسيا أمام الآخرين… لتصل في الختام إلى حكمتها الجوهريّة مع جملة النصّ الأخيرة والتي مؤداها أنّ اللّه لا يعاقب عباده بالجحيم وإنّما الجحيم «هو الآخرون”.
وهي مسرحيّة غير متداولة بكثرة «إخراجيّا» في غير اللّغة الفرنسية وقليلون هم المخرجون العرب الذين اشتغلوا عليها (تجربة جزائرية فلبنانيّة فأخرى مغربيّة)، ولعل المخرج جمال ساسي أقدم على مغامرة محفوفة بالمخاطر بإخراجه لهذا العمل.
ألغام النص… مزالق الدراماتورجيا
لقد عرف جمال ساسي أنّه لا يمكنه الاعتماد على العربيّة الفصحى كلغة لهذا العمل لأنّه سيضيف عنصر عرقلة جديد للعمل، ذلك أنّ نصّ «دون حضور جمهور» الأصلي يحمل عدّة عناصر عرقلة (ألغام) الأوّل هو أنّ المسرحية تدور أحداثها في فضاء واحد: غرفة صغيرة بباب أثاثها الوحيد ثلاثة كراس بثلاثة ألوان مختلفة ورأس منحوت من البرونز…
أمّا عنصر العرقلة الثاني فهو الطبيعة الذهنيّة والفلسفية للنصّ ذلك أنّ جان بول سارتر ليس أديبا عاديّا يتعامل مع الجمل شعريّا أو بلاغيّا بل هو بالأساس مفكّر وصاحب مدرسة فلسفيّة لا يتوقف عن ضخّ رؤاه الفلسفيّة الوجودية في أعماله الأدبيّة.
أما عنصر العرقلة الثالث فهو أنّ سارتر ينحدر من ثقافة أوروبية مسيحية بارزة في نصّه هذا: مثلا النقطة المتعلّقة بالمثلية في النص الأصلي وبعض الإكسسوارات ذات المرجعية المسيحية….
ونظرا لهذه العوائق كانت الخشية من أن يتعامل جمال ساسي مع مجرّد ترجمة عربيّة فصحى لهذا العمل لكنّه (ولحسن الحظ) تفطّن إلى هذه النقطة كما تفطّن إلى الألغام المبثوثة في النص الأصلي فاعتمد دراماتورجيا ذكية «تونست» النصّ كما ورد في معلّقة ومطويّة المسرحية.
ومن هنا كان لزاما على جمال ساسي أن يحوّر في بعض القصص المتعلقة بشخوص العمل ويقرّبها من الراهن العربي ثقافيا وسياسيا (خاصة طريقة موت غسان الصحفي بالجزائر نتيجة عمل إرهابي..).
كما توفقت دراماتورجيا النص في الابتعاد عن الإملال الذي سيسببه وجود ثلاثة أشخاص يتبادلون الحديث طيلة أكثر من ساعة.
البساطة المحترمة
إخراجيا لم يتفلسف جمال ساسي «كثيرا» بل عمد إلى رؤية إخراجية تقودها البساطة انطلاقا من سينوغرافيا «فقيرة» (باب تدخل منه الشخصيات وثلاثة كراس تجلس عليها..).
وكانت الإضاءة ذكية جدا فكلها داخل الركح ولم يعمد المخرج إلى أي مشعّ تأتي إضاءته من خارج الركح وهذه قراءة ممتازة للنص السارتري، فلا يمكن أن نصور أو نضيء فضاء مغلقا كالجحيم من الخارج.
هذه الرؤية الإخراجية غذاها خيار جيد في التعويل على ممثلين من أصحاب التجربة والقدرة الفنية (جمال مداني وليلى الشابي) مع ممثلين صاعدين سيكون لهما شأن كبير في المستقبل المسرحي.
ببساطة مسرحية «بورقة» لجمال ساسي هي تأكيد على أنّ العمل الجدي والمتأني على الركح لا بدّ أن يعطي ثمارا جيدة، فمسرحية «بورقة» دون أن ترتقي إلى مستوى الإنجاز المسرحي التاريخي استطاعت أن تكون عملا مسرحيا محترما ومحترما جدا تفاعل معه الجمهور في مختلف عروضه بطريقة إيجابية تنتصر لمسرح المضامين الهادفة والبساطة البعيدة عن الغموض أو كثرة الفلسفة أو التهريج..