المخرج بين عبور العرض وضريبة التنازل الجمالي/ بقلم: د. عماد هادي الخفاجي

في عالم المسرح حيث يتقاطع الفن مع الواقع يظل احترام التجارب الأصيلة للمخرجين الحقيقيين أمراً ثابتاً لا مساس به، فالنقد الآتي لا يوجه إلى أولئك الذين يحرسون جوهر الإبداع ويلتزمون بميثاقه بل يُعنى بظاهرة تتسلل أحياناً إلى الكواليس حين تطغى دوافع الحضور والانتقال على الشغف الجمالي فتغدو بعض العروض انعكاساً لحالة اختلال بين ما يُراد فنياً وما يُفرض واقعياً، عندها يفقد العرض روحه شيئاً فشيئاً ويغدو أداة لعبور مؤقت بدل أن يكون غاية جمالية قائمة بذاتها، إذ كثيرا ما تُقدم العروض المسرحية بدوافع تتعلق بالسفر أو تثبيت الحضور في المشهد الثقافي أو حتى مجرد تسجيل مشاركة تُضاف إلى الرصيد المهني فتُختزل التجربة الإبداعية إلى خطوة عابرة ضمن مسار لا يلتفت كثيراً إلى ما يتطلبه الفن من عمق وصدق واشتغال حقيقي.
وعليه يمكننا القول هنا بان قرار السفر لأجل المشاركة في مهرجانات أو عروض خارجية لا ينبع دائماً من رغبة فنية خالصة بل هو خيار يحمل في طياته آمالاً وطموحات متنوعة تتعلق بالتواصل وبناء العلاقات وربما بناء سمعة فنية وحتى أحيانا الحفاظ على مكان في دائرة الفعل الثقافي، بيد أن هذه المشاركات رغم نُبل أهدافها الظاهرة كثيراً ما تتحول إلى رحلات بلا جدوى بحيث تأخذ المخرج والفرقة إلى مساحات زمنية ومكانية تبعدهم عن جوهر العمل الفني وبالتالي تنعكس سلباً على جودة العرض نفسه، فالسفر من أجل المشاركة لم يعد دائما تعبيراً عن شغف إبداعي أو سعي وراء التميز الفني بل صار في كثير من الأحيان استجابة لضغوط غير معلنة، ضغوط مرتبطة بالحاجة إلى إثبات الوجود أو اللحاق بدائرة تحكمها العلاقات والشبكات الثقافية دون أن يواكب ذلك استعداد حقيقي للعمل على مستوى فني يليق بتلك المكانة، وهنا تتحول خشبة العرض إلى مساحة رمزية تعبرعن واقع إنتاجي هش حيث تُصبح الجودة والإتقان عرضة للتراجع تحت وطأة عوامل خارج النص والرؤية، وبالتالي فن المخرج يجد نفسه مضطرا للموافقة على تقديم عرض لا تكون رؤيته فيه هي الأساس وإنما رغبة في تحقيق حضور مادي أو معنوي في مكان ما أو حتى مجرد اجتياز عقبة لمناسبة مؤقتة مما يفتح الباب لتنازلات فنية تؤثر على نسيج العمل المسرحي وتفقده بريقه، وهي تنازلات لا تنبع فقط من اعتبارات مالية بل من واقع مأسور في شبكة علاقات ثقافية وأكاديمية لا تضمن دائما الفائدة الحقيقية ما يجعل المشاركة هدفا في حد ذاتها بغض النظر عن النتائج الفنية أو التأثير المسرحي، ونتيجة لذلك يصبح العرض مجرد خطوة ضمن رحلة طويلة من التنقل والانتقال لا تستند إلى استراتيجية واضحة للنمو الفني أو التطوير المهني بل إلى ضغوط مجتمعية وثقافية تحكمها رغبة في البقاء داخل اللعبة الثقافية مهما كان الثمن، ما يجعل هذه الحالة تنعكس على المخرج بأبعاد نفسية وفنية معقدة، فهو يعيش حالة من التوتر الدائم بين الطموح والواقع وبين الرغبة في تقديم عمل متكامل وقادر على الإقناع وبين الحاجة إلى القبول بأي عرض يتيح له المشاركة أو السفر ليحدث نوع من التنازع الداخلي حيث يكون المخرج في مواجهة مع ذاته هل يرضى بأن يكون العرض مجرد وسيلة للعبور أم يستمر في التمسك بالهدف الجمالي رغم كل التحديات؟ للأسف كثيرا ما تفرض الظروف الإجابة الأولى فتتضاءل المساحات التي يُمكن فيها للمخرج أن يمارس فنه بحرية وإبداع فتتراجع جودة العروض وتضعف الرسائل المسرحية مما يؤثر سلبا على تجربة الجمهور وعلى سمعة العمل الفني، وبهذا يتحول العرض إلى مرآة تعكس أزمة أكبر في الواقع المسرحي، أزمة التوازن بين الطموح الفني ومتطلبات الواقع الاجتماعي والثقافي ليصبح العمل المسرحي في كثير من الأحيان عبوراً عبر محطات اجتماعية وثقافية لا تليق بجوهره الفني…وعليه فإن قرار السفر والمشاركة حين يتقدم على الهم الفني لا يُعد مجرد شأن شخصي يخص المخرج أو فريقه بل يغدو مؤشراً على اختلال أعمق في منظومة الإنتاج المسرحي حيث تتداخل الرغبات الفردية في التواجد والظهور مع منظومات أوسع من الطموح المؤجل والاعتراف المؤقت وفي خضم هذا التداخل تضعف الحدود بين ما هو جمالي وما هو وظيفي وبين ما يُنتج لضرورات التعبير الفني وما يُصاغ لمجاراة شروط الحضور في المشهد الثقافي، لتصبح بعض العروض بذلك تجسيداً لانزياحات مؤلمة في أولويات العملية المسرحية إذ تتراجع الاعتبارات الجمالية لصالح ما هو ظرفي وعابر ويغدو العرض المسرحي وسيلة للعبور إلى شبكات العلاقات لا بوصفه غاية تعبر عن رؤية أو موقف وهنا لا يعود العمل الإبداعي مشغولا بالسؤال الفني أو الجمالي بل مثقلاً بإكراهات الواقع المتضمن تأشيرة، دعوة، إقامة، وربما فرصة جديدة للعرض لا بوصفها امتدادا للفن بل كمكافأة رمزية على التواجد ومع مرور الوقت يُرسخ هذا السلوك ثقافة مسرحية هجينة تفتقد العمق وتُنتج عروضاً تائهة بين المهرجان والنية وبين الضرورة والرغبة وبين الحلم المسرحي والواقع المُشوش ويغدو المخرج ذاته حين يرضخ لهذا السياق جزءاً من منظومة استهلاك لا إنتاج حيث تُختزل التجربة المسرحية في زمن قصير من السفر والحضور لا في أثر طويل من الفكر والتأثير.
وبهذا يتحول العرض إلى مرآة تعكس أزمة أكبر في الواقع المسرحي، أزمة التوازن بين الطموح الفني ومتطلبات الواقع الاجتماعي والثقافي، حيث يصبح العمل المسرحي في كثير من الأحيان عبوراً عبر محطات اجتماعية وثقافية لا تليق بجوهره الفني. إن قرار السفر والمشاركة كوسيلة عبور ليس فقط ظاهرة فردية تخص المخرج أو الفريق، بل هو انعكاس لأزمة نظامية تتعلق بإدارة الإنتاج وقيمه، حيث تلتقي الأهداف الفنية مع مصالح ومصالح مؤقتة قد لا تخدم إلا بقاء الفرد أو المجموعة ضمن دوائر معينة.