مقالات

حينَ اليدُ تخرجُ عن طورِها/ محمود هدايت

“في الاختلاف الذي يُسمّي أصناف التنوّع داخله، تتأهل الكتابة لأن تكون كتابة، لأن تعبّر  عن خصوصية  قائمة لكاتبها” / إبراهيم محمود

 

في حالةِ هاملت، التأتأةُ صمتٌ “فكيرٌ”، إنّها عملُ اليدِ وليس التفكيرُ كما يقول هيدغر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــ المسرحُ فنٌّ بلا جوهرٍ أسطوريٍّ ــ أبديٍّ، خلافًا للسينما التي هي في الأصلِ كما الشعرِ، فنٌّ يرتكزُ على استدعاءِ العالمِ  وإنتاجِهِ كصورةٍ ماهويةٍ وأنطولوجيةٍ للوجودِ عبرَ تزمينِ المكانِ والأشياءِ معًا، يعني، إنّ نزعَ الجوهريةِ عن المسرحِ يأتي من كونِهِ فنًّا مكانيًّا بالدرجةِ الأساسِ، مما يبدو أنّه في هذه التفصيلةِ خاصةً يكمنُ سرُّ انتسابِ يدِ هاملت للسينما، وانشغالِ رأسِهِ بالمسرحِ.

ـــ ما فعلتْهُ هذه اليدُ، يوجزُ في أنّها أربكَتْ الفضاءَ المسرحيَّ بالحركةِ الخارجةِ عن سيرةِ الفضاءِ التصوريِّ لحضورِها، في اعتمادِها الذهابَ نحوَ الترددِ الذي هو صمتٌ سينمائيٌّ وليس أداءً مسرحيًّا، ويُرصدُ وجهُ التمايزِ بينَهما في تظهيرِ الصورةِ الخافيةِ لأسبابِ هذا الترددِ، إذ إنّ حضورَ هذه اليدِ في المسرحِ قد انطلقَ من محاكاةٍ لحالةٍ جسديةٍ تقيمُ بينَ ثنائيةِ الـ (نعم و لا) في حينِ تردّدُ هذه اليدِ في السينما يتأتّى من تبنّيها خطابًا زمنيًّا سريًّا بمقدورِهِ أنْ يمنحَها الشبحيةَ، ويشيرُ هذا إلى أنّ يدَ هاملت في المسرحِ ماديةُ الحضورِ، لكنّها في السينما شبحٌ .

ـــ يمكنُ رصدُ حركةِ يدِ هاملت في كلِّ صورةٍ سينمائيةٍ تبثُّها كاميرا السينما الشعريةِ ــ الأصيلةِ، كأفلامِ تاركوفسكي – على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، فتبدو الصورةُ كما لو أنّ الكاميرا منشغلةٌ في توثيقِ حركتِها في الأشياءِ والوجوهِ، مما يجعلُها أشبهَ بلسانٍ يُتأتئُ، الصورُ تظهرُ لتختفيَ وهكذا تمضي لعبةُ الزمنِ إلى نهايةِ الفيلمِ. صفوةُ ذلك، أنّ تاركوفسكي قد اتخذَ من هذه اليدِ رأسًا يُخزّنُ فيه ما سيصدرُ من زمنٍ أسطوريٍّ من حركةِ تلك اليدِ .

ـــ لأنّ المسرحَ محكومٌ بفضاءٍ عِيانيٍّ، ومهما أوغلْنا في تقشيرِهِ لامرئيًّا، يبقى المكانُ ــ الجسدُ هو الرافعةُ الفكريةُ للحضورِ الأدائيِّ على الخشبةِ، وهذا عينُهُ ما جرّدَ يدَ هاملت من امتيازِ الأثرِ الشبحيِّ الذي ترسّمَتْ ملامحُهُ بقوةٍ في السينما كـ”فن معني بعودة الأشباح” حسبُ  ج. دريدا، وهذا في ذاتِهِ يدلُّ على عمقِ الصلةِ بينَ هذه اليدِ والسينما، وما يجمعُهما معًا  أيضًا، هو طاقةُ الزمنِ وشعريتُهُ التي هي شبهُ غائبةٍ في المسرحِ .

ـــ في المسرحِ هاملتُ بلا يدٍ؛ لأنّ تفكيرَهُ منصبٌّ على الثأرِ بحدودِ المكانِ، بل كلُّ ما يشغلُهُ هو ألّا يتجاوزُ ذلك الحدِّ، فالحصيلةُ دومًا ما تأتي بنيةِ قطعِ الطريقِ أمامَ رغبةِ اليدِ في أنْ تمارسَ دورَها بحريةٍ كما  هو الحالُ في فيلمِ لورانس أوليفيه الذي منحَ تلك اليدَ فرصةَ كتابةِ سيرتِها الشبحيةِ تمثيلًا وإخراجًا. يعني، إنّها تنوجدُ على الركحِ الزمنيِّ: الصورةِ السينمائيةِ، كجهازٍ مفاهيميٍّ  ( بالمعنى الدُلوزيِّ للكلمةِ)  وهذا لم يتوفرْ في فنِّ المسرحِ إطلاقًا.

ـــ اليدُ الهيأةُ اشتغالٌ زمنيٌّ لا يمكنُ لفنٍّ أنْ تقاربَهُ تخومُ حركتِها سوى فنِّ السينما؛ لأنّها لا تظهرُ إلّا بوصفِها كاشفًا فكريًّا عن إمكانيةِ تحققِ الزمنِ خارجَ دائرةِ الماديِّ، مما يمنحُهُ شبحيةً عاليةً ترشحُ عن ذوبانِ تلك اليدِ في مستندِها الزمنيِّ: الصورةِ المتحركةِ، والأخيرةُ هي الحبلُ السريُّ بينَ العينِ والذاكرةِ، بل في أحيانٍ كثيرةٍ تصيرُ العينُ هي الذاكرةُ نفسُها.

ـــ لا وجودَ لصورةٍ ضبابيةٍ في السينما، إنّما هناك انتثارٌ يدويٌّ يمارسُ هيمنتَهُ على جميعِ تشكلاتِ التكوينِ البصريِّ وعناصرِهِ، تنتجُ عنه مراوحةُ رؤيةٍ بينَ التقويضِ كرؤيةٍ، وما بعدَهُ من تقويضٍ للتقويضِ نفسِهِ، وبعبارةٍ أخرى أثرٌ وامّحاءٌ في آنٍ واحدٍ، كاستراتجيةِ أشباحٍ في العودةِ، أو غيابُ مرايا في بعضِها فضاءً لامرئيًّا كما في ثلاثيةِ «جان كوكتو».

ـ من خصائصِ يدِ هاملت الأخرى، أنّها جديرةٌ بفتحِ طاولةِ حوارٍ معَ (الماضي والحاضرِ والمستقبلِ) وطاقةُ هذا تفجّرَتْ من عمقِ صلةِ هذه اليدِ بزمنٍ استطاعَ أنْ يتشبّحَ، ذلك في بلوغِ سريةِ حركتِهِ لثلاثيةِ الأزمنةِ. إذن، يدُ هاملت هي «شيبوليث» أجادَ الزمنُ نطقَها جيدًا، لينتقلَ بذلك من المسرحِ إلى السينما، بل من الواقعيِّ ــ الماديِّ إلى الميتافزيقيِّ والأنطولوجيِّ .

حاشية: هذه ليسَتْ يدًا، بل أثرٌ ليدٍ ، لا، بل هي اهتزازٌ لشبحٍ في حدقةٍ مرآويةٍ، وفي كثيرٍ من الأحيانِ لا تبدو سوى يدٍ تهمهمُ على أنّها يدٌ .. في نهايةِ المطافِ، هي يدٌ ما تنفكُّ تفكرُ أنْ تتصيّرَ يدًا .

ـ في أفلامِ «روبير بريسون» يلتقي هاملتُ عبرَ أعينِنا سرًّا بيدِهِ السندباديةِ، حيثُ الحركةُ أسفارٌ ورحلاتٌ في مدنِ الخيالِ، وغيابٌ في شساعةِ الصمتِ الأسطوريِّ الذي لا تنمو شجرةُ الرؤيةِ الخالدةِ إلّا في تربتِهِ.

ــ يدُ هاملت أبجديةُ أشباحٍ، تتلبسُ الصورةَ السينمائيةَ خيالاتٍ خارجَ سيطرةِ الزمنِ، بل خارجَ الزمنِ نفسِهِ، و ليس سواها جديرًا بلعبِ الغميضةِ مع الزمنِ أيضًا عبرَ الكاميرا.

ــ في السينما، ولاسيما في فيلمِ غودار (Nouvelle Vague) يدُ هاملت انتثارٌ سيمرغيٌّ، رحلاتٌ إلى حيثُ يجدُ الغيابُ لغتَهُ صورًا متدافعةً على نحوٍ من السريةِ العاليةِ، كما التأتأةُ التي هي أيضًا استراتجيةُ انتثارٍ ــ (بالمعنى الدريديِّ للمصطلحِ).

 

Related Articles

Back to top button