نصوصنصوص مسرحية

نص مسرحي: “يمّه… أني معلّمة…!!”/تأليف: شوقي كريم حسن

مونودراما ….

 

الاهداء/الى السومرية المعلمة التي تعرضت للضرب لانها طالبت بحقوقها!!

الزمان: {عراق ما بعد النكبة المستمرة}!!

المكان: {غرفة صغيرة، رثة، فيها سبورة مكسورة، بعض الدفاتر المتناثرة، وعلبة طباشير قديمة}

الديكور: {لا شيء يُغني عن الخراب، سوى الكلمات الصدئة…}

 

(ضوء خافت على امرأة خمسينية، بعباءتها السوداء، عيناها تشبهان دفاتر الغائبين، تمشي بخطى ثقيلة، تحاكي نفسها وتخاطب ظلاً لا يُرى)

المعلّمة: (بصوت مشروخ) يمّه…يمّه أني معلّمة،،مو ببائعة خضر بالسوق، ولا ست بيت تفتر على الجمعيات تشيل الكيلوات وتدور تخفيضات ..يمّه، أني خرّجت ثلاثين جيل،..بيدي هدّيت جهل، وبدموعي سقيت حروفهم..كتبت وياهم الألف، ووصلت وياهم للياء…يمّه، هذا كلّه، شلعوه مني…مثل ما ينزع العسكري البسطال من رجل الشهيد… ويضحك!!

(تقف فجأة، تضرب الطاولة بقوة، تطاير الطباشير) ضربوني..ايه ضربوني سحلوني من ردن عبايتي، جردوني من كرامتي ،،قالوا: “ هاي عميلة .!” وأني چنت بس أدرّس،،،چنت أشرح للمساكين ليش الشمس تطلع من الشرق..وليش النهر ينزف كل يوم ومحد يسأله منو ذبّك هيچ؟!!

(تضحك بسخرية، ثم تبكي) بس الوجع مو بيّه،..الوجع… باللي شفته..اخ من الي شفته (تصرخ) دخيلك ياربي،،دخيلك يامن گلت لرسولك اقرأ،،،مديرنا…مدير المتوسطة، أبو قميص مشجر، والعطر الفرنسي، وصوت مثل الرعد بالاصطفاف،،، مديرنا…يمشي على عكّازة، وياه عسكري يشدّه من ياخة سترته..مثل الطفل اللي أضاع أبوه بالزيارة،،..يضربه..أي والله، يضربه ويگول: “ليش انت چنت مدير؟! ليش تعلمت؟!”

(تقترب من الجمهور، كأنها تهمس) شلون تريدوني أسكت؟ شلون ما أنهار وأنا أشوف اللي چنت أهابه، ينهان؟ شلون أبقى معلّمة والدرس صار عن الذل، مو عن الضمائر الحيّة؟

(تصمت لحظة… تنظر إلى الأعلى) يمّه…..أني معلّمة..ما چنت غير بت للهور، چنت أحفظ الوطن على السبورة أكتب: “العراق واحد..”، وهم سووه كانتونات طائفية، يوزعون الأرواح مثل حصص تموينية!

(تدور حول نفسها كأنها تبحث عن شيء مفقود) وين صارت شهادتي؟ وين صارت سنواتي؟ وين راح صوتي يوم توسلت بطالب رسب حتى لا ينهزم؟ اليوم أني انهزمت! أني انضربت… قدّام طلابي! والغريب… ما واحد منهم طلع راسه وقال: هاي معلمتنا..هاي معلمتنا!!

(تصرخ فجأة) وينهم..وين ذوله الثلاثين جيل..وين اللي چنت أسهر أصحح دفاترهم…وينك يا عباس، يا فاطمة، يا نجم، يا حسن..ماكو؟ كلكم صرتم موظفين؟ ضباط؟ حُجّاج؟ بس ولا واحد بيكم تذكر أني علّمتكم معنى “لا تسكت عن الحق”؟!

(تركع على ركبتيها) أريد أموت واقفة بس العراق ما يخليني..يگلي: “انهضي، بعدك عندچ درس آخر”!!

(تنهض بصعوبة، تتنفس كأنها تبتلع الهواء المحترق) رح أكمّل…بس مو بالحبر، بالحسرات..رح أدرّس، بس مو بالتباشير، بآثار البسطال على وجهي..يمّه، أني معلّمة،،بس راح أدرّس الوجع

(ضوء خافت يهبط تدريجياً، تجلس المعلمة على الكرسي، وجهها للسبورة المكسورة، تكتب بيد مرتجفة):الدرس الأول: “الكرامة لا تُشرح… بل تُعاش”

(بصوت متهدج، تحاول أن تبدو ثابتة):گلي… گلي شنو تريد تعرف؟ شنو التهمة؟ چنت أعلّم الوطن؟ چنت أشرح لهم ليش ما نكسر خاطر اليتيم؟ چنت أعلّمهم شلون يصير الحرف جسر مو خندق!!.

(تضحك بسخرية) بس يمكن… يمكن غلطتي أني ما چنت أخوّن ما علمتهم الحقد، ما سلّحتهم بالكراهية..چنت أقول: المحبة تصنع بلد..وهم يريدون وطن من فزعات وثارات…

(تنظر للجمهور كأنهم المحققون) تسألني عن علاقتي بالمدير؟ أبو علي؟ الرجل اللي چنت أشوفه واقف بكل صباح مثل عمود نور..صار هسه…خشبة مكسورة يشدّونه للعكّاز

قالوا: عميل..خائن.شيوعي ،،بس گبل لا تصيرون ثوار، ليش ما تسألون: شنو سوّى؟ر نظّف المدرسة، وسوّا لنا مكتبة… منع العساكر من دخول الصفوف،،… خاف على البنية من نظرة مشبوهة!!

(تصرخ ، تنهض، تمسك الكرسي وترفعه كمن يريد أن يضرب به) هو هذا إرهاب… هذا اللي يستحق السحب من ياخة سترته..إنتو ما تعرفون شنو يعني “تنهان المعلّمة والمعلم”يعني تنهار مدرسة كاملة! يعني تنطفئ شمعة ورا شمعة، ويبقى الصف مظلم.،ويجي طفل گصير، ما يعرف شلون يكتب اسمه..ويگول: “يمّه… ماكو معلّمة”!!

(تتنفس بقوة، تحاول أن تهدأ، تجلس ببطء) تريدون أعتذر؟ لا والله..حتى لو تصلبوني على حايط ما أعتذر عن علم زرعته،.ما أعتذر عن دمعة وقعت على دفتر، لأن الطالب كتب “أحبك يا معلمتي”

(صمت ثقيل) تدري شنو القهر؟ مو الإهانة..مو الركلة..مو الدم..القهر… الطالب اللي چنت أطعمه من صمونتي هو اللي صوّرني بهاتفه..ونشر الفيديو وگال: “هاي عميلة ….!!”

(ضحكة مكسورة) وهو ناسي، ناسي إنّي چنت ألبسه قميص أخويه، لأن ما عنده قميص!

(تنهض… تتقدّم للمقدمة) يمّه…يمّه أني معلّمة..وإذا كان هذا هو جزاء اللي علّم،..أبشّركم: ما راح يبقى أحد يتعلّم..راح تصير مدارسنا ثكنات..والدفاتر أوامر..والطباشير أوامر..حتى صوت الجرس…رح يتحوّل لصفارة إنذار!!

(إضاءة تنسحب فجأة، تاركة بقعة ضوء واحدة على دفتر مفتوح وطبشورة مكسورة)

المعلّمة: (بهمس كأنها تخاطب الأشباح) السلام عليكم يا أولادي…أعرف ما بقى أحد منكم،..بعضكم راح لأمريكا، صار “دكتور”… بس ناسي شنو يعني يمسح الصبورة..بعضكم صار تاجر، ينفخ چايه بورق الدولار.. بعضكم… لبس بدلة العسكري، ونسى إنّي چنت أدرّبه على كتابة اسمه عدل!

(تتجول بين الكراسي، تلمسها وكأنها تلمس أرواح طلابها) هاي چانت چلسة عباس…الله، چنت أخاف عليه من برد الشتاء،،، أطيله شالي، وأكلّم المديرة: “عباس بردان… خلي المدفأة تشتغل!” بس هسّه عباس…عباس هو اللي كتب تقرير عني.. گال: “المعلّمة تبث أفكار مسمومة”..المسمومة يا عباس؟ أني؟ اللي علمتكم“المحبة تربي، مو العصا”؟!

(تجلس على الطاولة، تفتح الدفتر، تبدأ بالقراءة بصوت مرتجف) أجمل من أمي، تعلمنا بحنان” كتبتها فاطمة…وينچ هسّه يا فاطمة؟ صار عندچ أطفال..تعلّمينهم شلون يقرون..تحچيلهم عن معلّمتچ؟ لو تقولين لهم: “هاي چانت وحدة قديمة، مكانها بالمتحف”؟

(تغلق الدفتر ، تنهض واقفة) كلّكم نسيتوني…بس أني… ما نسيتكم ما نسيت عرق وجهي وأنا ألملم دفاتر الغش منكم..ما نسيت دموعي وأنتم تتخرجون وتنسوني..!!

(تصرخ فجأة، تمسك الكرسي وترميه أرضًا) كرامتي منو يرجعلي إياها؟ منو يمسح دم الكف اللي طبّ على خدي..منو يقدر يقول لأبني: “أمّك مو مجرمة… أمّك تحب العراق”؟!

(تنهار جالسة على الأرض، تحتضن الدفتر كأنه طفلها الوحيد) يمّه…يمّه أني معلّمة..آخر دروسي… كتبتها بدمّي..مو على السبورة، كتبتهه على جدار الزنزانة،،كتبت: “اللي يعلّم وطن، ما ينذل…حتى لو سقطت كل الدول”

(إضاءة تتضاءل ببطء، تبقى نقطة ضوء على الدفتر وحده، مفتوحًا على صفحة بيضاء).

المعلّمة: (بصوت ساكن ثم يتصاعد) بس كافي…كافي صمت..كافي نغلق الباب علينا ونبلع القهر بلقمة باردة..كافي نسكت على إهانة، نسكت على تجهيل، نسكت على تمزيق هويتنا، صوتنا، إنسانيتنا…!! يمّه… أني معلّمة،..بس مو وحدي… لا، وراي آلاف،..رجال ونساء، عيون منهكة، وبجيوب فاضية، وأرواح مكسورة بس بعدنا واقفين…واقفــــــــين!

(تنهض ببطء، تتكئ على الطاولة، وترفع الورقة أمامها، تتحدث كأنها تُلقِي بياناً تاريخياً بصوت واضح)إلى من بقي في هذا الوطن…نحن المعلّمين، لا نحمل السلاح… نحمل سبورة…لا نصرخ في المعارك… بل نهمس في آذان التلاميذ: “كُنْ”! نحن الذين نمشي حفاةً فوق دماغ الخراب، نعلّم أبناءكم اياكم وان يُصبحوا ذئاباً..نحن من طبع أصابعه على قلب كل جيل، ولم يُطبعها على أوراق الحروب،،والزنازين! !

(تصمت لحظة، ثم تنفجر من داخلها حرارة الرسالة) علمناهم كيف يكتبون “الوطن”،..ما علمناهم شلون يبعوه! زرعنا فيهم “الضمير”،ما درّبناهم على رصّ الصفوف للطائفية!

قلنا: الدرس الأول حب، والدرس الثاني احترام،..ما كتبنا “حيّ على القتل” على السبورة..ليش تتركونا نُهان..ليش ينضرب المعلّم في الشارع كأنه نشّال..ليش يُركَل صوتنا، ويُهان فكرنا، وتُنسف كرامتنا؟!

(تقف، تحمل الورقة، وتبدأ تقرأ بصوت أعلى، كأنها تقرأ تجمعٍ بشري ضخم) من قلب الصفوف الفارغة، نكتب: نحن لسنا ضحايا… بل جذور! نحن لسنا بقايا نظام… بل صُنّاع وجدان..إذا سقطت المدرسة، سقطت الدولة..وإذا أُهينت المعلّمة، أُهينت الأم..وإذا سُجن المعلّم، أُعتقل الحرف!

(تنزل عيونها على الورقة، وتوقعها باسم كل المعلّمين والمعلّمات) الموقّعة: سعاد إبراهيم، معلّمة، ووراي ألف معلّم ومعلّمة… ما باعوا الوطن، بل كتبوه على الصدور.

(تطوي الورقة، تضعها داخل ظرف، وتخرج من جيبها شريطاً أحمر، تربطه حول الظرف مثل ختم دموي تنظر للجمهور)

المعلّمة: (بهدوء)ما راح أسكت بعد، إذا انكسر صوتي، فصوتي صار جماعي. إذا شتموني… فوراهم جيل راح يشتم الجهل.،إذا نزعوا مني العنوان…العراق كلّه صار دفتر بيه اسمي..!!

(تخرج من الصف، تمشي ببطء، والضوء ينطفئ خلفها، تاركاً الورقة على الطاولة، مشعة كأنها شعلة وسط ظلام الوطن)

(بعد ايام معدودات قد تبدء حكاية اخرى)

Related Articles

Back to top button