مطلوب مهرّجين: حين يُستدعى المهرّج ويسكتُ المفكّر/ ياسر اسلم

تأتي مسرحية “مطلوب مهرّجين” ضمن عروض مهرجان الدوحة المسرحي (تأليف: تغريد الداود، إخراج: فالح فايز)، لتطرق أبواب واقع مأزوم، لا من باب التبشير ولا الفضح، بل عبر طرح سؤال بسيط في ظاهره، عميق في امتداداته: ما مصير الفنان حين لا يجد لنفسه موضعًا في مجتمعه؟
في هذا العمل، يسكت المفكر ليُستدعى المهرّج، وتُوضع الفرقة المسرحية أمام مرايا مشوّشة: يُطرد أعضاؤها من مقرهم، ويُعرض عليهم لاحقًا العمل في سيرك. لا شيء يُعطى ببساطة، ولا شيء يُدان بشكل مباشر. كل شيء يُلمَّح له، ويُترك معلقًا على الخشبة كجرس لا أحد يجرؤ على قرعه.
كتبت تغريد الداود نصًا يعرف طريقه إلى القارئ دون أن يتوسل، نصًا ينتمي لمدرسة “السهل الممتنع”، حيث تُقال الأمور الكبيرة بأبسط الجمل.
النص ليس مجرد احتجاج على التهميش، بل هو تأريخ غير مباشر لانكسار الذات الفنية في مواجهة بنى الإنتاج والعالم الذي لا يرى الفنان إلا مهرجًا أو خطرًا.
وقد بدت الكلمة هنا أسبق من الجسد، وقوة النص أعلى مما احتملته الخشبة.. لا تقصيرًا من العرض، بل فضلًا لما خُطّ. ومن هنا، تبدأ مهمة الإخراج في تحويل رمزية النص إلى فرجة مسرحية محسوسة.
الإخراج لفالح فايز حاول أن يسير على حبل رفيع بين النص والفُرجة. أنجح محاولاته جاءت في التحوّل البصري من فضاء الشارع إلى فضاء السيرك، حين استُخدمت الستارة والرقصات لتوليد لحظة انتقال سلسة وذكية، ساعدت على رفع الإيقاع وتحريك المعنى بصريًا.
وفي عمق الخشبة، شاشة تنبض بصورة المكان، تُضفي بُعدًا بصريًا يعمّق الإحساس بالفضاء.
لكن هذه النجاحات لم تخلُ من بعض العثرات، كأن المخرج، وهو يحاول ألا يختلّ التوازن، اختار أن يترك بعض الرموز دون مرافقة كاملة.
فالسيرك، كما قُدّم، بدا أقرب إلى فكرة لم تكتمل، أكثر من كونه فضاءً نابضًا بالدهشة. أما التمثيل، فقد حاول أن يعوّض بعض ما لم تكتمله الصورة، بحضور أدائي متماسك.
توزّع الأداء التمثيلي على مجموعة من الممثلين الذين قدّموا أدوارهم بحضور متماسك، استطاعوا من خلاله الحفاظ على إيقاع العرض ونقل صراعات النص إلى الخشبة.
قدّم محمد العجمي (الكاتب)، شعيب الكواري (الممثل)، إبراهيم لاري (الموسيقي)، ومريم زيدي (الممثلة)، وموري (المتسول) أداءً منضبطًا، مع تفاوت في الحضور الداخلي والتوهج اللحظي.
من جهة أخرى، بدا واضحًا أن دور الموسيقي لم يُفعّل بصريًا كما يجب؛ إذ دخل حاملًا آلة الجيتار التي لم تُستخدم مطلقًا، في حين كان الطبل هو العنصر الوحيد الذي أدّى وظيفة موسيقية حقيقية.
كأن الموسيقى قُدّمت كهوية مرئية أكثر منها فاعلية درامية.
أما أمير لسّمال (مدير السيرك)، فقدّم أداءً فارقًا ومسيطرًا. كان أشبه بنقطة مركز تدور حولها الفوضى، طاغيًا مبتسمًا، يحمل سحرًا ساخرًا.
تنقّل بسلاسة بين الهيمنة والخفة، وأمسك بإيقاع العرض كما يمسك الساحر بخيوط خفية، ليظل حضوره أحد أبرز عناصر العرض. ومن حول هذا الحضور البارز، بدأ الفضاء المسرحي يرسم تحوّلاته البصرية في انسجام مع تحوّلات الحدث.
اعتمد العرض على تكوين بصري منضبط، شكّله شارع ومقهى ومبانٍ متقابلة تمثل المقرات المختلفة، ثم تحوّل لاحقًا إلى سيرك ومن ثم يعود إلى الشارع كما كان، في مشهد دائري يُحاكي بنية النص الدائرية وعودته إلى نقطة البداية.
وقد أدار المخرج هذا التحول بسلاسة، خاصة من خلال توظيف الستارة والرقص الجماعي، ما أضفى حيوية على الانتقال الزماني والمكاني.
لكنّ بعض عناصر التكوين، مثل الجوقة، أثارت تساؤلات بصرية أكثر من كونها قدّمت وظيفة درامية واضحة. فقد بقيت الجوقة لفترات طويلة على الجانب الأيسر من الخشبة، في حالة مراقبة وتأمل صامت، دون مبرر داخلي، وكأن وجودها استُدعي لتحقيق توازن بصري لا أكثر، مما أثقل الصورة بدل أن يُفعّلها.
أما الإضاءة، فقد التزمت مسارًا وظيفيًا أكثر منه دلاليًا. لم تلعب دورًا في تعزيز التوتر أو خلق رموز لونية واضحة، بل بدت كأنها تؤدي دورًا تقنيًا أكثر من كونها عنصرًا تعبيريًا.
وربما يعود هذا إلى كون المخرج هو ذاته السينوغرافي، حيث غلب الانضباط على المخيلة.
في المقابل، جاءت الأزياء أكثر حضورًا ووضوحًا؛ إذ ساهمت في تمييز الشخصيات وتعزيز انتمائها الرمزي، وأضافت تماسكًا بصريًا في لحظات كثيرة، عوّض جزئيًا عن غياب الدلالة في عناصر أخرى.
ورغم تفاوت اكتمال العناصر، فقد نجح العرض في تقديم صورة مشهدية جميلة، ومكّنت فكرته من العبور إلى الجمهور.
استطاع العرض أن يصل إلى جمهوره بسلاسة، مقدّمًا تجربة مختلفة ضمن عروض مهرجان الدوحة المسرحي.
وبالرغم من بعض التفاوت الفني، فقد حمل العمل جرأته الخاصة، وأوصل فكرته بلغة سلسة وجميلة لا تخلو من رمزية.
لكن خلف المتعة، وخلف الضحك، وخلف هذا السيرك المفتوح على كل الاحتمالات، يبقى السؤال؛
هل لا زال للفنان مكان؟