مقالات

ماجد درندش في” حكاية درندش” صوت من داخل الدائرة.. تجربة لكتابة مضادّة / د. ماجد الأميري

تحمل نصوص / عروض الفنان العراقي ماجد درندش في طياتها قلقاً وجوديّاً عنيفاً وتتأسّس بالتدريج على أنقاض عالم رَخوٍ يقتل كلّ شيء؛ بما في ذلك الإنسان واحتمالات الانتماء للذات والمكان والتاريخ. وقد تشكّل هذا الموقف التعبيري منذ انغماره في تجربة ” المسرح الاحتجاجي ” مطلع الألفية الثانية من قرننا الذي نعيش، ولأنّ الأمر يتجاوز حدود الكتابة المسرحيّة “أدبيّاً” إلى توظيف العديد من إمكانات مَسْرَحَةِ الخطاب, التاريخي, والروائي, والشعري, واليومي وجميع أنماط التعبير القولي الواقعي والمتخيّل , أيّ خطاب حول هذه العناصر المذكورة, فإنه يوظّف كلّ ذلك بأكثر من تفسير وأكثر من تركيب. ويمنح نفسه حريّة التعبير عن كل شيء دفعة واحدة في مشهديه تتجنّب الثبات، وإن بدت ثابتة، وترتدي أكثر من قناع دراماتيكي ليتوغل في فضاء السرد- حكائي بعفوية ومهارة وأريحيّة تليق به وحده, ما يجعله مشاكساً ومتمادياً, يقلّب النظر بالسيّر شبه الثابتة ويضعها في مطحنة إعادة التكوين والتفسير, يدفعها لإزاحة الأقنعة عن الذاكرة, والوقائع, والحوليات المتداولة والراسخة, وقطائع الزمان والأمكنة, في دراميّة لغويّة دامية كأنها إحتفال طقوسي جماعي (رغم فرادة شخوصه وفردانيّة مصيرها ووحشتها) يعكس عذابات الإنسان ونزيفه المرّ في تراجيديا العذاب الجماعي الذي داهم جيل الحروب منذ ثمانينيات القرن الفارط، تريد أن تكون متصلة ودالّة على هذه ” المعاصرة اللازمنيّة”. بكلّ ذلك, وعبره, تتحقّق في حكايته الجديدة – المتجددة, مغامرة تأسيس بلاغة الكثافة. هذه الكثافة التي تأتي تارة محمّلة بالتصريح وتارة أخرى تكتفي بالتلميح, على أنّ هذا التوزّع بين حدّين من هذا القبيل يخلقُ ما قد نُسميه, عند الرغبة في التنظير المسرحي، أو للغة النص المسرحي, مجاز الكتابة.

لا يتوفر وصف.

وللكتابة، في هذه المشهدية الدّسمة, مجازات قصوى, منها  مجاز الواقع, مجاز التاريخ ، مجاز الهويّة, ومجاز اللَّعِب الدراميّ, استعارة الشخصيات والإطاحة بها على نحو بطيء ومن ثمة بنائها مرة أخرى. هكذا يتحوّل بناء النص المسرحي القائم على اللاخطيّة المجانبة للتطور الدراميّ, المتكيء أصلاً على الوقائع المعيشة, إلى آليّة مُيسّرة لعملية تفكيك وتشكيل الشخصيّة المركزيّة ” درندش المغامر “عبر نسيج قوي من الدوال والمدلولات- بعضها مُعْلَن, جريء, مقاوم وعنيد, وبعضها الآخر مُقنّع, مدين, مهادن.

في الصيغة الأولى نتلقّى قولاً- ملفوظاً عارياً يستبطن تناقضات المرحلة  المستبدة ساعة تبوح إنسجاميته الداخليّة:( ذكريات الطفولة والشباب في محلة الجديدة – قلب العمارة النابض، ثم بغداد الثمانينات وبداية التسعينات). وفي صيغة أخرى نتلّقى ما قد يفلسف موقفنا من العالم حينما تتكاشف الشخصيّة مع ضميرها: ( حين تعايش آلام الناس وعذاباتهم وأعطابهم في ظل الحروب والشَرطة والحصار والهروب من آلة القمع السوريالي). إنّ من يقرا كتابة ماجد درندش يحسّ بدفقٍ قويّ، على مستوى آنيّة الموضوعات التي “يعالجها” ( هل الكتابة علاج؟)… ومنها موضوعة الهويّة التي تقدّم لنا عروض درندش أطروحة مرجعيّة بصدّدها, وهي تتسق مع نصوصه السابقة التي كانت بلا وجوه, وبلا تقاسيم, وإن كانت “تتكلم” تمشي وتجيء, تسافر  تحب وتحلم, لها وجوه راسخة وتفاصيل معروفة, وتتحرّك عبر متخيّل متعدّد السمات والوقائع والأحداث, يحيل على شيءٍ بعينه, على أشياء بعينها, دون أن يظلّ معتماً, موغلاً في المتاهة.

لا يتوفر وصف.

وأعتقد أنه إختيار جديد يهدف من خلاله الفنان درندش ترهين مواضيعه المسرحيّة المعاشة رغم قدمها النسبي والعودة بها إلى أصلها التاريخي الذي إنبثقت منه. وهذا التنوّع المفارق, في إستلهام الوقائع التاريخية يخدم خطاطته الدراميّة ويخلق نصّاً فسيفسائياً يتكوّن من مقاطع متنوعة وألوان مختلفة تسمح له بتقليب النظر في شخصياته الممثلة, جوانيّاً وبرانيّاً, لكي تعبّر عن المعيش الّراهن. غير أنّ هذا لا يعني أنّ ماجداً  ليس متورطاً في فايروس الكوميديا السوداء والشاعريّة الشفيفة وهي تورق في دمه- كتابته وتمثيلا , كما هو متورط في المسرحة إلى الأذنين, خاصّة على مستوى التقنية عندما يتدخّل في السينوغرافيا المحتملة وفي المؤثرات الصوتيّة,  وفي تناغم مؤشرات الحركة والأداء, في الإنارة المكشوفة, وفي العرض وعلاقته بالجمهور عموماً.

وكما يتسلّح درندش بالمعرفة المسرحيّة للّغة والكتابة المشهدية والإخراج, يتسلّح بالوعي الجدلي بالواقع ليجعل نصوصه صكّاً للإدانة، وشهادة عن الناس والأوطان التي مر عليها أو عاش فيها, شأنه في ذلك شأن أي صوت مسرحي نزيه متورّط في الدائرة, دائرة المسرح التي لا أضلاع لها ولا هندسة سوى أضلاع الكتابة وهندسة التخيّل. والتخيّل في مشروع درندش تخيّل شاسع, يبدو تقليدياً, لكنه ينطلق فيه من عدّة إمكانات منها: السرديات التاريخيّة، والوثائقيّة, وتذويب النصوص الموازية داخل النص المركزي والميتا مسرح, داخل النص الجامع والنواة والرحم, بحيث يمزج أقواله بأقوال الشخصيّات حتى يلتبس الأمر فلا نعرف هل الكاتب “يتكلّم” أم الذات؟ هل الشخصيّة, أم الشخوص, أم شخوص تقف خلفهم جميعاً؟. “الشخصيّة” في المسرح دائماً ” قناع”, وكانت دائماً ” قناعاً” في مسيرة المسرح كفنّ قوليّ- مشهدي- إستعراضي, وحتى عندما ينعدم القول وتحلّ محلّه الإشارة والإيماءة, فإن القناع ينتصر ليجعل شخوص العرض نظاماً إفتراضيّاً لعالم محتمل الوجود, فكيف الحال مع وجود واقعي –تاريخي ممتد إلى هذه اللازمنية المعاصرة.

لا يتوفر وصف.

في سرديات ماجد درندش ومشهدياته, تختفي وراء القول أقنعة أخرى, كما تختفي وراء الشخصيّات أقنعة لشخصيّات أخرى, وأعتقد أنّ في هذه التجربة, على مستوى الكتابة, ما يؤسّس لكتابة جديدة يلتقي فيها مع عدّة كتاب من الوطن العربي، نذكر على سبيل التشخص الكاتب والممثل المغربي عبد الحق الزروالي, والمبدع التونسي الكبير توفيق الجبالي ،،، بغية جعل المسرح أفقاً لتحرير حدود المسرح من المسرح: هناك الأدب, والتاريخ, وهناك ” السياسة” والآيديولوجيا ثم هناك غواية الكتابة بالأساس, وأن تكتب معناه أن تعشق ما تكتب ثم تدفع المتلقي إلى متعة قراءته. لقد تمتعت بقراءة العرض( القديم والحالي), وتماهيت معه في إصطياد بعض مكامن الإغراء, على أن ما شدّني أكثر في كل هذا هو مجازات الكتابة وهي ترتحل من برزخ إلى برزخ, ومن جزيرة إلى جزيرة, ومن أرخبيل إلى أرخبيل في تفاصيل المآسي القائمة في أوطاننا العربية.

لا يتوفر وصف.

فهل هناك ما هو أقسى من هذه المآسي؟ لا أدري, كل ما أدريه أنني تعرّفت على ماجد ذات مرة قبل أزيد من ثلاثة عقود في زوايا العمارة مدينتنا المشتركة, ثم في أكاديمية الفنون الجميلة – قسم المسرح،  وعشنا مرات خاطفة في الأقبية والمقاهي والحانات شربنا فيها مرارتنا المشتركة, قرأت ما كتبه / يكتبه, فهمت أشياءً وغابت عني أشياء, رغم أنّ كتابته تندفع غاية بكل صراحة وتشكل دفاع تنويهي عن إنزلاق الخيال في التاريخ والوقوع في الأسطرة الدوغمائيّة, كما تمثل مقاومة جريئة ضدّ بياضات الوقائع التاريخية والمعيش المر وافتراءات المصنفات الأدبية المتفشية مثل حقائق إلهيّة. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تُقال عندما لا نجرؤ على إدراك المجاز… معذرة إن تجنّبت التأويل, التأويل يقتل اللغة والأدب والمسرح كما يقتل الحياة.

 

Related Articles

Back to top button