دفتر مسرحي..هوامش على سيرة مسرحية/ ميشيل الرائي

قال لي خبيرٌ في الرموز ذات مرة إنّ الثلج حين يسقط في غير فصله لا يكون ثلجًا، بل ذكرى مناخ.
وأنا أصدّقه، على مضض.
فالثلج الذي رأيته لم يكن سوى نسخة بيضاء من صمتٍ لم أعد أتحمّله.
لكني – وبتواطؤ لا يخلو من سوء نية – اخترت أن أبدأ من الثلج.
لا لأنه رمز، ولا لأنه استعارة ميتافيزيقية عن النقاء المستحيل،
بل لأنه في ذلك اليوم – كما في الأحلام الرديئة – تساقط على النباتات الصناعية التي كانت تزيّن صالة الانتظار في مصحّة للأمراض النفسية،
حيث علّقت عجوز غريبة لوحةً على الحائط كتبت فيها: “الجمال لا يُشفى”.
🔸 «يرفض أرتو المسرح القائم على النص… يريد لغة مستقلة من واقع المسرح نفسه»
🔸 «أرتو كان اسمًا ذا سلطة على الكلمات، علاجًا غريزيًا لمرضي»
ربما لم أكن أنا من كتب هذا.
ربما فقط وجدت النص في مظروف قديم عليه ختمٌ ما.
وربما كان من الأفضل أن نتركه مغلقًا.
لكن ما العمل؟
الحروف حين تتجمّد، تبدأ بالبوح.
المشروع المسرحي لأرطو غير قابل للتحقيق الكامل مسرحيًا،
حتى لو كان يشكّل محفزًا جوهريًا.
ليس غريبًا إذًا أن يبدو أرطو في كتاباته أقرب إلى مناجاة نبيّ، أو صرخة نُسّاك مَرَضى، أو تدوين مفكك لشريعة ما قبل الوجود.
🔸 «رسالة أرطو المسرحية أكثر صعوبة… إنها نوع من المحرقة الذاتية»
🔸 «أرطو يظلّ دائمًا سجينًا لنفسه»
لقد رفض النص لا لأنه يكره المعنى، بل لأنه يعجز عن احتماله.
تمامًا كما لا تُشرح النار، بل تُلامس أو تُحرق.
في عالمٍ شبعت فيه اللغة من نفسها، لم يعد المسرح، في نظر أرطو، بحاجة إلى نص،
بل إلى طقس جديد ينهار فيه المعنى.
حين ينتصر الطاعون على المدينة، ينتصر المسرح على اللغة.
العدوى لا تحتاج دائمًا إلى لمس، أحيانًا يكفي أن تصغي بانتباه.
يولد المسرح عندما ينهار الفرق بين العدوى والتمثيل.
في المدينة التي رفضت السفينة، ولد سؤال فلسفي:
هل الحلم دفاع بيولوجي أم نبوءة ميتافيزيقية؟
الفيروسات قد تكون بيولوجية، لكن الاستبداد غالبًا ما يبدأ كتأويل خاطئ لحلم.
أراد أرطو من “مسرح القسوة” أن يكون أداة كشف لا أداة رواية.
أن يكون غابةً من الرموز البدائية، من الصرخات، من الأجساد التي تفجّر صمتها دون أن تفسّره.
مشهدٌ يذكّرك بأنك لا تفهم لأنك إنسان، بل لأنك خضعت لمؤامرة اللغة.
إنّ ما يفعله أرطو ليس تعذيبًا للجسد بل تطهير له من استعاراته.
الجسد المسرحي في منظوره لا يخضع للتمثيل لأنه لم يعد أداة عرض،
بل صار هو العرض ذاته:
وحدةً أولى للوجود قبل أن يُجمّده الخطاب.
أرطو لا يكتب ضد الإنسان، بل ضد صورته المطمئنة التي صاغها اللاهوت والعلم والأدب.
ليست القسوة عند أرطو حدثًا مسرحيًّا، بقدر ما هي تفكيك لاهوتي لأسطورة الإنسان “المُمَثل”.
ليست تمرينًا على الألم، بل استدعاء لجسد لم يسبق أن خضع للترميز.
ففي أنطولوجيا أرطو، الجسد لا يُصوّر، بل يُنزَع من شبكات المعنى،
من سلطة النحو، من التعريفات التي أحكمت عليه قبضتها منذ أفلاطون وحتى المسرح البرجوازي.
في مسرح القسوة، لا يعود الزمن خطيًا، بل يعود إلى بدائيّته:
زمن ما قبل اللغة، ما قبل الصوت المفهرس،
حيث يتجلى الإنسان لا كذات بل كرمز لم يُشفَّر بعد،
ككائن ينهار في حضرة مرآة لا تعكس شيئًا سوى عريه المطلق.
تلميذ الروح الأرطوية، لا المذهب.
شاهد على الحريق، لا مشارك فيه.
نصٌ نباتي. نعم.
لكنّه من ذلك النوع النباتي الذي يتغذّى على الطحالب الميتافيزيقية، والذي لا ينمو نحو الشمس، بل نحو اللاشيء.
هل قلت “نمو”؟ سامحني أيّها القارئ.
نحن هنا لا نتكلّم عن تطوّر، بل عن تحلّل،
عن لغةٍ تتعفّن لتنتج رائحتها الخاصة،
عن ضحك لم يعد يملك عضلات وجه،
وعن مدينة تُعيد تصحيح مجد الطفل يسوع كما لو كانت تُعيد تسمية أخطائها بلغة شعرية.
القسوة، بهذا المعنى، ليست فعلاً عنيفًا، بل جذرًا ميتافيزيقيًا لموقف إبستيمولوجي:
إنها رفضٌ جذري لأن تكون الحقيقة قابلة للصياغة البلاغية،
وتمرّد على اللغة كقالب للمعنى.
فكما يتمرّد التصوّف على الشريعة المكتوبة لصالح الإشراق،
يتمرّد أرطو على النص لصالح الوحي الجسدي،
لا بوصفه لغة بل ككينونة تنفجر على الخشبة.
الإرهاق الذي يُمسك بالجسد، ليس تعبًا فيزيائيًا،
بل استنزافًا للذات من نفسها، كما لو أن الهوية انفصلت عن أعضائها،
وتفرّقت في نُسَخ هشّة، في كُتَل متشظية،
تتوسل شكلًا، أو تستعيد شكلاً كان، أو سيكون، ولا يكون أبدًا.
الطاعون، في هذا المعنى، ليس وباءً.
إنه تفكك البنية التي تسعى أن تُسمّى “جسدًا”، وهو ما لا يُشفى منه.
لأن ما ينهار ليس الجسد وحده، بل الخطاب الذي كان يحاول أن يسميه جسدًا،
والمخيال الذي كان يربطه بفكرة “الذات”.
كان يمكن أن يبدأ كل شيء من خدش على جدار،
أو من وصمة شحم على غلاف كتاب طُبع في نابولي عام 1764،
أو من ملاحظة هامشية دوّنها ناسخ مجهول في مخطوطة محروقة جزئيًا،
عُثر عليها تحت أنقاض مكتبة خاصّة في ضاحية خربة من ضواحي حلب.
ومن هنا تبدأ الحكاية.
لا كقصة.
بل كترسّب بَطيء لما بقي من سرد لم يعد يجد مَن يرويه.
البقعة ليست عرضًا. إنها توقيع.
ليست ظاهرة جسدية، بل كتابة أولى، أركي-كتابة لجسد يُعاد ترتيبه تحت وطأة لا-قانون داخلي،
قانون بلا مركز، أو مركز يُمحى لحظة ظهوره.
ميشيل الرائي/ محب للمسرح