مقالات

اغتراب الذات الكونية في مسرحية “قمر احمر” / د. زينب عبد الامير

ما نعيشه اليوم هو حالة من الآنية والتفاعلية في ظل ما نشهده من تسارع تكنولوجي مخيف لوسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات وغيرها من الوسائط الرقمية التي اقصت فعل خصوصية الشيء او الحدث، وهو ما تنبأ به العالم الكندي (مارشال ماكلوهن) حين رأى ان العالم المترامي الاطراف سيتحول الى مراكز (ارسال وتلقِّ) لا يفصل بينها سوى جزء من الثانية، وان سكان كوكب الارض بدوله المختلفة اشبه بسكان قرية صغيرة، ما يجري في بيت من بيوتها سرعان ما يعلم ويتأثر به كل سكانها، وهذا بدوره ألقى بظلاله على الذات الانسانية (الكونية) بجعلها ذاتاً مغتربة منفصلة عن هويتها، مشاعرها، كيانها، قيمها … تعاني الانشطار او الضعف والانهيار والعزلة واللاانتماء، متجهة نحو اللامعنى واللامعيارية والعجز والتشيؤ والتمرد والرفض، ذلك ان الاغتراب ظاهرة وفقاً لما تناوله الفلاسفة – قدماؤهم ومحدَثوهم- تتعمق مع تعقد العلاقات الاجتماعية ونمو المجتمعات البشرية وتطورها، كما يتفق علماء الاجتماع على ان التغير الاجتماعي السريع والتطور التكنولوجي الهائل من الاسباب الرئيسة التي تقبع وراء قيام حالات اغترابية كثيرة، فالاغتراب من وجهة نظرهم ظاهرة عالمية تكشف النقاب عن انخلاع الانسان وابتعاده عن الواقع المعيشي الذي تحكمه الممارسات الشاذة والمتسيدة.

مدخلي الاستهلالي اعلاه كان تمهيداً لما خالجني من شعور وانا اتأمل عنوان مسرحية “قمر احمر” وهي تسمية اثارت فضولي للغوص في ثنايا محمولاتها الثقافية، فالمفردتين معاً تمهدان لتلقي كارثة كونية ما، تشكل علامة نذير شؤوم في الغالب، ذلك ان بعض الثقافات تعتقد ان ظهور القمر الاحمر (الدموي) يعني ان الوقت قد حان لاستكشاف جانبنا المظلم والتعمق في المشاعر الخفية في عقلنا الباطن كالغضب والحزن، وفي ثقافات اخرى يرمز القمر الاحمر الى الموت كما في حضارة بلاد ما بين النهرين، ويعتقد البعض انه ينبئ بنهاية العالم القادمة!! وبهذا فقد كان المعدّ (جميل الرجة) موفقاً باسناد محمولات هذه التسمية لجنس المونودراما.

“قمر احمر” مسرحية تنتمي للمسرح الجاد (المونودراما)، معدّة عن رواية (شموع على ارصفة الكرادة) للكاتب العراقي (جمال حيدر)، اعداد (جميل الرجة)، اخراج (علي عادل السعيدي)، تمثيل (همسة هادي)، سينوغرافيا (عصام جواد)، موسيقى (حسين جميل)، ادارة مسرحية (اسامة خضر)، وتقصدت هنا ان اذكر اسماء كادر العمل جميعهم لان ولادة عرض مسرحي لا يأتي الاّ بجهود مضنية جداً!! قدّم هذا العمل بواقع يومين (الاربعاء والخميس) الموافق 23-24 من شهر نيسان لعام 2025 على خشبة مسرح الرشيد ، وهو من انتاج نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح.

الرؤية التحليلية للعرض:

تدور احداث هذه المسرحية حول حادثة تفجير (مجمع الليث) في منطقة الكرادة في بغداد عام 2016، ذلك الحادث الأليم الذي اسس له المعدّ والمخرج نقطة انطلاق حقيقية في النص والعرض لتجسيد حالات الوجع العراقي بشكل خاص والوجع الانساني عامة، ولما لا؟ فما يحدث هنا يحدث هناك في اي بقعة من بقاع الارض !! وما يحدث لي ولك، يحدث للآخر!! حالات لشخصيات عانت الاغتراب جسدتها الممثلة الواعدة (همسة هادي)، شخصيات منفصلة عن ذواتها، تعرضت الى الضعف والعجز والانهيار والفقد والخوف والخذلان والهامشية الاجتماعية، عانت الوحدة والعزلة (استفيق بعد سبات طويل بعد ان هجرتني المدينة) بل كأنها تجسد الذات، الهوية، المعنى، الوجود، الكيان، الحياة… جميعها استفاقت لتحاكم المجتمع والعالم اجمع بسياساته وانظمته عبر شخصيات عدّة منها ما تجلت لنا في بداية العرض (الشاعر، السكير، المجنون)اختارها المؤلف والمعد بعناية كونها تشترك في نقطة واحدة الا وهي الهذيان !!  ولقد كان لمخرج العرض لمسته المميزة وفقاً لرؤيته الاخراجية بإضافة شخصية الرصيف المؤنسنة والتي باحت من خلالها الممثلة بالكثير من الاحداث، وهو تجسيد مغاير ومعبّر لذلك الجسد المثقل بضياع الهوية، نعم فهو خير شاهد على ما مرَ عليه من خطوات سريعة الايقاع وبطيئة، خطوات الثائرين، البائسين، الحالمين، المشردين بل وحتى القتلة!! جسد مثقل بالضياع والصمت الذي يلف المغتَصِب والمغتَصَب دون جدوى، جسد مثقل بأرواح الشهداء التي مرّت من قوقه وحسرات امهاتهم الثكالى وامانيهن الضائعة!! جسد عانى الاغتراب الاجتماعي اذ لا تفاعل بينه وبين ذوات الاخرين (المارّون) عانى ضعف الاحساس بالمودة والألفة الاجتماعية معهم (همَكم ان تروا شكلي وألواني ومظهري .. اما روحي فياليتها لم تُخلق لتُهمل)، جسد يحاكم المارّون (الناس، الخطوات، الحشود …) وكأنه ذات انسانية (كونية) مغتربة تحاكم الاقدار، الانظمة، الهيمنة، التسلط حتى انها تمنّت ان تحيا في احلام من خذلوها وان تكن جزءاً يسيراً من آمالهم ورغباتهم ولكن لا حياة لمن تنادي!! ضاعت الذات الانسانية والهوية في ظلمة الرعب والعدوانية والجهل (ايها المارّون .. ايها المثقفون …) حتى بائع الكتب المثقف تلك الشخصية التي حملت على كتفها يافطة كُتِب عليها ( الكتاب مجاناً للمثقف الي ما عنده راتب) فقد اعلنت عن اغتراب المثقفين عن ذواتهم وكينونتهم وجوهرهم بالا مبالاة، لا احد يشتري الكتب!! بل وحتى كتاب فن اللا مبالاة (لمارك مانسون) لم يحظى باهتمام المثقفين والقرّاء المارّين!! فالمثقفون لاهون مغرقين بالسوشيال ميديا التي امتهنت خصوصيتهم وسلبت هويتهم!! (اشو ماكو احد ؟؟ يمعودين مجاني الكتب .. مجاني!!) تعود الممثلة لتجسيد شخصية الرصيف مرة اخرى ولكن لا لتحاكم المارّون بل لتحذرهم من خطر الوحوش (همينة العولمة والتبعية) فهي نذير موت للشعوب المهيمنة عليها (وحووش … وحووش .. وحوش تعوي منتظرة وليمتها) جمل لحوارات رددتها الممثلة همسة هادي باللهجة العامية وباللغتين العربية الفصحى والانكليزية لتعلن عن كونية الكارثة المنتظرة!!

تتعالى صرخات التحذير مع تصاعد التوتر حتى بلوغ الذروة، ذروة الصراع بين شخصية الرصيف والمارّون الذي انتهى بانفجار مدوي رافقته مشاهد توثيقية لتلك الفاجعة التي حدثت في منطقة الكرادة عُرضت على شاشة الداتاشو، والتي وثقت صرخات الامهات واصوات الناجين المفجوعين من هول ما عاشوه من موت حقيقي لحظة التفجير!! نعم اعلن هذا الانفجار عن موت المنادي (شخصية الرصيف) والمنادى (المارّون) .. اعلن عن موت الذات الانسانية ليخلف اجساداً ميتة واخرى منقادة بلا روح او معنى … ولكن!! ولكن تعود الممثلة في نهاية العرض لتقف خلف مجموعة الواح ترمز لتوابيت عُلّقت عليها ورود حمراء وتظهر خلفها صورة القمر الاحمر لتوجه رسالة لنا مفادها ان ما حدث سيحدث مرة اخرى بطرق اخرى!! وكأنها شاهد يتنبأ بمصير الاجيال القادمة التي ستلقى حتفها ايضاً باغتراب الذات الانسانية، لم يكن هناك امل!!

المعالجة الاخراجية للعرض:

رغم ان العرض المسرحي “قمر احمر” ينتمي لجنس المونودراما (مسرحية الممثل الواحد) وهو جنس غالباً ما تكون موضوعاته مأساوية الطابع، وتميل لغة الحوار فيه الى السرد المطول لأنها تعتمد غالباً على تداعي الافكار، الاّ ان المخرج علي عادل السعيدي استطاع ان ينتزع دهشة وانجذاب الجمهور طيلة مدة العرض الذي لم يتجاوز الاربعون دقيقة، من خلال ما خلقه من معالجات اخراجية امتازت بالتنوع والمغايرة والاختزال المدروس، استطاع من خلالها ان يمسك بجميع عناصر العرض ليترجمها الى عرض ابداعي ووحدة تركيبية وليدة البنية الدرامية للنص بحسب قراءة المخرج الخاصة للنص، اذ تحققت هذه الوحدة عبر تكاملية الاداء التمثيلي للممثلة (همسة هادي) مع الاشتغالات الدلالية والجمالية لعناصر سينوغرافيا العرض المسرحي الى جانب تقنية الداتا شو، وتأكيداً لكونية الحدث والفكرة الاساسية للعرض عمد المخرج الى اظهار الكرة الارضية بحركتها الدورانية على شاشة الداتا شو في بداية العرض، لتظهر بعدها البيئة المكانية للاحداث (الديكور) والذي اشار لموقع الانفجار عبر ما شاهدناه من احجار متراكمة والواح معلقة، وقد بقى الديكور ثابتاً طيلة مدة العرض الاّ انه كان نابضاً بالحياة والطاقة الحركية منسجماً مع سياق الحدث بفعل ما حققته الاضاءة بألوانها وشدتها وبقعها المتحركة المتفاعلة معه، فضلاً عن تمتعه بتكوينات سمحت للممثلة للتماهي معه عبر مستويات عدّة، اما ملحقات الديكور فقد امتازت بتعددية التوظيف، كالمصطبة التي تم توظيفها عدة مرات طيلة مدة العرض لتكتسي في كل مرة دلالة مغايرة منسجمة مع نسق الشخصية وحواراتها، فتارة تصبح منصة شاعر وتارة تتحول لجسد المغتصَب وتارة لجسد المغتصِب وتارة تتحول لتابوت يحمل الشهيد وتارة تتحول لمصطبة يضع عليها بائع الكتب كتبه المنسية، كما ان الالواح المستطيلة المعلقة جاءت بتوظيفات عدّة تسمح للقارئ ان يتداولها وفقاً لسياق الحدث المسرحي، تارة تصبح ارصفة لتسند شخصية الرصيف وتارة تتحول لمرآة وظفها المخرج ليشرك بها الجمهور(المارّون) بحوار هذه الشخصية عبر توجيه الضوء المنعكس عليها اليهم، وهي معالجة ذكية لتذويت الجمهور بمشاعر شخصية الرصيف واقتراح تفاوض علائقي بين الشكل الفني والجمهور، وتارة وظفت الالواح بوصفها توابيت علقت عليها ورود حمراء،  ولم يغِب عن ذهن المخرج توظيف مفردة عيانية بسيطة الاّ وهي الخوذة الحمراء لرجل اطفاء الحريق والتي ارتدتها الممثلة في استهلال العرض وفي وسطه عند حمل تابوت الشهيد، ليثمن دوره الكبير بعد الانفجار، اما الاضاءة فقد حققت محمولات تعبيرية مكثفة وحركية ذات طابع سردي جمالي يسند الحوار تارة وتارة اخرى يخلق الجو العام للشخصيات المتداعية، اذ خلقت فضاءات عدّة كان لها الدور الكبير في اسناد درامية المشهد، فضلاً عن توظيفات الظل المنعكس على الشاشة عبر الاضاءة تارة وتارة اخرى عبر المصباح (التورج) الذي حملته الممثلة ليمنح الشخصيات بعداً جمالياً اخراً مكثفاً. وكان للموسيقى والاغاني الدور الابرز، فقد برع الفنان (حسين جميل) من خلالها في اسناد البعد النفسي للشخصيات ودرامية الاحداث بطابع عراقي اصيل رغم كونية الحدث!! كانت تلامس ارواحنا ووجعنا وكأنها (الموسيقى) تقول ان ما يحدث هنا يحدث في العالم اجمع!!   نعم كان لسينوغرافيا العرض خطاباً بصرياً مميزاً مدروساً وقد اثمرت جهود المصمم المبدع (عصام جواد) نجاحاً مبهراً. وعلى مستوى الاداء التمثيلي للممثلة الواعدة المجتهدة (همسة هادي) فقد قدمت مستواً جيداً من خلال ادائها الحركي المعبّر وادائها الغنائي الشجي وهذا يُحسب لها بوصفها ممثلة تمتلك صوتاً غنائياً جميلاً يضاف لأدواتها سيما في عروض المونودراما، رغم ان ادائها الصوتي في الحوار السردي جاء في بعض الاحيان على وتيرة واحدة (مونو تون)، والذي بدوره يرتبط بالأداء الانفعالي للممثلة بما يضاهي المحمول الدلالي العميق للحوار، فعروض المونودراما تتطلب من الممثل ان يحقق كيمياء روحية وحسية بينه وبين الشخصية التي يؤديها او يستدعيها وهو امر ليس بالهين، لذا احيي الممثلة المثابرة (همسة هادي) لجهودها الكبيرة في تجربتها الاولى لهذا الجنس المسرحي، فقلة من ممثلي المسرح العربي قادرين على تولي مسؤولية التورط في محنة الوحدانية على المسرح، واشكر المخرج الشاب المبدع (علي عادل السعيدي) على اشراك الطاقات الشبابية واتاحة الفرصة لإخراج مواهبهم ومهاراتهم واحترم جداً هذا التوجه المسرحي النبيل.

اخيراً اقدم شكري للمعد المبدع (جميل الرجة) لجهوده المميزة غير الهينة في مسرحة رواية الكاتب العراقي المبدع (جمال حيدر)، شكراً لجميع اعضاء فريق عمل (قمر احمر) فرداً فرداً لما قدموه لنا من جمال وصور معبرة، شكراً لنقابة الفنانين متمثلة بنقيبها الفنان الدكتور جبار جودي لوعيه ودعمه تجارب الشباب الفنية كافة سيما المسرحية منها، علينا ان نقف معهم لا نعرقل خطواتهم وهذا هو ديدن المسرحيين الحقيقيين.

Related Articles

Back to top button