حميد صابر: مسرحٌ يكتب أسئلة الوجود على جدار الزمن/ سجاد عبد ناصر

حميد صابر، المخرج العبقري والفيلسوف المسرحي، كان يتجسد في شخصه ذلك التوازن الرائع بين الإبداع المفعم بالرمزية والفكر العميق الذي يتجاوز حدود المسرح التقليدي. كان رجلًا ذا رؤية فلسفية عميقة، فكل عمل من أعماله كان بمثابة لوحة فنية متقنة، تنطق بلغة لا يفهمها إلا من امتلك القدرة على الغوص في أعماق الفن وحقيقته. كانت خشبة المسرح لديه ليست مجرد فضاء لعرض الحكايات، بل كانت ساحة اختبار لروح الإنسان، حيث تنكشف فيه البنى العميقة لوجوده، وصراعاته، وآماله، وآلامه.
لم يكن حميد صابر مجرد مخرج عادي؛ كان معلمًا وموجهًا، يتعامل مع الممثل كما يتعامل النحات مع طين التمثال، ليصقله ويكشف عن جوهره الحقيقي. كان يختار شخصيات أعماله بدقة وبراعة، متسقًا مع فلسفته التي ترى أن الفن لا يُمكن أن يكون عابرًا، بل هو تجربة وجودية تتطلب أن يكون الممثل روحًا حية في العمل، لا مجرد كائن جسدي على خشبة المسرح. لا غرابة إذًا أن تتناغم أعماله مع فلسفات الرمزية، حيث لا تقف المعاني عند سطح الأشياء بل تتعداها، لتغوص في الأعماق.
أعماله المسرحية، مثل الحر الرياحي ورجل من ماء وأسد بغداد، كانت محاولات مبدعة في استحضار اللحظات التاريخية والإنسانية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. في مسرحية الحر الرياحي، على سبيل المثال، كان صابر يقدم رؤية متعمقة لصراع الإنسان مع نفسه والسلطة، مستكشفًا ذلك التقاطع بين الواجب الأخلاقي والولاء السياسي. كانت المسرحية تُمثل طقسًا دراميًا يُعيد تشكيل الحكاية التاريخية، ليُجسد الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصية في قالب فني ينبض بالحياة.
أما مسرحية أسد بغداد، فقد كانت بمثابة رحلة عاطفية وفكرية، حيث استطاع صابر أن يدمج التاريخ مع الأسطورة ليخلق نصًا يراوغ في طقسيته المعقدة بين الواقع والرمز. كان يسحب المشاهد إلى عالم يتداخل فيه الزمان والمكان، متجاوزًا الحدث التاريخي ليغذي روح المتلقي بتأملات حول قضايا الإنسان، مع التركيز على السؤال الأزلي: كيف يمكن للإنسان أن يكون صادقًا مع ذاته في عالم مليء بالتناقضات؟
إلى جانب أعماله المسرحية، لم يكن حميد صابر يقتصر على إبداع العرض المسرحي، بل كان له دور أكاديمي لا يُستهان به. فقد ترك بصماته في عالم التدريس، إذ أسس لأسلوب درامي مبتكر في محاضراته التي كانت تمتد لتشمل طيفًا واسعًا من مفاهيم الفن المسرحي. كان يُؤمن بأن المسرح ليس مجرد تمثيل وحركة، بل هو فلسفة تتداخل فيها الرؤى الفنية والثقافية والعلمية. من خلال محاضراته، كان يزرع في عقول طلابه ضرورة التفكر في الأبعاد الفلسفية للجمال المسرحي وأثره في تشكيل الواقع الاجتماعي والإنساني.
حتى في محاولاته الأخيرة، كما في مسرحية صك الغفران، كانت رؤيته الفنية تتكشف بشكل أعمق، إذ كانت هذه المسرحية تُمثل بحثًا مكثفًا في أعماق الإنسان، صراعًا بين الأمل والندم، والقدرة على الغفران في مواجهة العذاب النفسي. لكنها، مع الأسف، لم تُعرض لتظل مع ذلك تُمثل مشروعًا لم يُكتمل، ولكن يظل ساطعًا في فضاء الفكر المسرحي الذي قدمه حميد صابر.
لقد كان حميد صابر في كل عمل من أعماله مُخلصًا للطقسية في المسرح، مُستندًا على الرمز والأسطورة، ليغرس في وجدان المتلقي أسئلة فلسفية عميقة حول الذات والمجتمع. كان مسرحه لا يرضى بالسطحيات، بل كان يطالب المشاهد أن يغوص في البحر العميق للمعاني. وعليه، فقد ترك إرثًا فنيًا مليئًا بالتساؤلات عن المصير والحرية والوجود.