مقالات

إينشتاين كان محقًا: الفن أهم من العلم/ ياسر اسلم

في كتابه “المبهج في فلسفة الجمال والفن”، يروي الدكتور محمد الشيخ أن أحد الصحفيين سأل ألبرت إينشتاين عن أيهما أهم: “الفن أم العلم؟”، فجاءت إجابته صادمة للكثيرين: “بالنسبة إليّ، الفن هو الأهم، لا شكّ عندي في ذلك.”

لكن كيف لعالم فيزياء عبقري أن يرى الفن أهم من العلم؟ أليس هو من غير نظرتنا للكون بقوانين النسبية؟ الحقيقة أن إينشتاين لم يكن مجرد عالم، بل كان أيضًا عازف كمان بارعًا، وكانت الموسيقى رفيقته الدائمة. لقد فهم أن العلم يشرح لنا كيف يعمل العالم، لكن الفن يمنحنا سببًا لنعيش فيه.

إن الفن، قبل أي شيء، يهذب الإنسان ويصقل روحه، بينما يركز العلم على تفسير القوانين الطبيعية من حولنا. العلم قد يعلمنا كيف تزهر الورود، لكنه لا يعلمنا كيف نشعر بجمالها.

عندما نُخبر طفلًا أن الزهرة تتكون من أوراق وساق وجذور، قد يقطفها أثناء اللعب دون تفكير. لكن عندما نُعلمه أن يراها كتحفة فنية خلقها الله، فإنه سيتأملها ويحترم وجودها. وهذا ما يفعله المسرح، أم الفنون، فهو لا يقدّم المعلومة فقط، بل يجعلنا نحياها، نستشعرها، نعيشها وكأنها جزء من كياننا.

عندما يكون الممثل على خشبة المسرح، فهو لا يلقي نصًا، بل ينقل إحساسًا، يسكب مشاعره في كل كلمة ونظرة وحركة، حتى يصبح الجمهور جزءًا من القصة. إنه فن يجعل الإنسان يرى العالم بقلبه قبل عينيه، يشعر بالألم كما يشعر بالفرح، ويدرك الحياة لا بحدود العقل فقط، بل بعمق العاطفة أيضًا.

المسرح ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل هو مرآة تعكس الإنسان لنفسه، تضعه أمام مشاعره، مخاوفه، وأحلامه، وتمنحه فرصة ليُعيد اكتشاف ذاته. قد يُقال إن المسرح يغيّر الإنسان، لكني لم أفهم هذا المعنى بعمقه الحقيقي حتى رأيت أثره بنفسي.

في إحدى العروض المسرحية التي قدمناها، كان هناك طالب في الصف الثاني عشر، رسب مرتين، وكاد يفقد الأمل في النجاح.، لكنه كان يعزف الموسيقى، وكأن داخله صوتًا يبحث عن مخرج. عندما استدعيناه للمشاركة في المسرحية، لم يكن مجرد ممثل، بل أوكلنا إليه مسؤولية تأليف وعزف المعزوفات الخاصة بالعرض. فجأة، وجد نفسه في قلب تجربة جديدة، تجربة تتطلب التزامًا، مسؤولية، وإبداعًا. لم يكن بإمكانه الهروب كما كان يفعل مع دروسه، فالمسرح لا يسمح لك بأن تكون متفرجًا على حياتك، بل يجبرك على أن تكون بطلها.

مع انتهاء العروض، لم يتحسن أداؤه المسرحي فحسب، بل تغيرت شخصيته بالكامل. أصبح أكثر انضباطًا، أكثر ثقة بنفسه، وأكثر التزامًا. ارتفع مستواه الدراسي، ونجح هذه المرة والتحق بإحدى الكليات.

لكن هذه لم تكن التجربة الوحيدة التي أثبتت لي كيف يستطيع المسرح أن يعيد تشكيل الإنسان. في مهرجان مسرحي آخر، التقيت بطالبة أنهت دراستها المدرسية والتحقت بالدراسات العليا، وكانت قد فازت في سنتها الأخيرة بجائزة أفضل ممثلة دور أول في مهرجان مسرحي مدرسي. لم يكن فوزها مجرد تتويج لموهبتها، بل كان إعلانًا عن ولادتها من جديد، عن خروجها من الظل إلى الضوء.

سألتها عن هذه التجربة وعن تأثيرها عليها، فقالت بثقة: “لقد تعلمت من هذه التجربة أكثر مما تعلمته طوال اثني عشر عامًا في المدرسة. المسرح أعطاني صوتًا، علمني كيف أفهم نفسي وأعبّر عنها. كم كنت أتمنى لو وجدت المسرح منذ الصف الأول!”

ما حدث مع الطالب والطالبة ليس مجرد صدفة، بل هو برهان على أن المسرح ليس رفاهية، بل ضرورة إنسانية. إنه ليس مجرد خشبة وصالة عرض، بل مساحة يكتشف فيها الإنسان صوته، قدرته، وإمكاناته المخفية. فإذا كان لمسرحية واحدة هذا التأثير العميق، فكم من العقول المبدعة طُمست، وكم من المواهب أُهدرت، فقط لأننا لم نقدم لهم المسرح كنافذة تُطل بهم على أنفسهم قبل أن نُغرقهم في المناهج والكتب؟

لكن لماذا ينجح المسرح في التأثير على الإنسان حيث تفشل الأساليب التقليدية؟ لأنه لا يُملي المعلومات كما تفعل المناهج، بل يضع الإنسان داخل التجربة نفسها، يجعله يعيشها، يشعر بها، يختبرها بكل حواسه. لهذا، فإن أثر المسرح لا يقتصر على التعليم فقط، بل يمتد إلى بناء الشخصية بأكملها، وهو ما أثبتته التجارب والدراسات.

فعندما يؤدي الطفل دورًا على المسرح، فإنه لا يحفظ الكلمات فقط، بل يعيش المشاعر، يفهم الآخر، ويضع نفسه مكانه. هذه التجربة تعزز الذكاء العاطفي والاجتماعي، فتجعل الطفل أكثر تعاطفًا، أكثر قدرة على قراءة المشاعر البشرية، وعلى بناء علاقات صحية تدوم مدى الحياة.

أما الثقة بالنفس والتعبير عن الذات، فهما من أولى الهدايا التي يمنحها المسرح لممارسيه. الوقوف على الخشبة ليس مجرد تمثيل، بل هو تمرين على الجرأة، على أن يتحدث الإنسان ويُسمع صوته، على أن يعبر عن نفسه دون تردد. ولهذا، نجد أن الكثير من القادة الملهمين اليوم بدأوا حياتهم على خشبة المسرح، حيث تعلموا كيف يواجهون الجمهور، كيف يصيغون أفكارهم، وكيف يروون قصصهم بثقة.

وإذا كان المسرح تدريبًا على الجرأة، فهو أيضًا تمرين للعقل. فهم النصوص، تحليل المشاهد، الارتجال في اللحظة المناسبة، كلها مهارات تجعل الطفل أو الشاب أكثر قدرة على التفكير النقدي، أكثر قدرة على تفكيك العالم من حوله وإعادة تشكيله بفهم أعمق. ومن هنا، لم يكن غريبًا أن نرى أن المسرح يساهم في تحسين المهارات اللغوية والتفكير النقدي، حيث يتيح للمشاركين فرصة اكتساب مفردات جديدة، والتمرن على الإلقاء، والتفاعل مع النصوص بوعي أكبر.

لكن المسرح لا يصقل الذهن فقط، بل يحمي القلب أيضًا. فقد أثبتت الدراسات أن المسرح يساعد في تقليل القلق والاكتئاب، لأنه يمنح الطفل والمراهق مساحة آمنة للتعبير عن مشاعره، ليفتح أبوابًا كان يخشى طرقها، ليحاكي مشاعر لا يستطيع البوح بها في حياته اليومية. فكل كلمة تُقال على المسرح، كل مشهد يُعاد تمثيله، هو فرصة للتحرر من ثقل العواطف المكبوتة.

ولأن المسرح يمنح الإنسان انتماءً إلى قصة أكبر، فإنه يحميه أيضًا من السلوكيات السلبية. ففي المجتمعات التي تعاني من العنف أو المخدرات، لم يكن المسرح مجرد نشاط، بل طوق نجاة للكثير من المراهقين، حيث وفر لهم متنفسًا حقيقيًا، وجعلهم يشعرون بأنهم جزء من شيء يستحق أن يُروى. وقد أدركت أنظمة تعليمية رائدة في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة هذه القوة الكامنة للمسرح، فاعتمدته كأداة تربوية فعالة في بناء الثقة بالنفس والتفكير النقدي وتعزيز التفاعل مع المعرفة، كما في مبادرات مثل Shakespeare Schools Festival وDrama-Based Instruction. وهكذا، يتضح أن المسرح ليس ترفًا، بل ضرورة تسهم في بناء مجتمعات أكثر وعيًا وإبداعًا

لكن رغم كل هذه الفوائد، لا يزال المسرح يُعامل في كثير من المجتمعات على أنه نشاط ثانوي، ترفيهي بحت، بينما أثبتت التجربة أن المسرح ليس فقط قوة ثقافية وتعليمية، بل هو أيضًا قوة اقتصادية ضخمة.

وفقًا لتقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، تساهم الصناعات الثقافية والإبداعية، التي يُعد المسرح جزءًا منها، بأكثر من 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بعائدات تتجاوز 2.25 تريليون دولار سنويًا، وتوفر أكثر من 50 مليون وظيفة حول العالم، نصفها للنساء.

هذا ليس ترفًا، بل استثمار حقيقي. إن المسرح لا يُنتج عروضًا فقط، بل يخلق اقتصادًا، ويعيد إحياء المدن، ويدفع المجتمعات نحو مزيد من النمو والازدهار.

لقد أثبت المسرح عبر التاريخ أنه ليس مجرد منصة للعرض، بل أداة لصنع الإنسان، وأحد أقوى الاستثمارات في البشر، بل وحتى في المجتمعات التي تسعى للنمو والتطور. فكيف لا يزال مهمشًا في أنظمتنا التعليمية؟

إعادة الاعتبار للمسرح لا تحتاج إلى قرارات كبرى، بل تبدأ بخطوات صغيرة يمكن تحقيقها بسهولة. إدماجه في المناهج الدراسية ليصبح جزءًا من العملية التعليمية لا مجرد نشاط جانبي، ودعم الطلاب لإنتاج أعمالهم المسرحية ليكتشفوا إمكانياتهم بأنفسهم. كذلك، يمكن فتح تخصصات أكاديمية متخصصة في المسرح ليصبح مجالًا معترفًا به كاستثمار ثقافي واقتصادي، إلى جانب توفير مساحات مسرحية في المدارس والمجتمعات، ودعم تجهيز مسارح صغيرة يمكن للطلاب والشباب استخدامها، مما يعزز انتشار الفن المسرحي ويجعله متاحًا للجميع. وليس هذا فحسب، بل يمكن أيضًا دعم المسرح كقطاع منتج يساهم في خلق فرص عمل ويدعم التنمية المستدامة.

إن المسرح ليس رفاهية، بل هو المدرسة الأولى التي تصقل الإنسان، تجعله أكثر وعيًا بنفسه، وأكثر قدرة على رؤية الحياة بأبعادها المختلفة. في عالم يغرق في الصراعات، قد يكون الفن هو الخط الفاصل بين البناء والهدم، بين التفاهم والصراع، بين الحياة والفناء.

قد يؤهل العلم إنسانًا لصناعة قنبلة، لكن الفن وحده يمنعه من استخدامها. فهل هناك استثمار أعظم من بناء إنسان قادر على رؤية الجمال، صناعته، وحمايته؟

Related Articles

Back to top button