النكات التي لا تضحك أحدا / حسام الدين مسعد

لقد اتيح لي أن أشاهد هذا العرض المسرحي مرتين كل مرة بلغة غير الأخري، وهذا العرض الذي يحمل عنواناً يشير إلي طرفةٍ أو مُلحةٍ في كلام الشخص تُضحِك الآخرين،وتعرف بالدارجة بالنكات.
تلقيت هذا العرض بنسختيه الكردية والعربية عبر رابط التصوير والبث بموقع اليوتيوب، فالعرض من تأليف الكاتب العراقي علي عبد النبي الزيدي، وهذا النص ينتمي إلى مسرح العبث، حيث تتحول الكوميديا إلى أداة تعرية وتفكيك للواقع، ويصبح الضحك صدىً للمرارة.
مسرحية (النكات) مونودراما، تعتمد على شخصية واحدة (الزوج) يؤدي أدوارًا متعددة داخل فضاء درامي ضيق (الشقة) يمثل انعزالًا نفسيًا وجسديًا، نتيجة ظروف وباء/حرب/خوف داخلي. النص يتكئ على تقنية المونولوج الداخلي، وتقاطعات سردية متشظية، تمتزج بين الواقعي والهلوسة، العبثي والرمزي .
فالبطل (الزوج) يعيش عزلةً خانقة، تجعله غير قادر على الاتصال الحقيقي بالعالم، رغم محاولاته المتكررة لسرد النكات – أي وسيلة التواصل الأقرب للناس – لكنها تفشل.
يشعر بالخوف من الآخر/الزوجة/الفيروس: يُسقِط الكاتب رمزية الفيروس على الزوجة، ليصبح الداخل/العائلة أيضًا مصدرًا للخطر، ويفضح هشاشة الثقة في زمن الأزمات، فيفقد الزوج الثقة حتى في صورته، فيدخل في دوامة شك وجودي تطرح جدليته الذاتية من خلال تسأولات ” من أنا؟” و” هل هذه صورتي؟” و”هل هذه زوجتي؟” مما يبرز حالة اللاجدوي والإغتراب والخوف من الآخر التي تحياها شخصية الزوج الذي يشعر بتهديد لذكورته فيلجأ الي ادوات دفاع هشة كالسكين والجنون، لكن شخصية “الأم” في نهاية العرض تعيدنا لمآسي الحرب: انتظار ابن لن يعود، وتحوّل الجنود إلى سلع “للإيجار”، تدفعهم الأمهات للحروب وتستقبل غيرهم في انتظار، لقد تجرعنا مرارة عبث هذا العالم ونحن نسعي للبحث عن المعني الجوهري لهذه الحياة في نص الزيدي، لكن هل كان لماريوان زنجانة المخرج والمؤدي لشخصية الزوج في هذا العرض رأي آخر؟
لا شك أن طبيعة الأداء في هذا النص تتطلب أداءً تمثيليًا قائمًا على الكوميديا السوداء، حيث يدمج بين الهزل والتراجيديا العميقة، إذ أن الشخصية الرئيسية (الزوج) تحتاج إلى طاقة جسدية عالية، تتنقل بين الانفعالات المتضادة: الهزلية، الجنون، الغضب، القلق، الرعب، والانكسار، ولقد نجح ميروان زنكة (الزوج ) أن يكون كاريزماتياً وحيوياً، بحيث يحافظ على تفاعل الجمهور حتى في لحظات الصمت لاسيما في النسخة الناطقة باللغة الكردية فاستخدام الصوت بشكل ديناميكي: يتراوح بين الهمس والصراخ، مع تغييرات مفاجئة تعكس التقلبات النفسية للشخصية، فضلا عن اللعب الجسدي (Physical Comedy) الذي استخدمه خاصة عند الفشل في أداء الخدع السحرية، أو حين كان يركض مذعورًا من الأوهام، مما أضفي طابعًا بصريًا كوميديًا، لكن في النسخة الناطقة باللغة العربية لم استشعر تفاعل الجمهور مع اللعب الجسدي وأرجع ذلك أن الجمهور المتلقي لم يكن أغلبه من العرب بل كان من الأكراد اللذين لم تستطع لغة العرض كسر عوائق التواصل لديهم، رغم الإستخدام المبتكر.
للخشبة، إذ لم يكن الأداء محصورًا في منطقة واحدة، بل عمد ماريوان زنجانة على الحركة المستمرة، التنقل بين الموتيفات الديكورية كالأريكة والمنضدة، والركض بين الباب والنافذة والشاشة، وتوجيه الخطاب للجمهور دون أن يكسر الحائط الرابع وأعتقد أن عدم كسر الحائط الرابع كان سبباً في قلة التفاعل المباشر من قبل المتفرجين رغم أن لغة العرض ساخرة، مريرة، كثيفة الإحالات، تتراوح بين النكتة الخفيفة والعبثية المفرطة، وبين الحوارات التي تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للواقع، ولا شك أن استخدام الإضاءة المتغيرة (بقع ضوء، ظلال، عتمة)، كان لخلق تحولات داخلية عبرت عن الحالة النفسية والعزلة التي تحياها شخصية الزوج فصبغت علي الأداء التمثيلي حالة ميلودرامية، وظف لكل ما سبق الدلالات الرمزية التي تطلبت جهداً من المتلقي في تفسيرها كالعصا السحرية حلم الهروب إلى مكان آخر، إلى “يوتوبيا” بلا حروب أو قهر، لكنه حلم محبط ينتهي بالتحطم.
باب الشقة: الحد الفاصل بين الأنا والآخر، بين الداخل والخارج، بين الوعي واللاوعي.
المرآة: كشف الحقيقة، انهيار الوهم، وتحول الذات إلى كائن آخر.
لقد نجح ماريوان زنجانة في اختيار الموسيقار سيروان عمر الذي برع في اختيار وتأليف المقاطع الموسيقية في كلا النسختين العربية والكردية لتلعب الموسيقي أداة تواصل وتفاعل مع الجمهورين العربي والكردي وتعبر عن الحالة النفسية والشعورية للزوج بطل العرض.
لقد شاهدت عرضاً مسرحياً يحمل شحنة سياسية ضمنية، يفضح فيها الأزمات المعاصرة (الاجتماعية، السياسية، الوبائية، النفسية)، في العراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، من خلال شخصية “الزوج” كتجسيد للمواطن العادي الذي يواجه فوضى العالم بسلاح النكتة، في زمنٍ لم يعد يضحك فيه أحد.