مقالات

حول إنتقال التقاليد المسرحية والأشكال الفرجوية في المسرح الغربي والمسارح الآسيوية/ د. فاضل الجاف

تُعتبر أشكال المسرح الآسيوي أكثر أصالة مقارنةً ببقية أشكال المسرح، إذ حافظت على تقاليدها القديمة عبر التاريخ، بخلاف المسرح الغربي الذي مر بتحولات عديدة تخللتها فترات انقطاع واضمحلال، مما أحدث فراغًا تاريخيًا وفجوات كبيرة في تطوره.

أهم ميزة يتمتع بها المسرح الآسيوي هي حفاظه المستمر على تقاليده العريقة عبر الأجيال، حيث يتم تناقل فنون الأداء داخل العائلات، مما يضمن استمرارية هذه الفنون دون انقطاع. في المقابل، شهد المسرح الغربي تحولات عديدة تخللتها فترات انقطاع واضمحلال المسرح، بل وموته في بعض الفترات التاريخية، مما أدى إلى عدم استمرارية بعض فنون الأداء والعرض، وترك فجوات تاريخية في توثيق تطوره. هذا التباين يعكس الفروق الكبيرة في كيفية انتقال الخبرة المسرحية من جيل إلى جيل.

معرفتنا بالأشكال المسرحية القديمة وفنون الفرجة في الغرب مستمدة من قراءاتنا وتأملاتنا، حيث لم تبقَ هذه الأشكال محفوظة كما هو الحال مع المسرح الآسيوي الذي استمر عبر الأجيال. رغم أن الأشكال والأساليب المسرحية في الغرب قديمة وذات قيمة أثرية، فإن معرفتنا عنها تقتصر على ما توفره لنا الوثائق والمتاحف والكنائس والمكتبات، ولا يمكننا تكوين صورة واضحة عن تقنياتها وخبراتها العملية، التي لم تستمر على المسارح طوال الفترات المتعاقبة: مثل فنون الأداء والتمثيل الصامت واستخدام الأقنعة، والجوقة… الخ، ومعرفتنا عنها ليست سوى استنتاجات مبنية على الأدلة المتاحة.

فن المسرح، وخاصة ما يرتبط بأداء الممثل والجوقة وحضور الجمهور ودوره، يتطلب تأكيدًا وتجربة حية، لكن عبر التاريخ، فُقدت العديد من العناصر الأساسية، ولم تتمكن الدراسات العلمية بعد من العثور على تفسير لها. أما المسرحيون، فقد تعاملوا مع بعض الحقائق التاريخية باعتبارها مسلمات، دون أدلة ملموسة.

من بين القضايا الجدلية، هناك مسألة الممثل الأول تيسبيس الإغريقي، حيث تشير بعض المصادر الأدبية إلى أنه كان أول ممثل مسرحي في اليونان، لكن لم يُعثر على أي مصدر علمي يؤكد بشكل قاطع أنه كان بالفعل أول ممثل. ما نعرفه عن تيسبيس هو أنه أول من تثبت الوثائق أنه كان ممثلًا، وربما كان ثمة ممثلون قبله، لكن لا توجد وثائق ولا أدلة قاطعة تثبت ذلك. تُجمع بعض المصادر على أنه كان شاعرًا، وكان أول من استخدم أسلوب “الممثل الواحد” إلى جانب الجوقة في عروضه المسرحية، لكن لا توجد نصوص محفوظة له، مما يترك مجالًا للشك حول حقيقة تلك الادعاءات. وهذه المسألة لا تزال غير محسومة بين الأكاديميين والباحثين المسرحيين.

يُعَدُّ المسرح الإليزابيثي في المسرح الغربي أحد أبرز الأشكال التاريخية، حيث ازدهر مع أعمال شكسبير التي كانت تُعرض في أهم مسرح هو مسرح “غلوب”. لكن معرفتنا بالمسرح الإليزابيثي لا تزال غير مكتملة، إذ تعتمد على افتراضات وتخمينات أكثر من كونها حقائق موثقة، اندلع حريق هائل في لندن عام 1666 وأودى بمعظم مسارحها وعدد من مرافقها الترفيهية. لقد كان يُعتقد لفترات طويلة أن أعمال شكسبير لم تُعرض إلا في مسرح “غلوب”، لكن هذا الافتراض أصبح موضع شك بعد اكتشافات جديدة، إذ ثبت أن شكسبير قدّم عروضه في عدة مسارح أخرى مثل “ذا ثياتر” و”ذا كيرتن”، حيث عُرضت مسرحية “روميو وجولييت”. وهذا ما يجعل من الصعب التأكيد على أن مسرح “غلوب” كان المكان الوحيد لعرض أعماله. من بين أهم المصادر التي ساهمت في إعادة تصور المسرح الإليزابيثي رسالة كتبها زائر هولندي إلى صديقه بعد مشاهدته مسرح “غلوب”، حيث وصف فيها تفاصيل المشهد المسرحي، وتُعتبر هذه الرسالة من أفضل الشهادات التاريخية عن طبيعة المسرح في ذلك العصر.( أنظر الى الصورة الملحقة)

في النهاية، يظل المسرح الغربي، رغم ثرائه التاريخي، مليئًا بالفجوات فيما يتعلق بالوثائق والشهادات التاريخية، مما يجعل من الصعب تكوين صورة متكاملة عنه مقارنةً بالمسرح الآسيوي، الذي احتفظ بتقاليده عبر الأجيال دون انقطاع.

إذا تطرقنا إلى فن كوميديا ديلارتي، الذي يُعتبر في الغرب معادلاً لمسرح كابوكي الياباني، نجد أن هذا الفن يتمتع بحماية أكبر من حيث النص، في حين أن فن الأداء المسرحي فيه ليس محفوظًا بنفس الدرجة كما هو الحال في كابوكي ونو وأوبرا بكين وغيرها من الأشكال الفرجوية في المسارح الآسيوية. يعتمد المسرح الغربي على الرؤى والتخيل والتصور في إعادة خلق الأشكال والتقاليد المسرحية في عدد من الحقب التاريخية من مراحل تطوّر المسرح.

Related Articles

Back to top button