التعاونيةشرفات

المدينة الفاضلة والذكاء الاصطناعي….بين اليوتوبيا الرقمية وديستوبيا التحكم/د. عماد هادي الخفاجة

منذ أن طرح أفلاطون تصوراته عن المدينة الفاضلة ظل الحلم بمجتمع مثالي يشغل الفلاسفة والمفكرين لكن مع دخول الذكاء الاصطناعي كعنصر فاعل في تشكيل مستقبل المدن بات السؤال أكثر إلحاحا هل يمكن أن تحقق الخوارزميات ما سعت إليه الفلسفات القديمة من عدالة وتنظيم أم أنها ستخلق عالما جديدا يبتعد عن جوهر الإنسان ذاته. البعض يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون الوسيلة المثلى لتحقيق المدينة المثالية التي حلم بها أفلاطون وأرسطو حيث يصبح النظام الإداري أكثر كفاءة وتوزع الموارد بعدالة مطلقة دون تحيز أو فساد، قرارات تُتخذ بناءً على تحليل دقيق للبيانات لا على الأهواء الشخصية والمدن الذكية قد تبدو للوهلة الأولى تجسيدا لهذا الحلم حيث تتحقق العدالة من خلال أنظمة تتعامل مع الأفراد بمعيار موحد لا يخضع للخطأ البشري أو المزاجية لكن في المقابل يخشى آخرون أن يتحول هذا النظام إلى نقيضه إلى ديستوبيا مقنعة بغطاء التطور والمدنية حيث تحكم الخوارزميات حياة البشر وتراقب تحركاتهم وتوجه اختياراتهم تحت شعار تحقيق الكفاءة والاستقرار في هذه الحالة يفقد الإنسان جزءا من إرادته الحرة لصالح أنظمة لا تفكر لكنها تحلل ولا تميز لكنها تنفذ وحينها تصبح العدالة مجرد عمليات حسابية لا تضع في اعتبارها التعقيد الإنساني أو الحاجة إلى الرحمة أو المرونة.

لا يتوفر وصف.

إذا كانت المدينة الفاضلة في الفلسفات الكلاسيكية تعتمد على وعي الإنسان وإرادته في تحقيق الخير فإن المدن التي يحكمها الذكاء الاصطناعي قد تعيد تعريف هذه القيم حيث تتحول المعرفة إلى عملية تحليلية باردة والعدالة إلى معادلة خالية من أي بعد إنساني لكن هل يمكن لمجتمع يخضع بالكامل للبرمجيات أن يكون مثاليا أم أن تحقيق الفضيلة يظل مرتبطا بوجود وعي بشري قادر على إدراك الخير والجمال، ربما يكون الاختلاف الجوهري بين التصور القديم والجديد هو أن الفلاسفة افترضوا أن الإنسان يمكن تهذيبه وفق منظومة قيمية في حين أن المدن المدارة بالذكاء الاصطناعي تفترض أن تحسين المجتمع لا يتطلب وعيا بل تنظيما رياضيا وإحصائيا لهذا يطرح السؤال نفسه هل يمكن لمنظومة تعتمد على البيانات أن تحقق العدالة فعلا أم أنها ستؤدي إلى تهميش البعد الإنساني لصالح معيار جامد لا يأخذ في الحسبان التفاصيل التي تجعل البشر بشرا.
إذا كان أفلاطون قد تصور مدينته على أساس النخبة الفاضلة والفارابي قد صاغها وفق تصور أخلاقي إسلامي فإن المدن الذكية تسعى لفرض نظام كفء لكنه مجرد من الروح حيث تحل الحسابات محل الحدس والمعادلات محل الأخلاق والتوقعات الإحصائية محل القرارات البشرية فما الذي يضمن ألا تتحول هذه المدن إلى سجون مفتوحة حيث تتحكم الآلات في التفاصيل الصغيرة لحياة الأفراد وتسلبهم قدرتهم على اتخاذ خياراتهم الخاصة هذا التناقض بين اليوتوبيا الرقمية والواقع المحتمل هو ما يجعل النقاش حول المدينة الفاضلة في عصر الذكاء الاصطناعي أكثر تعقيدا مما كان عليه في أي وقت مضى فبين من يرى فيها فرصة لتحقيق العدالة المطلقة ومن يخشى أن تكون مقدمة لديستوبيا جديدة يظل السؤال معلقا هل يمكن بناء مدينة مثالية دون أن نفقد إنسانيتنا.

Related Articles

Back to top button