المسرح والذكاء الاصطناعي… بين الإبداع البشري والحدود الرقمية / عماد هادي الخفاجي

شهد المسرح تحولات جوهرية مع التطور التكنولوجي المتسارع، فلم يعد محصورا في الأساليب التقليدية، بل بات يوظف الذكاء الاصطناعي في مختلف مراحل الإنتاج، غير أن هذه التقنية لم تأت لتحل محل الفنان بل فتحت أمامه آفاقا جديدة، عززت من إمكانياته الإبداعية وقدمت له أدوات غير مسبوقة توسع من حدود خياله وتجربته الفنية.
اليوم، أصبح بالإمكان إعادة تشكيل الفضاء المسرحي بطرق غير مألوفة، حيث تتيح البرمجيات الذكية تصميم مشاهد مرنة ومتغيرة تتكيف مع طبيعة العرض، كما تمنح المبدعين حرية غير محدودة في التعامل مع الإضاءة والخلفيات والتأثيرات البصرية التي يمكن أن تتبدل لحظيا وفقا لمتطلبات الأداء، مما يجعل الذكاء الاصطناعي عنصرا فاعلا في دعم العملية الإبداعية، لا بديلا عن الحس الفني والابتكار البشري وهذا يعني بان توظيف التقنيات الحديثة بحكمة يساهم في تعزيز قدرات الفنان المسرحي دون أن يُصادر دوره أو يُفرض عليه نمط الي جامد، ولتحقيق هذا التوازن لا بد من ضبط حدود الإفادة من الذكاء الاصطناعي بحيث يظل الفنان هو المحرك الأساسي للعملية المسرحية، بينما تبقى التقنية مجرد أداة داعمة لا قوة مهيمنة، فمثلا في مجال تصميم الفضاء المسرحي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُشكل ما يقارب 30-40% من عملية الإبداع، حيث يساعد المصممين في توليد تصاميم مرنة ومتغيرة تتكيف مع طبيعة العرض، غير أن القرار النهائي يظل في يد الفنان الذي يستثمر هذه الإمكانيات لصياغة رؤية بصرية منسجمة مع رؤيته الإبداعية. وبذلك، لا يتحول المسرح إلى عرض رقمي بارد، بل يبقى مجالا تعبيريا نابضا بالحياة، مدعوما بأدوات جديدة تمنحه عمقا بصريا إضافيا.
أما في مجال النص المسرحي، فإن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي يمكن أن تشكل 20-30% من العملية الإبداعية، بحيث تستخدم الخوارزميات في تحليل الحبكة وبنية النص، واقتراح تعديلات لتحسين الإيقاع الدرامي، ولكن يجب ألا تتجاوز هذه التدخلات حد الاقتراح، حيث يظل الكاتب المسرحي هو صاحب القرار في قبول أو رفض هذه التعديلات، حفاظا على فرادة الأسلوب الفني ورؤية المؤلف، ويمكن أيضا للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة مساعدة في اقتراح أفكار وسيناريوهات جديدة، لكنه لا ينبغي أن يتعدى دوره كعامل تحفيزي، حتى لا يفقد النص المسرحي روحه الإنسانية العميقة، اما في الأداء المسرحي، يمكن للتقنيات الذكية أن تلعب دورا بنسبة 15-25%، حيث تتيح أدوات تحليل تعابير الوجه ونبرات الصوت للممثلين فرصة تقييم أدائهم وتحسينه، وكما يمكن إنشاء بيئات تدريب افتراضية تحاكي المشاهد التمثيلية، مما يساعد الفنانين على صقل مهاراتهم، غير أن جوهر الأداء المسرحي القائم على العاطفة الحية والتفاعل الفوري مع الجمهور، لا يمكن استبداله بأي تقنية ما يفرض إبقاء الذكاء الاصطناعي ضمن حدود الدعم، لا الاستبدال.
أما التفاعل مع الجمهور، فيمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل 10-20% من التجربة المسرحية، حيث يمكنه تحليل ردود الأفعال في الزمن الحقيقي، والمساهمة في ضبط بعض عناصر العرض مثل الإضاءة أو المؤثرات الصوتية، لتعزيز الأثر الدرامي… لكن لا ينبغي أن يصل الأمر إلى تعديل جوهري في العرض أثناء تقديمه، حتى لا يفقد المسرح عنصر العفوية والحضور المباشر الذي يميزه عن الفنون الرقمية الأخرى.
ومع ذلك فإن النسب المقترحة (30-40% لتصميم الفضاء المسرحي، 20-30% للنص المسرحي، 15-25% للأداء، 10-20% للتفاعل مع الجمهور) هي نسب اجتهادية وتعتمد على التقدير العام والمنطقي لمدى تدخل الذكاء الاصطناعي في كل عنصر من عناصر العملية المسرحية. ومع ذلك، فأن هذه النسب ليست مطلقة، بل هي تقديرات مرنة قابلة للتعديل وفق طبيعة كل عرض مسرحي، ويعتمد تحديدها بدقة على دراسات تطبيقية أوسع، تشمل تجارب فنية ومقاييس أداء تعتمد على مدى نجاح الذكاء الاصطناعي في دعم العملية الإبداعية دون أن ينتقص من جوهر المسرح الحي.
وبالمجمل فإن الاستخدام المتوازن للذكاء الاصطناعي في المسرح لا يعني تقليص دور الفنان بل يهدف إلى تمكينه من أدوات جديدة تعزز إبداعه دون أن تحل محله، لان المسرح في جوهره فعل إنساني يتطلب الإحساس والتفاعل المباشر ولا يمكن للتكنولوجيا مهما تطورت أن تستبدل هذه العناصر الأساسية، لذا فإن التحدي الحقيقي ليس في مدى تطور التقنيات بل في كيفية توظيفها بحكمة، بحيث تظل خادمة للإبداع المسرحي، لا مهيمنة عليه.