نصوصنصوص مسرحية

نص مسرحية:” وجه معادلة ناقص….!!” / شوقي كريم حسن

(وصف  الخارجي)

(مدينة تبدو مألوفة لكن دونما تفاصيل واضحة، نسخة مشوهة من أماكن يعرفها الجميع. المباني متآكلة، الشوارع دونما أسماء. لا زمن محدد، يبدو قريبًا وبعيدًا في آنٍ واحد).

(العالم الداخلي)

(قاعة محكمة غير تقليدية. فارغة من منصة للقاضي، كرسي وحيد في منتصف القاعة متحرك، يدور دون توقف،.المتهمون  في قفص زجاجي، مفتوح من الخلف، بإمكانهم الخروج لكنهم لا يفعلون. الجدران تحمل شروخًا تشبه خرائط غير مكتملة تدل على أماكن موجودة ضاعت ملامحها منذ دهور).

الزمان:

(الازمنة التي تكررها الاحزان وتقودها خيارات الفشل ويستحوذ عليه شياطين الفساد والخراب/!!)

شخوص التجسيد:

  1. القاضي (50 عامًا) – رجل غامض، متغير اللهجة، يبتسم حين لا يكون هناك سبباً للابتسام.
  2. المحامي (45 عامًا) – مثقف انتهازي، كلماته منمقة لكنها فارغة من المعانى الحقيقية.
  3. الجندي السابق (30 عامًا) – متهم رئيسي، ذكي لكنه متردد، يرى نفسه ضحية ابدية لكنه لا يعترف بذلك.
  4. الضابط السابق (40 عامًا) – متهم آخر، متسلط، عنيد، يرفض فكرة أن يكون محكومًا بعد أن كان حاكمًا.
  5. الشاهدالمزيف (35 عامًا) – شخص وصولي، تتغير مواقفه بحسب من يدفع له أو يخيفه.

 

المشهد الأول

(الإضاءة خافتة. أصوات ضجيج تأتي من الخارج، كأن هناك مظاهرة أو اضطراب، لكنها غير واضحة. داخل المحكمة، يجلس القاضي على كرسيه المتحرك، يدور ببطء. المتهمون يجلسون في القفص الزجاجي، صامتين. المحامي يقلب الأوراق بلا اهتمام. الشاهد المزيف يقف جانبًا، متوترًا.)

الجندي: (يضحك، ساخرًا) هذه ليست محكمة، هذا مسرح يعيش احلى معالم فوضاه!!

القاضي: (يميل إلى الأمام، يبتسم بخبث) المسرح يحتاج إلى جمهور، ونحن لدينا متهمون فقط.،،!!

الضابط السابق: (ينظر الى القفص، يضغط قبضته بعصبية) متهمون؟ نحن أبطال الحرب،،لايمكن ان يكون البطل متهما،،يبدو ان المعادلة مقلوبة؟

القاضي: (يميل رأسه كأنه يفكر بعمق) أبطال… الحرب،،، ومن أخبركم أن الوطن يحتاج أبطالًا..فكرة البطولة هذه انتهت منذ ازمنة طويله مالذي فعلته لتدعي البطوله،،مالذي اضفته ليعيش الانسان سعيداً؟!!

المحامي: (يقلب أوراقه بلا مبالاة، يرفع نظره ببطء) سيدي القاضي، هذه ليست تهمة، ..هذه اوسمة وتواريخ نفخر بها الشعوب دون بطولات لاشيء!!

القاضي: (يضحك، يشير إلى أحد الأوسمة المعلقة على صدر الجندي) وماذا تعني هذه الميدالية؟ أنك قتلت أكثر؟ أم أنك نجوت أكثر؟ ام انقذت اناس عاشوا الموت؟!!

الجندي: (يصمت، ينظر إلى الميدالية، ثم يرفع نظره ببطء نحو القاضي) تعني سيدي أنني لم أمت بعد…؟!!

(يعم الصمت للحظة. في الخارج، يتعالى الضجيج . الشاهد المزيف يتنحنح، يحاول لفت الانتباه.)،

الشاهد المزيف : (بصوت متردد، ثم يصبح أكثر ثقة) أنا… رأيتهم! كانوا يتحدثون عن… أشياء مشبوهة تثير الريبة الإستغراب!!

الجندي: (ينظر له بازدراء) رأيتنا؟ أم سمعتَ أنك رأيتنا…أين كنت لترانا ونحن وسط جحيم لايرحم!!

(الشاهد المزيف يتلعثم، ثم يستعيد ثقته.)

الشاهد المزيف: (بجرأة مصطنعة) هذا لا يهم، المهم أنني هنا شاهداً منتدباً!

القاضي: (يصفق ببطء، نبرته ساخرة) جميل… جميل! لدينا شهود، لدينا متهمون، ينقصنا شيء واحد فقط…

الضابط السابق : (ساخرًا، يعقد ذراعيه) العدالة..منذ دهور سحيقة، ونحن نبحث عن وجود العدالة؟!!

القاضي: (يبتسم، يهز رأسه نافيًا) لا…  العدالة موجودة منذ وجد الانسان نحن نحتاج الى الحكم!

(يعم الصمت. القاضي ينظر إلى المتهمين، ثم إلى الباب المغلق. المحامي يقلب أوراقه، ثم يدرك أنها فارغة. الشاهد المزيف يحدق في القاضي، كأنه يحاول فهم اللعبة. في الخارج، صوت المظاهرة يعلو أكثر… لكن هل هي مظاهرة فعلًا؟ المشهد ينتهي على هذه التساؤلات.)

 

المشهد الثاني

(الإضاءة تزداد قليلًا، لكنها  غير مستقرة،  تومض مع كل توتر في الحوار. القاضي يدور بكرسيه، ببطء شديد، كأنه يقيس الزمن بطريقة لا يفهمها الآخرون. الجندي ينظر إلى الضابط ، ثم إلى المحامي، ثم إلى القاضي، كأنه يحاول قراءة المشهد بالكامل.)

الجندي: (ينظر إلى القاضي ملوحا بيده في الهواء) إذن… الحكم؟ دعني أخمن… نعدم؟ أم نمنح ميداليات جديدة مقابل اعترافنا بأننا لسنا أبطالًا، ومايقال عن بطولاتنا اوهام صاغتها عقول خرقاء!!

القاضي: (يوقف كرسيه فجأة، يحدق في الجندي طويلًا، ثم يرفع إصبعه كأنه يعترض على شيء مهم) لا أحد قال إنكم تُعدمون… من اين اتيت بهذا القول الناقص المعرفة. ..لاتنطق بغير ما تعرف!!

الضابط السابق: (يضرب القفص الزجاجي بقبضته، يصرخ بغضب مكبوت) نحن لم نرتكب أي جريمة وما فعلناه لا يخالف قواعد الحروب عبر  جودها،،قاعدة الحرب سيدي تقول اقتل قبل ان تقتل،،!!

المحامي: (يتثاءب، ثم ينظر إلى القاضي ببرود) هذا صحيح، موكلَيَّ لم يُثبت عليهما شيء. مجرد كلام في الهواء…منذ صبانا حتى أنت سيدي القاضي علمونا ان حب الوطن من الإيمان والدفاع عن الايمان حتى الموت واحب (يضحك) واسموه الواجب المقدس!!

القاضي: (يضحك، يخرج من جيبه ساعة قديمة، يفتحها، يتأملها قليلًا، ثم يرفع عينيه ببطء نحو المتهمين) وما  الزمن إلا… كلام في الهواء.. نصف ما عشناه ونعيشه يقوده الوهم الذي صورها البعض أنها حقيقة لاتحتاج الى جدل او احتجاج!!

(الجميع يصمت. الجندي يتقدم خطوة داخل القفص، يضع يديه على الحاجز الزجاجي، ينظر للقاضي بتمعن.)

الجندي: (بهدوء، يحمل نبرة التحدي) ما الذي تريدونه منا سيدي القاضي المبجل،،ولمِ نحن دون سوانا؟!!

الشاهد المزيف: (يقفز للحديث، بصوت متحمس) اعتراف..ها هو يعترف سيدي القاضي،،أنهم يخفون اسرارا لانعرف عنها شيئاً،،سيدي حفظ اسرار الوطن من الايمان!!،

القاضي: (يميل برأسه، يتظاهر بالدهشة) اعتراف..وكيف عرفت ايها الشاهد أن حفظ اسرار الوطن من الإيمان وما نوع هذا  الايمان؟!!

الشاهد المزيف : (يهز رأسه بحماس، يشير إلى الجندي والضابط السابق) نعم! إنهم…  خونة الوطن،.فضحوا اسراره،،منحوا الاعداء فرصة لدراسة ما قالوا،،

الجندي: (يضحك، يضرب القفص الزجاجي براحة يده، يهز رأسه مستغربًا) الوطن؟ هل قلت “الوطن..هل يمكن ان تفسر لنا  معنى كلمة وطن .. اتعرف سيدي القاضي ان كلمة وطن اكثر الكلمات في هذا العالم غرابة!!

القاضي: (يومئ برأسه، يبتسم بخبث) الوطن. ألا تعرفه،،كيف لاتعرف مايعني الوطن،،اتراك قاتلت من أجله دون أن تعرف معناه؟!!

(يعم الصمت. الجندي ينظر حوله، ثم إلى الجمهور كأنه يبحث عن إجابة. يفتح فمه ليقول شيئًا، لكنه يتردد. الضابط ا يعبس، المحامي يعبث بأزرار سترته، والشاهد المزيف يبتسم بانتصار وهمي.)

الضابط السابق: (ينظر إلى القاضي، صوته حاد، قاطع) هذا هراء. أنتم بحاجة إلى كبش فداء، ونحن من وقع علينا الدور. هذا كل شيء،، العدالة التي لاتنطق بالحقيقة ماهي بعدالة!!

القاضي: (يومئ برأسه ببطء، يغمغم وكأنه يحدث نفسه) كبش فداء…؟ أم مرآة للحقيقة؟!!

المحامي: (يعتدل في جلسته، يعدل نظارته، يتحدث ببطء متعمد) حسناً، سيدي القاضي، نحن مستعدون لأي دفاع منطقي. قدموا لنا التهم، لدحضها بيسر وسهولة،،تهم اوهن من بيت العنكبوت!!

القاضي: (يبتسم، يفتح دفترًا أمامه، يقرأ بصوت مسرحي مبالغ فيه) “الخيانة العظمى.”…الخيانة العظمى,

(المحامي يصمت. الجندي يحدق في القاضي. الضابط يرفع حاجبيه مستغربًا. الشاهد المزيف يبتسم بارتياح، كأنه حصل على إجابة الامتحان مسبقًا.)

الجندي: (يضحك، رافعا يديه في الهواء مستسلمًا) رائع! كنا أبطالًا في الحرب، وخونة في السلام..معادلة مرضية جدا.

القاضي: (يومئ برأسه، يبتسم ابتسامة صغيرة غامضة) أنت ذكي تفهم بسرعة. وتسأل بنجاح يثير الإنتباه، لشد ما يعجبني العقل الذي يسأل!!

(الخارج يضج باصوات هتافات غير واضحة. كأن الحشود تطالب،  بكلمات غير مفهومة. المحكمة تصبح مكانًا أكثر غرابة. الضوء يزداد خفوتًا، كأن القاعة تنفصل عن الواقع شيئًا فشيئًا)

 

المشهد الثالث

(الإضاءة، لا تنطفئ بالكامل. صوت هتافات الخارج يتضخم للحظة، ثم يخفت فجأة، كما لو أن أحدهم أوقف الزمن. القاضي يقلب صفحات دفتره ببطء، بينما المحامي يضع ساقًا فوق أخرى، يراقب الوضع بعينين نصف مغمضتين، غير مكترث، لكنه يراقب كل شيء بدقة.)

القاضي: (بهدوء زاحف، دون أن يرفع نظره عن الدفتر) إذن… الخيانة العظمى…الخيانة العظمى توجه هذه التهمة إلى من يتصل بدولة خارجية بهدف تقويض الأمن والاستقرار في بلاده، يقاتل مع طرف آخر ضد بلاده، يخطط لقتل رأس الدولة، يتخابر مع دول أخرى عدوَّه مُسَرِّبَاً لها أسرار الدولة،

الضابط السابق : (يعقد ذراعيه، يتحدث بنبرة ساخرة) وهل لك أن تشرح لنا، سيدي القاضي، كيف يخون رجل قاتل من أجل وطنه،،وما فكر يوما بأن يكون بغير خندق قتاله؟!!

القاضي: (يرفع رأسه، يبتسم ابتسامة شبحية) هذا هو السؤال الخطأ، ايها الضابط… البطل. السؤال الأهم هو: ماذا يفعل الوطن بأبطاله بعد انتهاء الحرب ؟!!

(الجندي يحدق في القاضي، عينيه تضيقان كما لو أنه فهم شيئًا مرعبًا. المحامي ينظر إليه نظرة عابرة، ثم يعود للعبث بأزرار سترته.)

الجندي: (بصوت منخفض، لكنه حاد كحد السكين) أنتم لا تحاكموننا لأننا خونة… أنتم تحاكموننا لأننا لم نمُت.

الشاهد المزيف: (يرتبك، ينظر إلى القاضي كأنه يحتاج إلى توجيه، ثم يرفع يده بحماس مفتعل) لكن… لكنهم كانوا يخططون لشيء..كثيرا ما سمعتهم يتحدثون عن اخطاء لاوجود لها وقتلى لا ضرورة لقتلهم؟!!

المحامي : (بكسل مصطنع، يشير بيده كأنه يطرد ذبابة مزعجة) شيء؟ هل يمكنك أن توضح لنا، أيها الشاهد الكريم، ما هو هذا “الشيء”؟

الشاهد المزيف: (يتلعثم، ينظر حوله، ثم يشير إلى الجندي والضابط السابق) كانوا… كانوا يتحدثون عن العودة.. عن،،عن العيش بأمان،،عن اولاد واحفاد وحياة خالية من الخوف!!

الضابط السابق: (يضحك بسخرية، يصفق ببطء) يا لها من جريمة! أن نحلم بالعودة والعيش بامان ويسر!!

القاضي: (يميل للأمام، صوته ينخفض حتى يصبح بالكاد مسموعًا) العودة؟ العودة إلى أين ايها الشاهد؟

(يعم الصمت. الجندي والضابط  يتبادلان النظرات. المحامي يبتسم ابتسامة خفيفة، كأنه بدأ يستمتع بالمسرحية العبثية التي تجري أمامه.)

الجندي: (بهدوء، لكنه يحمل في صوته شرارة غضب مكبوت) العودة… إلى الحياة…هذا مايريد قوله الشاهد الجليل!!

القاضي: (يومئ برأسه، كأنه سمع اعترافًا خطيرًا) هذا هو ذنبكم، أيها السادة. أنتم لم تفهموا القواعد. التي عقدت المحكمة بموجبها؟!

(المحامي يتكئ للأمام، يرفع حاجبًا، كأنه يريد سماع المزيد. الشاهد المزيف يهز رأسه بحماس، متظاهراً بأنه يعرف ذلك طوال الوقت.)

الجندي: (ببرود ساخر) قواعد؟ أي قواعد سيدي القاضي ؟!!

القاضي: (يبتسم، يشير إلى الخارج، حيث تتردد الهتافات غير المفهومة مرة أخرى) الوطن، يا بني، لا يحب الذين يعودون. الوطن يحب الذين يموتون من أجله، لا الذين يحاولون العيش فيه. واستهلاك موارده،واثارة اسئلة عن حرب يجب نسيانها..

(يعم الصمت أكثر كثافة، كأن القاعة بأكملها بدأت تستوعب حقيقة بشعة كانت مخبأة طوال الوقت.)

الضابط: (يميل الى امام، ينظر للقاضي مباشرة، صوته يصبح أكثر قسوة) اهذه محاكمة… أم إعدام بطيء؟

القاضي: (يميل رأسه، يرفع كتفيه بلا مبالاة) سمِّها كما تشاء… أنت رغم وجودك في المحكمة حر في إختيار المسميات!!

(صوت طرق باب القاعة  المغلق طوال المحاكمة يُدَقُّ من الخارج. الجميع يلتفتون نحوه….)

 

المشهد الرابع

(الظلام الذي غلف القاعة بعد الطرق على الباب لا يتبدد كليًا، بل يظل كأنه غبار عالق في الهواء، يخنق الأنفاس دون أن يُرى. الضوء يعود تدريجيًا، لكنه متقطع، أشبه بوميض خاطف. الصمت في القاعة  صار كيانًا ثقيلًا .)

القاضي: (ينظر إلى الباب، ثم إلى المتهمين، وكأنه يقيس ردود أفعالهم بدقة) يبدو أن أحدًا لم يتعلّم الدرس بعد…ما اصعب أن تتعامل من لايعلم الدرس ولا يعرف أهميته!!

(اصوت الطرق تتكرر أشد قوة، كأنه مطرقة تريد هدم الجدران.)

المحامي: (بصوت هادئ، مشحون بتوتر دفين) هل نتوقع زائرًا في منتصف المحاكمة، سيدي القاضي اولا يعد هذا خرقاً لقواعد المحاكمات الخاصة والتي يتوجب الحفاظ على اسرارها؟

القاضي: (يبتسم ببرود، يشير إلى الشاهد المزيف) افتح الباب… لابد وان هناك ما توجب الحضور، الاشياء المهمة لايجب ان تتأخر!!

(الشاهد المزيف يتردد، ينظر إلى القاضي، ثم إلى المحامي، ثم إلى المتهمين. . يسير نحو الباب بخطوات مترددة. يقف أمامه لحظة، ثم يضع يده على المقبض. يلتفت إلى القاضي، الذي يكتفي بإيماءة صغيرة الشاهد المزيف يفتح الباب… ببطء شديد. لكن خلف الباب لا يوجد أحد.الجميع يحدقون في الفراغ. الجندي يقترب خطوة من القضبان الزجاجية، القاضي يميل برأسه قليلًا، كأنه ينتظر شيئًا.)

الجندي: (بصوت خافت، كأنه يحدث نفسه) ربما لم يكن هناك أحد من البداية. ربما هي الريح السيد، الريح التي تشكل  عوائق لايمكن فهمها!!

الشاهد المزيف: (يبلع ريقه، يتراجع خطوة، يغلق الباب بهدوء وكأن إغلاقه أكثر خطورة من فتحه) لا أحد هناك، سيدي القاضي…الفراغ يملأ المكان بسكون مريب..!!

القاضي: (يبتسم ابتسامة صغيرة، يضرب بمطرقته على الطاولة مرة واحدة فقط، فيرتد الصوت كثيفًا داخل القاعة، كما لو أنه كسر شيئًا غير مرئي) ممتاز. مادام الامر لاشيء.. لنكمل المحاكمة.

(الجميع يعودوا إلى أماكنهم..)

المحامي: (يعدل نظارته، ينظر إلى القاضي ببرود) سيدي القاضي، كان موكلَيَّ ينتظران سماع الأدلة الحقيقية ضدهما، لا فلسفة عقابية مجردة.

القاضي: (يومئ برأسه، يفتح السجل، يقلب بعض الصفحات، يقرأ بصوت منخفض، رتيب، بلا انفعال) التهمة… الخيانة العظمى للوطن، ومحاولة التشكيك بحاجته الى ابطال. يشكلون سوراً امنا لوجوده،، الاوطان دون ابطال لايعني وجودها شيئا،،!!

(الجندي يحدق في القاضي، ويضحك ضحكة غريبة، ليست ساخرة تمامًا، وليست يائسة. ضحكة لشخص أدرك الحقيقة بعد فوات الأوان).

الجندي: (بهدوء) إذن… هذه هي تهمتنا التي تحولت الى جريمة اثارت غضب الدولة وساستها ومن بعدهم الاحزاب ومن اتبعها؟!!

القاضي: (يغلق السجل، ينظر إلى الجندي بعيني صقر يراقب طريدة أخيرة) أخبرني… حين كنت على الجبهة، تقاتل وتقتل، هل فكرت يومًا بما سيحدث بعد أن تعود؟

الجندي: (يصمت لحظة، ثم يهز رأسه ببطء) لا لم افكر بهذا الامر. كنا مشغولين بمحاولة البقاء على مانسميه اثناء مزحنا قيد الحياة. لا اظنك تصدق أني نمت شهوراً طويلة داخل تابوت صنعته بيدي، تابوت جعلته شبيه بقبر منسي، او تعرف سيدي معنى ان ينام الإنسان في قبر منسي؟!!

القاضي: (يميل للأمام، صوته ينخفض حتى يصبح كالفحيح) وهذه كانت غلطتكم الأولى…البطولة ليست التفكير بالموت بل بديموتها الموتى دخلوا عالم النسيان اما البطولة فهي سر الحياة الابدي!!

(الجندي لا يرد. الضابط يضيق عينيه، كأنه يفكر بشيء عميق. المحامي يشبك يديه، ينتظر، بينما الشاهد المزيف ينظر إليهم بحيرة، كأنه لم يعد متأكدًا من دوره في المسرحية.)

الضابط: (بصوت جاف، كأنه قطعة صخر تنهار ببطء) والغلطات الأخرى؟ ماذا عن الغلطات الاخرى وهي كثيرة وسط لحظات كنا نعرف ما تخفي وتضمر؟

القاضي: (يضحك ضحكة قصيرة، ثم يشير إليهما بإصبعه، كأنه يحكم عليهما شخصيًا) الغلطة الثانية؟ واضحة ولا تحتاج الى كثير تأمل وتفكير،،،أنكم عدتم.!!

(الصمت  ليس صمت استسلام. إنه صمت الانفجار القادم. الضابط  يشد قبضته، والجندي ينظر إلى القاضي كما لو أنه يريد أن يلتهمه بعينيه.)

المحامي: (بهدوء، لكنه يحمل في صوته وزن الحقيقة التي لم يعد بالإمكان تجاهلها) إذن، هذه ليست محاكمة. هذه عملية تنظيف. سيدي القاضي؟!

القاضي: (يميل للأمام، يبتسم ابتسامة بطيئة، لا تصل إلى عينيه) وأي محكمة ليست كذلك كل المحاكم اقيمت من اجل تنظيف المجتمع من اجل الخطايا والأدران !!

(فجأة الباب يُفتح من تلقاء نفسه.. ببطء. كأنه فم مظلم يبتلع كل شيء. هتافات الخارج تتسلل إلى الداخل…  واضحة.  تهتف باسم الجندي والضابط . بصوت واحد. كأنما الاصوات لكائن واحد.)

الجندي: (ينظر إلى القاضي، صوته يرتجف، لكنه ليس خوفًا. إنه فهم متأخر لحقيقة مهولة)ماذا… فعلتم؟

(القاضي يبتسم الجندي والضابط ال يحدقان فيه، ثم في الباب، ثم في الحشد غير المرئي. النور يخفت تدريجيًا، بينما الهتافات تتضخم حتى تصبح مثل هدير بحر هائج.….)

 

المشهد الخامس

(الظلام لا يختفي، بل يبقى مثل ضباب ثقيل يطفو على حافة الضوء. الهتافات القادمة من الخارج تتضخم،إيقاع متكرر، صوت جماعي منتظم، أشبه بصوت آلة حرب)

القاضي: (يعدل من جلسته، يضع ساقًا فوق الأخرى، صوته هادئ لكنه كمن يدير أزرار آلة ضخمة من وراء الكواليس) هذه الأصوات بالخارج… ألا تذكركم بشيء،،كأني سمعتها من قبل كثيراً، مالذي يريدون؟!!

(الجندي ينظر إلى الضابط الذي ينظر الى الباب المفتوح، المحامي يراقب القاضي بتمعن، كأنه ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض)

القاضي: (يميل للأمام، نبرته تتحول إلى همسة تشبه الأفاعي عندما تقترب من ضحاياها) هل تبدو لكم مألوفة؟

الجندي: (بصوت مبحوح، لكنه مشحون بانفعال مكبوت) كنا نسمعها هناك… في الحرب…أصوات موجعة متوسلة رافقتنا طوال سنوات الحرب!!

الضابط : (يكز على أسنانه، كمن يحاول سحق ذكرى قديمة بين ضراسه) قبل كل معركة، كانوا يصرخون باسمنا… كنا نحن الأبطال… الذين لا يُهزمون…يتوسلون ارواحنا من أجل انقاذهم،،علمونا إن البطولة فعل سام وفكرة تسكن روح الازل!!

القاضي: (يبتسم، عيناه تضيقان كأنه يسمع موسيقى لا يسمعها سواه) والآن..اراك غيرت الكثير مما كنت تؤمن به وتدافع عنه؟!!

الجندي: (يحدق في القاضي، ثم في الباب، ثم يعود بنظره إلى القاضي، وكأن كل شيء أصبح واضحًا فجأة) إنهم يصرخون مثل كل مرة… ولكنهم هذه المرة، ليس لأننا أبطال، بل لأننا… ضحايا. يودون معرفة ما حدث؟!

(الصمت يلف القاعة، صمت من يقف على حافة هاوية وينظر إلى الأسفل لأول مرة.)

القاضي: (يصفق ببطء، ثلاث مرات، صوته يقطر لذة خفية) ذكي. ذكي جدًا. أخيرًا، بدأت تفهم…منذ رأيتك أول مرة عرفت أنك خارق الذكاء والنباهة!!

(الجندي لا يرد. المحامي يتنفس ببطء، يحاول ترتيب أفكاره وسط هذا العبث. الضابط  ينظر إلى القاضي نظرة رجل فقد كل شيء، لكنه ما زال يحتفظ بكبريائه)

المحامي: (بصوت متزن) هذه… مسرحية، هذا ما اكتشفته منذ اول وهلة دخلت القاعة، شخصياً لا اميل الى المسرحيات المحشوة بالأكاذيب!!

القاضي: (يضحك ضحكة خافتة، ينهض من مكانه، يخطو إلى مقدمة المنصة) أليست الحياة  مسرحية هذا ما سمعته مراراً ما الحياة سوى مسرح كبير وما نحن سوى ممثلين نجهل فن التمثيل ولا نصلح لغير الادوار الصغيرة.

الجندي: (بغضب، ينهض، يضرب القفص الزجاجي بقبضته) اللعنة عليك! نحن لسنا ممثلين في مسرحيتك القذرة هذه، وتافه من اوهمك ان الحياة مسرح كبير.

القاضي: (يشيح بيده بلا مبالاة، كأن ما قاله الجندي ليس سوى صرخة طفل في متجر ألعاب) لست أنت من يقرر ذلك، بل الجمهور… الجمهور هو العارف الوحيد اذا ما كانت هذه مسرحية ام لا؟!!

(يشير بإصبعه إلى الباب المفتوح، حيث الهتافات تتردد قوة، تتحول إلى ما يشبه العاصفة البشرية.)

الضابط: (يتمتم، كأنه يتحدث إلى نفسه) إذن… إنهم لا يهتفون لنا… بل علينا… هتافاتهم اسقطت عنا اوسمة البطولة!!

القاضي: (يومئ برأسه ببطء) تمامًا فهمت الامر بوقت احسدك عليه، حين تنتهي الحرب لم يعد للبطولة معنى، أنا شخصيا مؤمن أن البطل كائن ارعن يقدم حياته لقاء لاشيء!!

(الجندي يتراجع خطوة إلى وراء، المحامي ، يحاول العثور على مخرج. الشاهد  عيناه تتحركان بسرعة، كأنه  يشك في الدور الذي يلعبه في هذا العرض.)

المحامي: (بهدوء) إن كانت هذه مسرحية، لابد من وجود كاتب، فمن هو، خبرتي في مشاهدة المسرحيات وقراءتها منذ كنت صبيا تقول انه مؤلف ساذج لايعرف كيف يقود الاحداث..؟!!

القاضي: (يضحك، ثم يمد ذراعيه إلى الجانبين) الوطن…كاتب هذه المسرحية التي تقول عنها ساذجة هو الو….طن ،،،أفهمت،،،ال،..ووو…طن!!

(القاعة بأكملها تجمدت. الأنفاس صارت بطيئة، ثقيلة. القاضي يبتسم بعد ان كشف الورقة الأخيرة في لعبته. الضابط يحدق فيه بنظرة غاضبة،.)

الجندي: (بصوت منخفض) الوطن…  الوطن هو من دون حكمنا؟

القاضي: (يميل للأمام، يهمس) الوطن لا يحتاج أبطالًا بعد انتهاء الحرب… الوطن يحتاج أعداء.

(الهتافات تصل إلى ذروتها. كأن الحشد بالخارج قرر أخيرًا الدخول. الباب يُفتح أكثر، الريح القادمة منه تحمل معها غبارًا كثيفًا. الضابط، يأخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد للمواجهة الأخيرة. الجندي يشد قبضته، لكنه لا يتحرك. المحامي يضع يده على الطاولة، ببطء، ليزن خياراته.الصمت يعود، ضوء في القاعة يبدأ بالخفتان تدريجيًا. الهتافات لا تتوقف…و تتحول إلى ضحكات.… .)

 

المشهد السادس

(ضوء خافت، يأتي من العدم. الباب مفتوح على مصراعيه، لا أحد يعبره. الهتافات في الخارج توقفت فجأة،.

الجندي لا يتحرك. المحامي ينظر إلى القاضي بتمعن، كأنه يراه للمرة الأولى. الضابط ،عيناه تتوهجان بشيء يشبه الإدراك المتأخر. القاضي يبتسم دون ان يقول شيئًا. صوت خطوات بطيئة. ثقيلة. قادمة من الخارج، دقيقة، منتظمة، محسوبة بدقة ميكانيكية.)

المحامي: (بصوت خافت) من… هذه الخطوات تشير الى ان هناك من يريد الوصول الينا؟…

(لا أحد يرد. الخطوات تقترب. ثم… تقف عند العتبة. الظل الذي يظهر في المدخل ليس لشخص واحد. إنه ظل ممتد، كأنه جزء من الجدار نفسه. لا وجه له. مجرد كتلة سوداء، لكنها تنبض….)

القاضي: (يهمس، بصوته لا يخصه، يأتي من مكان آخر) الحكم… وصل. لنستعد جميعاً،

(الجندي يحدق في الظل، يتراجع خطوة إلى الوراء. الضابط يشد قبضته. المحامي يفتح فمه ليقول شيئًا، لكنه يتوقف.… الظل يتحرك.)

القاضي: (يرفع رأسه، يضحك ضحكة قصيرة دونما روح) آه… إذن… حتى أنا؟

(الظل يبتلعه ببطء. لا صراخ، لا مقاومة..الجندي يراقب، لكنه لا يتحرك. الضابط  يمسك بالطاولة ليحافظ على توازنه. المحامي يخطو خطوة إلى الأمام، كأنه يريد التدخل… لكنه يتوقف.بعد لحظات، القاضي لم يعد موجودًا. الكرسي الذي يجلس عليه ما زال في مكانه، فارغًا.)

المحامي: (يهمس، كمن لا يصدق ما رآه) ما الذي يحدث…(يصرخ) مالذي حدث، لعبة على غاية من الوقاحة.

الضابط : (بصوت متحشرج، يحمل شيئًا من السخرية) أليس هذا ما كنا نسأل عنه طوال الوقت.. كان انتظارنا يأخذنا دون  ان ندري الى الفراغ!!

(الجندي يحدق في الباب المفتوح. الهتافات توقفت تمامًا.. المحامي يستدير بسرعة. الجندي ينظر حوله. الضابط ا يزفر ببطء، كمن أدرك شيئًا أخيرًا.)

المحامي: (بصوت منخفض، مشحون بالقلق) من… يصفق؟

(الصوت يستمر، لكنه لا يتضخم. مجرد تصفيق ثابت. الجندي يتراجع. الضابط  ينظر إلى السقف. المحامي يحدق في الباب، وكأنه يحاول رؤية ما وراءه.)

(ثم… شيء يتغير.)

(الأثاث في القاعة يبدو مختلفًا. الجدران تتحرك ببطء، . الباب المفتوح يبدأ بالاتساع أكثر….)

الجندي: (بهمس) هذه ليست محكمة… منذ البدايات قلت لكم هذه ليست محكمة، إنها مجرد مسرحية هزلية

الضابط : (يضحك) هذه خشبة مسرح. عالم مبني على دعامات تعتمد الوهم والاكاذيب!

(المحامي يحدق في الباب المفتوح، يخطو خطوة للأمام، ثم يتوقف. الجندي ينظر حوله، جسده متصلب. الضابط  يضحك أكثر… صوت تصفيق، لكنه … قادم من كل مكان.)

 

المشهد السادس

(الظلام لم يبتلع القاعة تمامًا. هناك ضوء خافت، كأن مصدره يأتي من العدم. الباب مفتوح على مصراعيه، لكن لا أحد يعبره. الهتافات بالخارج توقفت فجأة، كما لو أن الزمن نفسه قرر أن يتوقف للحظة.)

(الجندي ما زال واقفًا، لكنه لا يتحرك. المحامي ينظر إلى القاضي بتمعن، كأنه يراه للمرة الأولى. الضابط السابق يتنفس بصعوبة، عيناه تتوهجان بشيء يشبه الإدراك المتأخر. القاضي… يبتسم، لكنه لا يقول شيئًا.)

(ثم… صوت خطوات.)

(بطيئة. ثقيلة. قادمة من الخارج، لكنها ليست عشوائية. إنها دقيقة، منتظمة، كأنها محسوبة بدقة ميكانيكية.)

المحامي: (بصوت خافت، كمن يحاول أن يفهم لغزًا لم تكتمل أجزاؤه بعد) من… القادم؟

(لا أحد يرد. الخطوات تقترب. ثم… تقف عند العتبة.)

(الظل الذي يظهر في المدخل ليس لشخص واحد. إنه ظل ممتد، كأنه جزء من الجدار نفسه. لا وجه له. مجرد كتلة سوداء، لكنها تنبض… وكأنها تتنفس.)

القاضي: (يهمس، وكأن صوته لا يخصه، بل يأتي من مكان آخر، مكان خارج هذا العالم) الحكم… وصل.

(الجندي يحدق في الظل، يتراجع خطوة إلى الوراء. الضابط السابق يشد قبضته. المحامي يفتح فمه ليقول شيئًا، لكنه يتوقف.)

(ثم… الظل يتحرك.)

(لكن ليس نحوهم. بل نحو القاضي.)

القاضي: (يرفع رأسه، يضحك ضحكة قصيرة، لكنها بلا بهجة، بلا روح) آه… إذن… حتى أنا؟

(الظل يبتلعه ببطء. لا صراخ، لا مقاومة. فقط… ابتلاع صامت.)

(الجندي يراقب، عيونه تتسع، لكنه لا يتحرك. الضابط السابق يمسك بالطاولة ليحافظ على توازنه. المحامي يخطو خطوة إلى الأمام، كأنه يريد التدخل… لكنه يتوقف.)

(بعد لحظات، القاضي لم يعد موجودًا. الكرسي الذي كان يجلس عليه ما زال في مكانه، فارغًا. لكن الهواء من حوله يبدو… أثقل.)

المحامي: (يهمس، كمن لا يصدق ما رآه) ما الذي يحدث…؟

الضابط السابق: (بصوت متحشرج، لكنه يحمل شيئًا من السخرية السوداء) أليس هذا ما كنا نسأله طوال الوقت؟

(الجندي يحدق في الباب المفتوح. الهتافات توقفت تمامًا. الصمت الذي يملأ المكان الآن ليس صمت الراحة… بل صمت ما قبل العاصفة.)

(ثم… صوت آخر.)

(لكن هذه المرة، ليس صوت خطوات… بل صوت تصفيق.)

(خفيف، لكنه واضح. يأتي من مكان غير محدد. المحامي يستدير بسرعة. الجندي ينظر حوله. الضابط السابق يزفر ببطء، كمن أدرك شيئًا أخيرًا.)

المحامي: (بصوت منخفض، لكنه مشحون بالقلق) من… يصفق؟

(الصوت يستمر، لكنه لا يتضخم. مجرد تصفيق ثابت. الجندي يتراجع. الضابط السابق ينظر إلى السقف. المحامي يحدق في الباب، وكأنه يحاول رؤية ما وراءه.)

(ثم… شيء يتغير.)

(الأثاث في القاعة يبدو… مختلفًا. الجدران تتحرك ببطء، كأنها تذوب. الباب المفتوح يبدأ بالاتساع أكثر… وأكثر.)

الجندي: (بهمس، بالكاد يُسمع) هذه ليست محكمة…

الضابط السابق: (يضحك، لكنه ضحك مجنون، ضحك رجل أدرك الحقيقة متأخرًا جدًا) هذه خشبة مسرح.

(المحامي يحدق في الباب المفتوح، يخطو خطوة للأمام، ثم يتوقف. الجندي ينظر حوله، جسده متصلب. الضابط السابق يضحك أكثر… وأكثر.)

(ثم… الأضواء تنطفئ تمامًا.)

(الظلام يعود، لكن هذه المرة… بلا عودة.)

(آخر ما يُسمع… صوت التصفيق، لكنه الآن… قادم من كل مكان.)

 

المشهد السابع

(الصمت يسيطر على القاعة. التصفيق توقف،. الشخصيات مجمدة في أماكنها، كأن شيئًا غير مرئي يقيدها. الجدران تذوب ببطء، لتكشف خلفها فضاءً بلا ملامح، مجرد فراغ رمادي ممتد إلى ما لا نهاية.)

(الجندي يلتقط أنفاسه بصعوبة. المحامي يضع يده على قلبه،محاولاً تهدئة نبضه المتسارع. الضابط يحدق في الفراغ، لكنه لم يعد يضحك.)

الجندي: (يهمس، بصوت مهزوز) ماذا يحدث…؟ لماذا تختفي الاشياء، لابد وأن ثمة مكيدة تريد التناول منا؟!

المحامي: (بصوت واهن) نحن لسنا هنا،،. وما كنا هنا أبدًا…إنما هو الوهم الذي صور لنا ما نحن فيه!!(الضابط يلتفت إليه ببط مصحوب برعب خالص) كنا مجرد… مشهد إضافي…مشهد قرره معتوه ونفذه مجموعة حمقى

(لا أحد يجيب..ثم… من الفراغ الرمادي، تظهر وجوه. غير واضحة، كأنها منحوتة من الدخان. وجوه شبان… عيونهم فارغة، يحدقون في الشخوص الثلاثة.)

(الجندي يبتلع ريقه. المحامي يشهق. الضابط  يتراجع خطوة إلى الوراء.)

الجندي: (بخوف حقيقي) أعرف هذه الوجوه…(يبكي) كثيراً ما صادفتني ملوحة أيام الهجومات وهي تحمل توابيت تمطر دماً..

المحامي: (يهمس) مالذي تهذر به: هؤلاء… نحن…نعم هم نحن،،!!

(الوجوه لا تتحرك، لكنها تبدأ بالهمس)

صوت 1: (بخفوت) قلنا لهم إننا لم نبع الوطن… الاوطان ارواح لاتباع!!

صوت 2 : (مخنوق، كأنه صادر عن حنجرة محطمة) لم نعد من الحرب بعد من أجل أن نُحاكم…

صوت 3 : (ممتلئ بالخذلان) قالوا إننا أبطال… صفقوا لنا كثيرا وملؤا صدرونا باوسمة ونياشين ودبجوا القصائد تلو القصائد،، ثم..ثم،، رمونا هنا…قالوا لاحاجة لنا بالابطال بعد اليوم!!

(الجندي يهتز. المحامي يضع يده على فمه. الضابط يحدق في الوجوه كأنه ينظر في مرآة مشروخة.ثم… من الفراغ الرمادي، يظهر كرسي وحيد، لكنه ليس كرسيًا عاديًا. إنه كرسي المحكمة، الكرسي الذي جلس عليه القاضي..)

(صمت.)

المحامي: (بصوت مبحوح، كمن فهم شيئًا خطيرًا جدًا) لا أحد يحاكمنا بعد الآن… نحن من خلق مجد بلاد كانت خاملة لافائدة من وجودها ،،بلاد تابعة لامتبوعة؟!!

الضابط : (يبتسم بسخرية مرة، لكنه لا يخفي الارتجاف في صوته) الحكم صدر… منذ زمن طويل…دون أن ندري  يفتخرُ الجاهلُ ببطولتهِ، وفَهمُهُ عَنِّه غابْ …يزهو بمجدٍ زائفٍ، والعَقلُ عن فِكره هُربْ

(الجندي يلتفت إليهم، عيونه ممتلئة بالدموع،. المحامي يحدق في الكرسي. الضابط ال ينظر إلى الفراغ الرمادي .)

(ثم… من العدم، يأتي صوت واحد، .)

الصوت: (بثبات مخيف) انتهت المحاكمة….لا مجال لنقض الحكم انتهت المحكمة..!!

(فجأة… ينهار كل شيء.)

( الجدران تنهار، الكرسي يختفي. الشخصيات الثلاثة يسقطون في الفراغ ، لكنهم لا يصرخون. فقط… سقوط صامت.)

 

المشهد الثامن

(المحكمة مهجورة، محاطة بضباب أكثر كثافة،المكان مليء بذكريات الماضي. الجدران تتصدع أكثر، والأثاث متناثر بشكل فوضوي. في الوسط، مر عليه وقت طويل. الضوء يأتي من زاويتين، الشمس لا تكاد تخترق الخراب.)

( الجندي يقف إلى جانب الجدران  المتصدعة.

المحامي يقف بالقرب من الطاولة المتناثرة الأوراق . الضابط يقترب من الباب المغلق.)

الجندي: (بصوت هادئ) في كل مرة، أرى هذا المكان… أشعر أنه ينتزع من اعماقي الكثير من الاشياء التي اعشق  اشياء رافقتني بزهو .

المحامي : (يشير بيده إلى المكان حوله) هذا هو المكان الذي نعيش فيه الآن، ولا مفر. لقد اقتحمه الزمن قبل أن نقتحمه. كنا مجرد زخارف في مسرحية كبيرة (يقرأ بصوت مسرحي). هذا الخرابُ ليسَ من صُنعِ الآلهةِ، بل من ايدينا، وها قد أتت لحظةُ الحساب!”

الضابط: (بتنهدة، وكأنه يتحدث لنفسه) الجميع  يختبر نفسه… البعض يخاف من النهاية، والبعض يراها خلاصًا. لكن لا أحد يهرب من الحساب.

الجندي: (نظراته تتسع، يتجه نحو الأثاث المتناثر) الحساب؟! ما هو الحساب؟ هل نحن من يجب أن يدفع الثمن وكيف،،؟!!

المحامي: (يقترب من الجندي) الحساب ليس للذين يعيشون في الماضي… نحن هنا، الآن، لأننا عشنا في الخوف. نحن عبيد لنزوات غيرنا.!!

الضابط : (بصوت غاضب) هذا هو مصير الأبطال! تُكتب أسماؤنا بحروف من دخان! نحن مجرد كائنات قابلة للاستهلاك! هل تتوقعون شيئًا آخر؟

(الجندي يقترب من الحائط، يده تلامس الحطام. يبدأ في تحريك الأنقاض.)

الجندي: (بصوت حاد) أليس لدينا الحق في الحياة؟ أليس من العدل أن نُعامل كأبطال؟ نُكرم كما استحقينا؟

المحامي: (تنهيدة ثقيلة) الأبطال؟! ما فائدة البطل عندما يسقط في مستنقع الوهم؟ لقد أعطونا الرايات والخيبات، لكننا لا نملك شيئًا سوى قطع من الماضي!كنتُ أظنّ البطولة نورًا يشقُّ العتمة، فإذا بها ظلٌّ باهتٌ ترسمه الأوهام. كنتُ أظنها مجدًا، فإذا بها قيدٌ جديدٌ، يصفّق له المغفلون، ثم ينسونه عند أول منعطف.!!

(الضابط  يبتعد ليقف عند الزاوية، يشد قبضته على يده، وجهه مشوه بالتفكير.)

الضابط : (بصوت منخفض، متوتر) نحن ندفع ثمنًا لم نرتكبه… كنا مجرد أدوات. الآن علينا دفع فاتورة الأشياء التي لم نخترها. ممنوع علينا الرفض النعم هو المعنى الوحيد الذي علمونا اياه!!

الجندي: (يصرخ بصوت ماهول بالضياع والخذلان) لماذا؟ لماذا أُحكم علينا، بينما أولئك الذين صنعوا الحروب يختبئون في الظلال؟ كيف لهم أن يناموا ونحن هنا؟!

المحامي:(ينظر إلى الجندي) ما نحن سوى بقايا مهملة على مر الزمن، هناك دائمًا ضحايا حروب، لكن لا أحد يهتم بهم بعد أن تنتهي.،،مقابر مهملة طالها النسيان و ذكريات باهتة لا تثير شجن السامع..

الضابط : (يقترب ببطء، يضع يده على كتف الجندي) نحن مجرد شظايا، والجزء الباقي من الحرب لا يحتاجنا. نحن نقف على حافة النسيان، وسنظل نركض خلف الأوهام.،، ( يغني ببطء) في دربِ الأمسِ سرتُ وحيدًا، ناداني الوهمُ، فعدتُ بعيدًا، نسيتُ الحكايا، نسيتُ الأغاني، فهل كنتُ وهمًا، أم الوهمُ كاني؟

الجندي: (يصرخ وهو يقترب من الباب المغلق، محاولاً فتحه) افتحوا  الباب! نحن هنا! نحن هنا! لا تتركونا نغرق في هذه الظلمة المقيتة (يبكي) منذ طفولتي المبرقعة باليتم وأنا اكره الظلام..اخاف حكاياته الكاسرة للقلوب!

الضابط: (يقترب منه بهدوء) الباب مغلق… ولا يوجد مفتاح. لا يوجد مخرج من هنا. هذا هو المكان الذي سنظل فيه، مهما حاولنا الهروب، صراخك لا يجدي نفعاًً!!

المحامي: (ينظر إلى الجندي بحزن) نحن في المكان الذي يظل يبتلعنا إلى الأبد… لا باب… لا مفر.

(صوت ضجيج غريب يتسرب من جميع أنحاء المسرح، يشتد ويهدأ بشكل متقطع. الجندي يترك الباب منهارا على الأرض. تتساقط الأوراق من يد المحامي.)

الجندي: (بصوت خفيض) هل هذه هي نهاية الأبطال؟ هنا في الظلام… لا أحد يرانا…أو يعرف عنا شيئاً؟!

الضابط: (يتنهد، وكأن الكلمات تنهار منه) نعم، هذا هو مصيرنا. نحن هنا… مجرد ضحايا من بين ملايين الضحايا. الذين اوهمهم القادة انهم ابطال يخلدهم التاريخ وتفخر بهم الامم

(الصوت العميق يعود مرة أخرى، لكنه أكثر تدميرًا.  الشخصيات تتلاشي تدريجيًا، كأنها تذوب في الظلام.)

الصوت: (ويأتي من أعماق المكان) انتهت المحاكمة… لا رحمة…ولا سماع لسؤال او احتجاج.

 

المشهد التاسع

(الظلام يخيم على القاعة، لكن يُسمع صوت خطوات ثقيلة تقترب. الأضواء خافتة ، يظهر شخص غريب، ربما أحد القضاة يرتدي معطفًا طويلًا، ملامحه غير واضحة)

الشخص الغريب: (بصوت بارد، يتقدم نحوهم) المحاكمة لم تنتهِ بعد. لا احد يستطيع اعلان النهاية

(يتقدم أكثر، يسلط الضوء على كل واحد منهم على التوالي: الجندي، المحامي، الضابط ..)

الشخص الغريب: (بابتسامة مبهمة، ينظر إلى الجندي) انت ايها الجندي الباسل هل تعتقد أن البطل يحتاج الى أن يكون محبوبًا بين الناس ومن يقاتل معهم!!

الجندي: (يصرخ) نعم! يجب أن نُعامل كبشر! ليس كأدوات حرب، البطولة هي الشجاعة في مواجهة الخوف، والثبات في وجه التحديات، دون انتظار مقابل. ليس البطل من لا يسقط، بل من ينهض كلما سقط.”

الشخص الغريب : (يرتد فجأة إلى الخلف) ولكنكم لم تكونوا أبطالًا، لقد كنتم مجرد عجلة في آلة ضخمة. تظنون أنكم وحدكم من يعاني؟

الضابط : (يقترب ببطء، ويده على قلبه) هذه هي الحقيقة هذه هي الحقيقة التي نحاول الهروب منها؟

الشخص الغريب: (يبتسم بلؤم) الحقيقة لا تُهرب منها، حتى لو حاولتم. لكنكم، مثلنا جميعًا، تقتاتون منها.

المحامي: (يتنفس بصعوبة، يخطو خطوة إلى الأمام) هذا… هذا ليس ما كنت أتوقعه. هل نحن في محاكمة حقيقية؟ أم في لعبة سخيفة؟

الشخص الغريب: (ينظر إليهم، صوته يزداد شدة) أنتم في محاكمة الحياة. سواء أقمتم بها أم لا، فالمحصلة واحدة: المذبحة.

الجندي: (يقترب من الشخص الغريب) إذًا، لماذا نحن هنا؟ إذا كانت النهاية هي ذات النهاية، لماذا نجعل من أنفسنا أبطالًا..لماذا نوهم من ينتظر اننا كنا ابطالا من أجل وجودهم؟

الشخص الغريب: (يضحك) لأنكم لم تكونوا أبطالًا قط. ولا تملكون الشجاعة لمواجهة الحقيقة…أوهامهم واكاذيب الغير صنعت منكم أبطالاً

(الجندي يسقط على ركبتيه، عينيه مليئة بالدموع، .. الضابط يبتعد في صمت . أصوات الهمسات والضجيج تتسارع.)

الجندي: (بصوت مختنق) إذا كانت هذه نهايتنا، وإذا هذه هي الحقيقة، لماذا لا يعترف العالم بنا؟

المحامي: (يتجه نحو الشخص الغريب) الحقيقة لا يملكها سوى من يعترف بها. ونحن لا نملكها. لقد تركناها خلفنا، مثل اشياء كثيرة كنا نظن ان تركها ضرب من المستحيل!!.

(تتساقط الأوراق من يد المحامي.، مشهد غريب وجنوني)

الضابط: ( بصوت عميق ومكتوم) الحقيقة؟ أية حقيقة؟ نحن جميعًا ضحايا التاريخ، ونحن هنا لأننا اختارنا أن نكون من ضحاياه..

الصوت: (يتنقل في كل مكان) ليس هناك نهاية، ولا بداية. نحن، في نفس المكان، من الابد إلى الأبد.

(الضوء ينطفئ فجأة، والستار ينخفض ببطء، تاركًا الجمهور في حالة من التساؤل العميق)

Related Articles

Back to top button