قراءة في مسرحية البخارة – تونس
بمهرجان المسرح العربي – الدورة 15(مسقط 2025)
“البخارة “.. نموذج متعة جمالية تحتاجها عيون المشاهد العربي، لتزيلَ من على أجفانها أدران السطحية العقيمة و أوزارَ الكتابة الساذجة التي تنتصرُ للإبهار على حساب قضايا الهامش والمهمشين. ذلك لأنها تعيدُ للمسرح وظيفته المجتمعية وللعرض سؤال الحاضر.. (الآن وهنا)، مسرحا فوريا (Immediate theatre) بتعبير بيتر بروك، لا مسرح موت وموتى..، كما تنحت بدقة عالية تفاصيل الجسد الإنساني ودهشته الأولى التي تحيله إلى إنسان غير مكتمل الإنسانية وهو يفتش عن نفسه في جيوب معطف غوغول المثقوب، وأمام مرآة ياتا (Yata Mirror) المقدسة بقلب خال من الأحاسيس… البخارة.. تقلبات اليمين واليسار، صراعات النوع الاجتماعي، أسئلة الأدب والعلم، تلوث الجسد والروح، حيرة جلجامش بين الحضارة والحضيرة وعذاب سيزيف الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، فلوحة البرولوغ وحدها، تكفي لتكون مسرحا بألف سؤال…ومساحة فارغة تسع العالم بكل توتراته وآلامه وأحزانه…لوحة بدايتها ظلام، إعلانا عن سرد درامي من وحي الهامش، وأبواب سريالية تؤدي إلى ذات الظلام وتنفتح على بيئة من التوترات عبر سؤال وحيد ومتعدد في ذات الآن من طرف ظل أو نصف إنسان…لتنطلق وساوس الفرجة منبثقة من هواجس المسرح وما قبله ، والمسرح وما بعده: بأي جرعة تقنية و بصرية يغذي العرض قضيته؟ وهل فعلا يموت الممثل وتموت الفكرة إن كانت الجرعات التقنية مدهشة أكثر من اللازم؟ ثم هل نجح العرض في خلق نسق جمالي يوفر أقصى حدود المتعة من داخل الوظيفة الفكرية والاجتماعية للمسرح؟
البخارة عرض مسرحي لفرقة مسرح أوبرا تونس، وهي من تأليف صادق الطرابلسي وإلياس الرابحي، ومن إخراج صادق الطرابلسي. يستهل العمل المسرحي بنيته اللفظية بعبارة “وين الشمس؟” ليكون الإعلان منذ الوهلة الأولى عن مرامي الفرجة وغاياتها، وأسلوب الحوار وأبعاده، وعن خيار جمالي يزاوج بين الحركة الموسيقية وبساطة اللفظ التي تخفي جبل جليد من الفلسفة.. فالشخصيات من خلال صانعي العمل، تبرم تعاقدا رمزيا مع المشاهد، ينص على أنها تراود خشبة المسرح لتطرح السؤال تلو السؤال وتبحث عن الحقيقة المخفية خلف الأسوار… وما الحقيقة هنا إلا شمس الإنسانية الغارقة في براميل الملح المذاب، وهي ذات الشمس التي تمثل جوهر الحلم البشري ومنتهاه، ومرآة أماتيرازو (Amaterasu) التي يمكن أن نرى فيها بشاعة العمى الفردي الذي يحجب عنا عري جسدنا الجماعي، وذلك عبر كل لغات العرض وعلاماته اللفظية والبصرية. فالشخصيات تسبح بداية عبر رقصات متناسقة، أقرب ما يكون إلى شطحات درويش صوفي يوشك على الانتقال في جذبته ونشوته من عالم الحقيقة إلى عالم المثل البعيد عن هموم الواقع، أو رقصات النو-ماي (NOH MAI) اليابانية، والتي تحيل بدورها عن تعبيرية المشاعر التي تعجز عنها الكلمات، كأن لسان حال الراقص يعكس ظلال مأساة هيروشيما (Hiroshima) ويحيي جراح ناكازاكي (Nagasaki) القديمة. ما يساعد على إحقاق هذه البداية الحالمة، علاوة على خيار التعبير الراقص، هو الفضاء السينوغرافي الغارق في الظلال والمفرط في الشحوب، إن على مستوى الإضاءة أو الأبواب المتلاشية في عمق الخشبة (up stage)، فتظهر الشخصيات كأشباح تخرج من الأجداث، أو كأحياء أموات لا يعرفون وجهة خطوهم ولا نهاية أقدارهم.
يتباذر للوهلة الأولى من خلال بحث الشخصيات عن الشمس، أن فرجة البخارة، تعيد نسج سؤال الإنسان وواقعه، وهو ذات السؤال الذي انطلق منذ النبضة الأولى لعجلات عربة ثيسبيس المسرحية، وهو ذات النور أو النار التي سرقها بروميثيوس لينير العالم، ونفس الاستقصاء الفكري والوجودي الذي يتجاوز حرفية الفعل الدرامي إلى التعبير الشامل عن الفوضى والعقم الروحي الذي نموت معه موتا إكلينيكيا على سرير بر وكرست، في عالم من القوالب الجاهزة.. أين الشمس؟ صرخة تعبير عن الغياب النهائي للجمال التام، ومحاولة ترتيب الفوضى الإنسانية التي ألفناها منذ عبثية صمويل بيكيت (1906-1989) وشخصية غودو (Godot) التي لا تأتي ولا تظهر، وأيضا مع المدرسة النفسية لسيغموند فرويد (1856-1939) والتي تعتبر غياب الشمس سيطرة للأهواء وانهيارا للنظام وهبوط الإنسان إلى الأرض السفلى أو “الدوات” (Duat) وقلبه لا يساوي شيئا في ميزان ريشة أوزوريس…
أين الشمس؟ طعنة في كبد الوكالة الصناعية واستنجاد ينتصر للحياة كما يعيد للمسر ح أدواره الفلسفية والاجتماعية، بأدوات تعبير معاصرة تنسجم مع محاولات التجديد التي سكنت عشاق المسرح في كل الساحات الكبرى، وتتماشى وما يخطه مسرحنا العربي اليوم من تألق وانتصارات واستمرارية، حيث سؤال البحث المستمر عن كاتارسيس (Catharsis) نهائي وخالد لسمومنا وشتاتنا، وعن تفكير جماعي يجرد وجودنا من وحشيته ويضع الإنسان منزلة الإنسانية التي يستحقها.
أمام هذا الحلم البصري الجميل والمؤلم لمسرحية البخارة، راودني كما قد يراود كل متتبع سؤال في غاية التعقيد: ما الذي يدفعنا إلى مسرحة قصص الغرباء؟ لماذا لا نحلم بلغتنا الأم بتعبير جيل دولوز(1925-1995) بعيدا عن الاغتراب والعيش في أجساد الآخرين التي لا نشبهها ولا تشبهنا؟ لماذا لا نحلم انطلاقا من الحكايات والقصص التي سكنتنا وسكناها، عاشتنا وعشناها، حلمنا قربها ونحن نجر حقيبتنا الصغيرة رجوعا من المدرسة، قبل أن ندرك أنها ذات الأحلام تقاتل بعضها البعض ونحن نشاهد من بعيد كالسكارى؟ لماذا لا نبدع انطلاقا من حكايات أناس بسطاء؟ ومن يدري فقد تكون تلك فعلا، الحكايات التي تستحق أن نحبها كما تقول الكاتبة ليلى أبوزيد. وهذا عين ما تفعله مسرحية البخارة بمشاهدها، فهي تنطلق من المحلي، من حكايات البيت، من يوميات الأسرة البسيطة من شغف العلاقات، من مشاكل الجيران، من أبسط إشكالات الأسرة المتمثل في إشارة القمر الاصطناعي المفقودة، وأقصى نجاحاتها إيجاد الإحداثيات المناسبة للصحن الهوائي، والذي لا ندري أهو اليمين أم اليسار؟ ثم ندرك أن الأمر أكبر من ذلك، إذ سرعان ما يصبح الأمر أخطر من مجرد بحث عن إشارة تعيد للتلفاز برامجه، بل هو بحث عن إشارة تعيد للعلاقات الإنسانية ضبطها الصحيح، وللحي عاداته السليمة، وللعمال حقوقهم المهنية، وللمدينة نبضها الطبيعي…
دلال ، نضال، يحيى، مولدي ، أربع شخصيات تلتقي لتكون صوت الهامش، وتحمل أثقال مدينة بكل همومها و أوزارها، إضافة إلى عماد، الوجه الآخر للانتهازية المخبأة في ثوب البريستيج الوهمي، وقد أبدع الكاتب والمخرج على حد سواء في تحليل أبعاد الشخصيات النفسية والجسدية والاجتماعية، لتكون شخصيات درامية بحمولات مختلفة ومتباينة، تعكس جانبا من الأسرة المجتمع، وقد نجح الممثلون: مريم بن حسن، رمزي عزيز، على بن سعيد، بلال سلاطنية، و بليغ مكي، في تقديمها وفق جرعات الأداء المطلوبة، بما يحفظ لها حقيقتها، لكن في قالب من الامتاع والمبالغة التي تضمن للفرجة عمقها أيضا، إضافة إلى عنصر الدخان، الذي اعتبره في هذه المسرحية، شخصية أخرى، وليس مجرد تقنية جمالية، فهو كائن حي، لا يفارق كيان الشخصيات، ولا يتكلم إلا يخنق الأنفاس، بل هو صانع المأساة الأول والأخير، ومحرك الخيط الدرامي و مهندس طريق الموت الوحيد والأوحد للشخصيات وكل سكان المدينة، من طبقية العلاقات المجتمعية، و صراعات المظاهر، وأسئلة العزلة والفقدان، ثم هشاشة الإنسان وضعفه أمام مصيره وأمام الموت القادم.
تنتشي ذواتنا بتناسق مختلف مكونات السينوغرافيا، من ملابس وإضاءة و موسيقى، مع أداء الشخصيات..نستكشف في كل لحظة من لحظات العرض سبرا جديدا لأغوار القصة ..نرى في صراع الشخصيات ميلاد المأساة النيتشوي حيث يتصارع النظام والفوضى.. تشعرنا اللمحة البصرية والتقنية السينمائية الموظفة في العرض بالاغتراب، وكأن الأمر لا يعنينا في شيء، ثم ما نلبث أن نستيقظ من الحلم وننزع عنا قشور اللباقة وبروتوكولات المشاهدة لنرى الصورة على حقيقتها، دون “فيلترات” استطيقية، بعيدا عن الفلسفة، مدركين أن هذا واقعنا، وأن القصة قصتنا جميعا، وأن الحكاية ليست بذلك الاغتراب الذي أضفاه سحر الإخراج على العرض، فبساطة الحوار تضعنا أمام المرآة، نرى عرينا ورغباتنا، نرى حمقنا ونزواتنا، وكأن الشخصيات تتحدث نيابة عنا جميعا، فكلنا نطمح لذلك الاستقرار الأسري والمهني، كلنا نريد فاكهة لم تنلها سموم المواد الكيماوية وكسرة خبز من طحين أرضنا الأم، كلنا نريد استنشاق هواء نقي، وكلنا نريد مدينة فاضلة لم تصبها بعد لعنة المحركات. فهكذا يصيح نضال معربا عن طموحاته تجاه نفسه وتجاه الآخرين:
نحبكم تعيشو بكرامة،
تتنفسو هوا نظيف،
تشربو ماء صافي،
تاكلو خضرا وغلة تصلح.
وهي طموحات على بساطتها طوباوية، تجعله نسخة من دونكيشوت، يحارب طواحين الهواء، بما يعطي صورة واضحة عن المناضل الذي تفوق أحلامه أحيانا أدواته وإمكانياته، المناضل وربما المثقف الذي لا يقوى على دفع فاتورة الماء والكهرباء و ديون العطار، ديون تحاصره لكنها لا تصادر حقه في البوح والتعبير عن حقيقة الاختناق الجماعي و سببه:
نضال: (…)
محصورين في ديارنا كيف الفيران
قالو الشيمينيا تخرج في بخار الماء
بخار الما مايقتلش يا يحيى..
عنصر التأليف الذي يحضر بقصة من نسج الواقع المعاش، إضافة لتصورات الإخراج، وإن كانت بلمسة ما-بعد درامية، قدمت مسرحا لم يمت قلبه، لم يمت مؤلفه، فلم تمت بذلك الفكرة، ولم تتفوق الدهشة التعبيرية على حضور الحبكة الدرامية والفعل المسرحي الهادف، فقد نجح مخرج البخارة بمعية فريق العمل في جعل المسرح يلعب دوره الاجتماعي بشكل فعال، فكل لغات العرض تتحدث وترقص و تنبض بالحياة، وتصبح ناقوس تنبيه لتحفيز حواس الجمهور على التلقي اليقظ والنشط، إذ سرعان ما يدرك أن الأضواء المنبعثة من الأبواب التي تؤثث فضاء العرض، ليست إلا حقائق مقطرة على أجساد بشرية هشة، تعبث بها أوهام الحضارة لتحيلها إلى بيئة مختنقة.
ومع تجاوزنا لعتبات الفرجة واستكشافنا لعالم المسرحية الرمزي، نجد اللعبة المسرحية للبخارة، تنبني أساسا على إعادة تقديم ما نعرفه سلفا عن الحياة والحب والهوية والعدالة، لكنها تطالبنا بإعادة النظر في تفسيراتنا لفعل الخلق الدرامي أمام فعل الخلق الإنساني المشوه داخل براثين الآلات وضجيجها، الذي ليس سوى وسوسة شيطانية تشجع إنسانيتنا على قضم تفاحة الخلود الملفوفة في سرابيل الحضارة الزائفة، لنسقط جميعا فيما حذر منه مارتن هايدجر حول تحول الإنسان إلى آلات، بل إلى مجرد قطع غيار صغيرة داخل الآلات، لنستحق بذلك فعل النفي من الجنة الحقيقية إلى الجنة المسمومة..
نجحت المسرحية عبر التقنيات والمؤثرات البصرية، علاوة على حركات الشخصيات المتكررة في مساحة فارغة، في تحويل خشبة المسرح إلى وحدة تصنيع، أو إلى مصنع مصغر، يختزل تجريد الشخصيات من إيقاعها الحياتي الطبيعي، لتعيش الاغتراب في الزمان والمكان، فمولدي “الأب” شخصية مشوشة، محاصرة بين شوقها لما كان عليه ماضيه، وحاضره الأشبه بفخ نفسي، من جهة لصعوبة تأقلمه مع الجيل الجديد ومواضيعه، ومن جهة أخرى لمرضه نتيجة ظروف العمل السابقة، الأمر الذي حوله لشخصية ساخطة، سريعة الانفعال، تعلق على أي نقاش بالتأفف والسخط والرفض. أمام هذا الأفق المختنق للشخصيات، تنتهي حتى أحلام اليقظة وآمال إنجاب الأبناء من طرف دلال ويحيى على وقع نباح الكلبة لايكا. تنبح الكلبة هذه المرة، رغم أن القافلة معطلة ولا تسير، والأسرة تتآكل قيميا في فضاء آلي تجاوز الإنسان، ولم يسلم من ويلاته حتى الحيوان.
تشتغل شخصيات العرض رغم تباينها الفكري وتعارض اختياراتها بين الماضي والحاضر، حتمية الموت الواحد نتيجة المصنع المسموم. وهو التباين الذي يعطي للعرض قوته وإيقاعه، مع تبادل الأدوار بين الفينة والأخرى من أجل إعادة الهدوء أو محاولة إحقاق التوازن، كما نرى في نموذج يحيى الذي حاول في نصح نضال بالهدوء والصبر والتحلي بالحكمة، خصوصا وهو يراه على وشك إشعال المولوتوف سخطا على استسلام أحبابه للموت بعد المعاناة مع العلاج الكيميائي.
رغم اعتماد الفرجة على بساطة القصة ومآسي الإنسان الواقعية، فقد نجحت في تكثيف الرموز وتسخير عدة سيميائية كاملة للتعبير عن الضياع والتيه والفقدان والاغتراب، كالشمس الغائبة، وإشارة الهوائي المفقودة، والخصوبة المؤجلة، ونباح الكلبة لايكا، وغيرها. كما أن الخيارات التقنية التي تمتح من اللغة السينمائية وتوظف تقنية المابينغ (mapping) نجحت بدورها في اختزال الجمال الزائف للحياة، والطبيعة المختنقة للمدينة، والحضارة الإنسانية التي تقف على ناصية السقوط الأخير في بئر “كولا” السحيق، فلا شيء من قطع الديكور حقيقي ويسمح بعيش حياة حقيقية سوى أريكة صفراء، المتنفس الوحيد للراحة، لكنها شاحبة ولا تسع الجميع، تماما كالمدينة المختنقة، والتي لا يكفي “أوكسيجينها” صدور الجميع.
ختاما يمكن القول إن مسرحية البخارة نجحت بشكل مبهر في مسرحة قضية بيئية، وفي لفت الانتباه لعواقب التوسع الصناعي وويلاته، لكنها لم تقدم معالجة سطحية ومباشرة للموضوع، بل سخرت مختلف وسائل الصناعة المسرحية، من كتابة وإخراج وسينوغرافيا وأداء وتقنيات، في تفكيك بنية العيوب الإنسانية وتسليط الضوء على الجوانب المسمومة في سرد حضارتنا المشترك، والذي يتجاوز اختناق البيئة طبيعيا، إلى تعرية العلاقات الإنسانية المسمومة، والتواصل الجماعي المعطل، والأحلام المختنقة. البخارة ليست مجرد مسرحية رثاء وبكاء على الموت، بل هي دعوة صريحة لإعادة ربط الاتصال مع الذات أولا، ثم مع الآخرين والمحيط، وذلك عبر كابوس، نستيقظ منه مستمتعين وخائفين في ذات الآن، عاجزين عن الحركة، ونحن لا ندري أنثقل جيوبنا بالحجارة، كما فعلت فيرجينيا وولف، ونلقي أنفسنا في كومة الدخان المسموم؟ أم نصرخ بصوت واحد: فلتصمت المحركات وليتحدث الإنسان!