في مغامرة، لا تخلو من مجازفة، ترجم المخرج والمدرب والباحث الدكتور فاضل الجاف مسرحية “روميو وجوليت”، التي أعدها الكاتب السويدي توماس ميلغرين عن نص وليم شكسبير، إلى اللغة الكردية، وقام بإخراجها لفرقة آرارات المسرحية مع عدد من اساتذة معهد الفنون الجميلة وطلبتها في السليمانية، وقدّمها على مسرح قاعة الثقافة في المدينة، بتمويل من مؤسسة “كريم عله كه” الثقافية الخيرية في أربيل، وتواصل عرضها أحد عشر يومًا، وكان يمكن أن يستمر شهرًا، بحضور جمهور مسرحي مثالي ومنضبط في تلقيه، بحيث أنني لم أسمع، خلال مشاهدتي للعرض في يومه العاشر، نأمةً أو همسةً منه طوال المدة التي استغرقها (ساعة وأربعين دقيقةً). وبطبيعة الحال كثّف الإعداد النصَّ الأصلي لشكسبير وقلل من عدد شخصياته دون أن يخلّ بأحداثه أو ثيمته، بل أكثر من ذلك حافظ على التقاليد المعروفة في المسرح الشكسبيري.
المتن الحكائي
لا شك في أن المتن الحكائي لـ”روميو وجوليت” معروف لدى جميع المعنيين بالمسرح في العالم، ولم يتوقف إنتاج الأعمال الفنية، المأخوذة عن المسرحية أو المقتبسة عنها أو المتأثرة بها، طوال أربعة قرون، بأنواع فنية (عروض مسرحية وراقصة وغنائية وفنون تشكيلية وسينمائية) على وفق منظورات مختلفة وأساليب كلاسيكية وحداثية وتجريبية حسب رؤى منتجيها ومخرجيها، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على نجاح المسرحية يثبت أن الطبيعة البشرية لم تتغير مهما تغير العالم، فلا تزال الرومانسية تؤثر فيها، والنزاعات والعداوات بين فئات مختلفة من الناس قائمة في كل مكان. ويقال إن عدد الأفلام الروائية المأخوذة عنها تجاوز المائة فيلمًا، وعدد الأوبرات أربعة وعشرين أوبرا، وأكثر من عشرة عروض للباليه، كان أشهرها الباليه الذي ألّفه الموسيقار الروسي بروكوفييف. أما أشهر سيمفونية عن المسرحية، فقد ألفها الموسيقار تشايكوفسكي. وقد وظّف المخرج فاضل الجاف ببراعة العديد من مقاطع هذين العملين، إضافةً إلى مقاطع من سيمفونيات موزارت وشوستاكوفيتش في مشاهد الرقص والمبارزة والموسيقى التصويرية.
تدور أحداث المسرحية في القرن الرابع أو الخامس عشر في مدينة “فيرونا” الإيطالية، التي كانت تعاني من نزاع محتدم بين اثنتين من أشهر عوائلها هما “مونتاغيو” و”كابيوليت”، وتجرأ شاب مراهق من عائلة “مونتاغيو” في السادسة عشرة من العمر اسمه “روميو” (أدّى دوره روند أحمد) فدخل خلسةً، رفقة صديقه “بينفوليو”، وهما يرتديان قناعين، حفلةً أقامتها عائلة “كابيوليت” المعادية لعائلته، لينقّل عينيه بين الجميلات، ويختار واحدةً تنسيه حبه لـ”روزالين”، فتقع عيناه صدفةً على “جوليت” (أدّت دورها تيشو نامق) ابنة اللورد “كابيوليت” ذات الثلاثة عشر ربيعًا، التي تخطط عائلتها لتزويجها بـالكونت “باريس” (أدّى دوره شانيار حمه هوشمن) من عائلة حاكم المدينة، ويتبادل الاثنان النظرات، ثم التحية والكلام. وخلال ثوان قليلة يفقد الاثنان الشعور بوجود الآخرين، ويصبحا في عالم خاص بهما، ويدركان أن ما يجمعهما هو الحب العميق والمصير الواحد. لكن “تيبولت” (أدّى دوره شفان خضر)، ابن عم “جوليت”، يكتشف وجود ابن العائلة المعادية “روميو” في الحفلة، فيريد قتله، إلا أن اللورد “كابيوليت” والد “جوليت” (أدّى دوره كمال علي) يمنعه لئلا تحدث معركة في منزله وأمام الحضور المكون من كبار القوم. ويلتقي العاشقان المراهقان عند شباك القصر ويقرران الزواج، وينجحان في عقد قرانهما سرًا في اليوم التالي على يد القس “لورنزو” (أدّى دوره هونر حسن). وتحدث معركة بالسيوف بين صديق “روميو” العزيز “مركشيو” (أدّى دوره محمد هوشيار) و”تيبولت”. وعندما يحاول “روميو” منع صديقه من القتال يستغل “تيبولت” الفرصة ويطعن “مركشيو” طعنة قاتلة ليخرّ صريعًا بين يدي “روميو”. ولم يصدق “روميو” ما حدث، فيتحدى “تيبولت” ويقتله بعد مبارزة حامية الوطيس. ونتيجةً لذلك يصدر حاكم المدينة، أو الوالي (أدّى دوره كولي حسن) أمرًا بنفي “روميو” إلى خارج المدينة. لكن القس “لورنزو” يقترح خطةً معقدةً على “جوليت” لتلحق بحبيبها، وهي أن تتناول مخدرًا يجعلها مغشيًّا عليها مما يعطي الانطباع بأنها ميتة لفترة محددة، كي يُلغى زفافها من الكونت، لكن الخطة تفشل حين يتعذر إيصال رسالة من القس إلى “روميو”، ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يخبر الخادم “بالثازار” “روميو” بأن “جوليت” ماتت، فيقسم بأن يلقى جسده ميتًا إلى جانبها، وحين يذهب الكونت إلى ضريح “جوليت” ليرثي جسدها المسجّى، يواجه “روميو” هناك ويتعاركان، فيقتله “روميو”، ثم يشرب السمّ ليموت إلى جانب جوليت. بعدها يصل القس “لورانس” فيجد “روميو” ميتًا و”جوليت” تستفيق من غيبوبتها، وعندما تجد “روميو” منتحرًا إلى جانبها تستل خنجره من حزامه وتطعن نفسها طعنةً قاتلةً لتصل المسرحية إلى أقصى درجات التراجيديا. بعد ذلك يأتي الجميع إلى القبر ليشاهدوا الفاجعة التي حصلت، ويخبرهم القس بالقصة كلها، فتتصالح العائلتان المتخاصمتان ويقرران بناء تمثالين كبيرين لروميو وجوليت من الذهب ليخلّداهما في المدينة، وليتذكرا أنهما، أي العائلتان، هما سبب موت الحبيبين، وهما اللذان أصلحا النزاع بين العائلتين، في حين لم يستطع القانون أن يصلح بينهما.
الإسقاط
يمكن إسقاط هذا النزاع اليوم، تأويلًا، على النزاعات القائمة بين أطراف سياسية ومجتمعية عديدة (أحزاب وقبائل وجماعات إثنية ودينية وفئوية)، وتميل قراءتي النقدية، من منظور ثقافي، إلى أن اختيار فاضل الجاف لنص شكسبير يضمر هذا الإسقاط، لأن المجتمع الكردي، شأنه شأن أي مجتمع آحر، يموج بنزاعات وخصومات بين أطراف عديدة، ومن ثم فإن العرض يبث رسالةً تدعو إلى نبذها، وإحلال المحبة والوئام بدلًا منها. وقد توّج التمثال الذي جمع بين روميو وجوليت في مشهد حي، أعلى السايك الخلفي لخشبة المسرح، والذي يغمره اللون الأزرق هذه الرسالة، وذكّرنا بمشهد “روز” و”جاك” في جؤجؤ (مقدمة) سفينة “تايتانيك”، في الفيلم الروائي الذي يحمل اسمها، على أنغام أغنية سيلون ديون من الناحية الإيحائية، وليس من ناحية الشكل. وكان اللون الأزرق امتدادًا لجميع مشاهد الحب التي يلتقي فيها روميو جوليت، حيث يغمر السايك كعلامة رمزية توحي إلى الحب والأفق المفتوح، على النقيض من اللون الأحمر، بدلالته الدموية، الذي كان يغطيه في مشاهد المبارزة والقتل والموت. وقد نجح مصصم الإضاءة شوان محمد سعيد ومنفذها فدار سعيد في إبراز هذه الإيحاءات، على الرغم من افتقار القاعة إلى تقنيات إضاءة مناسبة.
المسرَحَة والميتامسرح
صاغ فاضل الجاف مقاربته الإخراجية لـ”روميو وجوليت” في سياق ما يُعرف بـ”المسرَحة” أو “التمسرح” (Theatricalization/ Theatricality)، وإيضًا في إطار ما يسمى بالـ”الميتامسرح” (Metatheatre)، أو “المسرح الانعكاسي”. وتتمظهر المسرَحة هنا في توكيد المخرج على خصوصية المسرح، وهي مسرَحة معلنة وليست مُضمَرة، إذ يغدو اللعب بنيةً تحتيةً للتمثيل. وتتداخل مع الـ”الميتاثياتر” في جعل العرض ينبه المتلقي إلى آلياته، كما في تجارب “المسرح داخل المسرح” والمسرح الملحمي، بدلاً من أن يخفيها خلف قناع وهمي، ويحيله على نسق اللعبة المسرحية ذاتها، بوصفها لعبة تكسر الإيهام، لا إلى تصور خاص عن طبيعة الواقع الحيوي للمتلقي، أو إلى أية تصورات ميتافيزيقية. وقد أسفر عن هذا الأسلوب مع بداية العرض المسرحي، حيث يعلن الممثلون أنهم سيقومون بتمثيل مأساة الحبيبين “روميو” وجوليت”. كما تتضح المسرَحة في الأداء الجسدي المؤسلب، ومشاهد المبارزة والصراع بين الشخصيات المتنازعة، والحركات الكوريوغرافية (تدريب گوران سركلويي) فهي محكومة بنوع من الملامح الشرطية الإيقاعية التي تنزاح عن الواقع، كما يؤكد عليها مييرهولد في منهجه المسرحي، الذي تخصص فيه فاضل الجاف من خلال أطروحة الدكتوراه التي أنجزها عنه، ونشرها في كتاب بعنوان “فيزياء الجسد: مييرهولد مسرح الحركة والإيقاع”.
السينوغرافيا
يُضاف إلى ذلك سينوغرافيا مقطعية مقتصدة (تصميم شيراز عزيز)، بما فيها الأزياء (تصميم أڤين غريب) الملاءمة لبيئة العرض، وقد جسّدت هذه السينوغرافيا على يمين المسرح الجزء الجانبي لقصر اللورد “كابيوليت” تارةً، حيث تظهر فيه الشرفة التي يتسلقها روميو والشبّاك الذي تطل منه جوليت، والجزء المواجه الذي تجري فيه الحفلة والمشاهد الخاصة بأسرة جوليت تارةً أخرى. وعلى يسار المسرح ثمة مقطع من منزل أو صومعة القس لورنس. وفي جميع المشاهد التي تجري في هذين الفضاءين يحرك الممثلون مكونات الديكور في أداء مسرحي أمام المتلقين، أما وسط المسرح فهو مكرّس للمَشاهد التي تجري في الشارع والمقبرة.
وفي نهاية يجري التوكيد مرةً أخرى على الممارسة “الميتاثياترية” على لسان الممثلين، حينما يتوزعون على الخشبة، قبل التحية، لإبراز الطابع اللعبي الذي ساد العرض، والإيغال في كسر الإيهام.
التمثيل
تميز أغلب الممثلين بالاسترخاء في أداء شخصياتهم وفهم أبعادها في ضوء المنهج الشرطي الذي اعتمده المخرج، فكانت روند أحمد مفعمة بالرقة والرومانسية في أداء شخصية جوليت، وتيشو نامق جريئًا ومندفعًا وراء عاطفته الملتهبة حبًّا، وكمال علي عقلانيًّا صارمًا في الوقت ذاته وهو يؤدي دور اللورد كابيوليت، وهيرو صباح ذات حضور أرستقراطي في حركاتها وإيماءاتها وهي تؤدي دور أم جوليت، وشاناز محمد بعمق أدائها وتنوعه وطرافته وهي تمثّل شخصية المربية، وهونر حسن في أدائه المتزن الحكيم وهو يؤدي دور القس لورنزو. وكذا بقية الممثلين الذين مثّلوا شخصيات معروفةً بالاسم: شفان خضر “تيبالت”، كولي حسن “الوالي”، ژيلوان لقمان “بىفيليو”، محمد هوشيار “مركيشيو”، شانيار حمه هوشمن “باريس”، گوران عثمان “والد روميو”، شانو وآسو “أم روميو”، وأقرانهم الذين أدوا أدوار الكورس وشخصيات ثانوية تنتمي إلى العائلتين: كامو برزان، رافين علي رابيار، سان عبه رش، مريم زياد، ميسم زياد، لارى قزاز، مريم سردار، وناني ئاودير.
لقد تضافرت مواهب هؤلاء الممثلين في تقديم عرض متقن، بقيادة مخرج مقتدر صاحب خبرة معرفية وعملية في الأداء المسرحي، ومخيلة خصبة، ورؤية فكرية وفنية متناغمة مع روح العصر، وديناميات الصراع والتغيير التي تسيّره، ومنفتحة على الواقع إيحائيًّا دون أن تستنسخه. وأعيد القول إن تجربته هذه في إخراج نص شكسبير “روميو وجوليت” مغامرة لم تخلُ من مجازفة مع 22 ممثلًا وممثلة محترفين وواعدين استغرقت التمارين (البروفات) معهم ثلاثة أشهر، وفريق تقني كبير ليس من السهل قيادته في ظروف أقل ما يمكن وصفها أنها عسيرة. لكن كل ذلك لم يفتّ في عضد فاضل الجاف ويضعف تحديه، فقدّم عرضًا مبهرًا جماليًّا ودلاليًّا سيظل علامةً مضيئةً وفارقةً في سجل المسرح الكوردي.
عوّاد علي / ناقد مسرحي عراقي
عن:مجلـة كوردستان بالعربي