المقايضة نقطة انطلاق للاتصال بين الثقافات، ففي اية مقايضة، تلتقي الثقافة المصغرة لاحدى المجموعات أو لفرد ما، بالثقافة المصغرة للمجموعة الاخرى، ويتحقق مثل هذا اللقاء من تبادل العروض.والنتاجات الثقافية، وان تلك النتاجات لا اهمية لها بقدر اهمية عملية التبادل ذاتها. وليست ثمة مشكلة في حجم التبادل في المقايضة وحجمه، اذ ليست ثمة قيمة مثبتة مسبقاً بين الطرفين، وهذا ما يتحقق في مقايصة التبادل الثقافي في العرض المسرحي بوصفه سلعة ثقافية، تخضع لقانون العرض والطلب، إذ نجد بعض العروض اشبه بالماركة المسجلة، التي تحقق لدى الزبون /الجمهور الاحساس والايمان بالاثار الايجابية للمنتوج المسرحي على تواصله وتذوقه للعرض المسرحي، في حين نجد العكس مع بعض العروض المسرحية الرديئة الصنع، التي يأبى الجمهور /المستهلك التفاعل معها او اقتنائها بالتلقي!
هكذا عروض تخضع الى ما يمكن تسميته (متلازمة الايمان أو الرفض بصناعة العرض ومصادر انتاجه) لنأحذ عرض مسرحية (سيرك) للمخرج ((جواد الاسدي)) انموذجاً لفرضيتنا المتمثلة بالسؤال الاتي: هل يمكن النظر الى سيرك ((جوادي الاسدي)) بوصفه سلعة ثقافية عالية الجودة ؟ ام انها تعاني من بعض العيوب التصنيعية التي تتطلب سحب المنتوج المسرحي/العرض المسرحي من سوق التلقي؟ لا يمكن الاسراع باعطاء حكمنا بنجاح التسويق أو عدمه، فالعرض المسرحي (سيرك) حقق جدوى التواصل والتأثير على عدد محدود من الجمهور، وبالتالي لا يمكن عده عينة ممثلة لمجتمع الجمهور الاكبر، بل ممثلا لمجتمع النخبة !ولكن في المقابل، لا يمكن التغافل عن التفاعل الذي حققه سيرك الاسدي، فالعرض اعطى للجمهور منتوجاً متقن الصنع، اكسبه ثقة الجمهور العالية بمخرجات العرض المسرحي الجمالية والفنية والفكرية، مما حدا بالجمهور الى الرضا النفسي والفكري من اقتناء السلعة الثقافية او العرض المسرحي، ويمكن التعرف على الاسباب التي جعلت الجمهور يتفاعل مع المنتوج الثقافي /سيرك بالآتي :
1– تراكم نجاحات لدى صانع العروض المسرحية /جواد الاسدي ، حقق تفاعلاً ايماناً قبلياً بالمنتوج المسرحي الذي يعرضه المخرج للجمهور.
2– الذكاء الاخراجي في استثمار العناصر المادية المكونة للسلعة الثقافية /العرض المسرحي، التي اتقن المخرج ربطها في وحدة جمالية، فلا تعقيد او تسطيح في عملية الانتاج المادي الذي يمثل الاطار الشكلي الجاذب للجمهور .
3– الاختيار السليم والمقنع للعناصر البشرية من ممثلين وتقنيين، الذي انعكس وجودهم على التسويق الناجح، للبضاعة المسرحية، وأوجد لدى الجمهور اطاراً نفسياً متوازناً، فالأداء التمثيلي، وسيط جمالي للتطابق النفسي ما بين المؤدي والمتلقي.
4– التوافق ما بين الحامل والمحمول او المكان الحاوي للبضاعة المسرحية، فالاماكن الضيقة، تجعل من الشراكة /المسافة الجمالية، ما بين التمسرح والتلقي حاضرة ومؤثرة لدى طرفي التبادل الثقافي، العرض المسرحي -الجمهور .
يراد من المسرح صناعة الفرح، مقولة لخصها المسرح الشرقي، بازاء ما تنبعث من وراء جدران المسارح روائح عروض مسرحية، قوامها الكآبة والعنف الحسي والاستلاب اللفظي والتشوية الجسدي؟ واذ نريد مواصفات نوعية للمنتوج المسرحي المعاصر، يلبي حاجات المجتمع المعاصر، ينبغي علينا ان نقف قليلا مع ((فختانكوف)) المخرج الروسي الذي قصرت حياته وطالت ابداعاته، قد اعطانا وصفة عميقة الاثر في العرض المسرحي، ينبغي ان تكون مسارا نحو صناعته جماليا وفكريا لدى المتلقي !
يقول ((فختانكوف)) “المسرح ليس واقعياً كواقع الحياة وليس صادقاً كالصدق في الحياة، وانما له واقعه الخاص وصدقه الخاص “فالمحاكاة لا تنقل بقصد الاستنساخ، بل تقترب من الطاقة المحركة للشيء، تقترب منه ولا تعيد صورته !
فلو اخذت عرضاً يتناول كلباً في سيرك، وتحول لدى جمهور السيرك علامة امتاعية معروفة، هل نتعامل معها -حين ننقلها الى العرض المسرحي -من دون تغيير أو اضافة ؟ هل الاضافة على وجوده البايلوجي -مجتمع الكلاب -يجعله رمزا متحركاً بالرؤية نحو افق ٍ مرناً للدلالة، وليس دلالة مباشرة للكلب الذي يأكل وينبح وينام؟
هكذا ظهر الكلب (ريمون) في سيرك الاسدي، رمزاً لكل المضطهدين في العالم، وسط بيئة من الاجواء الكابوسية التي تصنعها السلطة الباطشة التي ظهرت بدلالة (الضابط) الذي سمعنا عن افعاله العدوانية وبطشه المجنون بضحاياه. فالمخرج من مهامه الاولى في المسرح المعاصر، ارباك اعدادات التاريخ وشخصياته، بغية ضمانية الوصول الىً التفاعل أو اقتناء العرض بالتلقي السليم والمعافى، لان الاخراج المسرحي برؤيته الجديدة المعالجة لمدونة النص، يرى التاريخ وكأنه يحدث في الهنا والان وليس وقائع حدثت ولن تعود !
يمتاز الفعل الاخراجي لدى ((جواد الاسدي)) باللمغايرة وكسر افق توقعات المتلقي، بمقاربات اخراجية تمزج شعرية الصورة بتعبيرية الاداء ذات الابعاد النفسية الموغلة في الطبقات النفسية المعقدة التكوين، لكنها تظهر بمهارة صانع فني عميق الرؤية، يستدعي اللوحة والموسيقى والتكوين الصوري على نحو يتفاعل معه الجمهور، وما اليوم الذي شاهدنا فيه سيرك ((الاسدي )) الجمالي، حتى قطعك عن رتابة لحظاتك اليومية، لتدخل في طقسية الاتقان السمعي والبصري والحركي، في ذكاء وفطنة وحساب دقيق لمفاصل العرض. سيرك مدهش احاط بنا، الاداء التمثيلي ودقة نظامه، جماليات التشكيل البصري، ما بين الجدران الآيلة للسقوط، وتلك الاشجار المعمرة التي تأبى الموت، في جو خريفي تنافس المتنافسون على جودة الفعل التمثيلي ((شذى سالم واحمد شرجي وعلاء قحطان )) معبرين بالصوت والجسد عن مضامين النص التي تراوحت ما بين الشاعرية والتضمين الادبي -المسرحي، جمل قاسية تنبعث منها رائحة العنف، تمكن الممثلون من استشعارها في قوة الصوت وطبقاته فضلا عن الصمت المحموم بالصراخ المكبوت. انهم ضحايا الذاكرة المتخمة بالموت والدمار والاستلاب، شاركهم الجمهور تلك الذاكرة القاسية، كانوا صامتين منتبهين لهول الفاجعة، ينتابهم فرح جمالي وهم يشاهدون هذا الاداء المتقن الصنع والجاذبية اللغوية التي حققها النص. ولا نقلل من شأن المجموعة التي عملت بوعي واعطت للعرض بعداً ايقاعياً جاذباً للمتلقي .
فان عرض (سيرك ) تطبيق عملي للفرح الجمالي، الذي يعيد التناغم النفسي والفكري والجمالي المفقود في عالمنا الرتيب ذي البعد الواحد ،
ثمة اشارات ينبغي الانتباه لها ، يراد معالجتها او التخفيف منها :
1-هيمنة زمن الماضي جعل اللغة واصفة للانفعال وليست صانعة له في الهنا والان .
2– تفاجئت من صوت الكلب، الذي جعل المشهدية تفسيرية، ناقضت مسارات العرض المدهشة التي مزجت التخييل بالرمزي فضلا عن الصورة المشهدية ذات التشكيل الانيق .
3-البناء الزمني للاحداث ليس افقياً تقليديا، وليس عموديا معاصراً ، بل تقافز بينهما من دون رابط سببي لوجوده، مثل حضور المرأة القادمة من عروض الكابوكي، ظهرت وتكلمت ولم اجد علاقة سببية او فنية لوجودها، فلا هي كميلة، ولا هي ممثلة في سيرك !
ان عرض سيرك، اوجد مقايضة ثقافية ما بين عناصر تكوينه البصرية والسمعية والحركية، وما بين إصغاء واشارات التفاعل الناجحة لدى الجمهور. مقايضة لا تقوم على الكم المادي في تبادله المسرحي، بل اقترنت مقايضته في الايمان بجدوى المسرح على خلق عوالم أكثر امتاعا وجدوى واقتناء ذهني لمقارباته الفكرية والجمالية.
جواد الاسدي وفريقه اللامع ، شكرا لكم لانكم صنعتم عالماً جميلا نحن بحاجة أ .
فالمسرح يا اصدقائي مغامرة تصنع سعادتنا ، بعد دخولنا عوالمه الشائكة بالاسئلة التي تنتظر الاجابة .