(مقاربة نقدية متعددة التخصصات في نظرية المسرح الفقير لغروتوفكسي..).
يقول غروتوفسكي: “إن المسارح لا تتشابه في أشكالها ولكن في مبادئها “. (1).
في هذه المقالة نطرح مقولة غروتفسكي أعلاه تحت المجهر لتحليلها من زوايا علم الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم السيسيولوجيا. وننتهي أخيرا بتقديم تفسيرها وفق ما تعنيه مسرحيا..
للإنسان ثلاث شهوات أو احتياجات أساسية فطر عليها الأولى غريزة العقل والحاجة للتعلم والمعرفة وهي حاجة دائمة لكنها ليست مُلحّة، وبسببها يحب الإنسان من يعلمه ويشبع جوعه للمعرفة والعلم، وفي السابق كان الناس يحبون معلمهم في المدرسة والجامعة وفي عصر التكنولوجيا صار الناس يحبون جوجل أو تطبيقات التواصل الاجتماعي لإنها تشبع جوعهم للمعرفة.. وقد قيل عن هذه الحاجة “من علمني حرفا صرت له عبدا” ..
الغريزة الثانية غريزة الجوع ( البطن والحاجة للطعام) وهي حاجة دائمة والإنسان عندما يجوع يحب من يطعمه ويشبعه ولا يعنيه جنسية ذلك الطباخ وبقدر ما يحصل الإنسان على طعامه بقدر ما يتعاظم الحب في قلبه والا فكيف يحب الإنسان وظيفته ويحب مرؤوسيه عندما يكرموه ويكافئوه ويتبعهم حتى لو كانت مبادئه تخالف مبادئهم، وأفكاره مغايرة لأفكارهم.
والغريزة الثالثة هي غريزة الجنس وهي حاجة مؤقتة فمن يسكت جوع المرأة للجنس فإنها تعشقه وتحبه وعندما يقل الجنس ستبحث عن غيره والرجل يعشق المرأة التي تشبع غريزته وعندما يجد صعوبة في ذلك يأتي بالثانية والثالثة والرابعة سواء كان على الطريقة السائدة أو غير ذلك..
وهكذا فالإنسان يحب من يشبع جوعه سواء للمعرفة أو الطعام أو الجنس؛ ومن يلبي تلك الاحتياجات يصبح له الإنسان ممتثلا لأوامره، وكل فعل يقوم به الإنسان في حياته يقوم به استجابة لأحد تلك الاحتياجات الثلاث.. وكل شيء في الحياة وكل ما يحدث في عالم البشر مرتبط بهذه الاحتياجات الثلاث وكل ما يفعله الإنسان، بوعي أو بدون وعي، ليس سوى استجابة غريزية لنداءاتها.. وكل ما نشأ من أعراف وقوانين وتشريعات في المجتمعات بل وكل ما تم تأليفه من مؤلفات ليس سوى لتنظيم حصول البشر على هذه الاحتياجات وتعبير عنها وما يرتبط بها ..
وللتوضيح نسوق نظرية عالم النفس جوستاف كارل يونغ: الغرائز والأنماط البدئية، حيث اكتشف يونغ أن الأوهام التي تنتاب المجانين تبدو على أنها تستمد زخمها من مخزون جمعي وفي عام 1919 استخدم يونغ مصطلح (الأنماط البدئية) أو النماذج العليا مشيرا إلى هذه الذاكرة، كما افترض وجود عقل لا واعٍ جمعي بالإضافة إلى اللاوعي الفردي، حيث يتكون هذا الأول من شقين هما الغرائز والأنماط البدئية، وتعتبر الغرائز بمثابة الدوافع التي تنفذ حركتنا كما تحمل صبغة بيولوجية شبيهه بغريزة كما اوضحت في بداية المقال. وكذلك الغرائز هي التي تحدد أفعالنا. إلا أن هناك طرائق للفهم سليقية ولا واعية وتسمى هذه الأنماط البدئية وهي أشكال فطرية من (الحدس) وتمثل محددات مهمة في جميع العمليات النفسية. فكما أن الغرائز تحدد أفعالنا كذلك فإن الأنماط البدئية تحدد طرائق فهمنا وتنقسم الغرائز والأنماط البدئية بصفة جمعية لأنهما معنيتان بالمكونات العالمية المتورثة والتي تمتد إلى ما وراء كل شخصي أو فردي النزعة كما أنهما متلازمتان ولا عمل لأحدهما بمعزل عن الآخر.. (2).
وقد ميّز يونغ بين الأنماط الأولى بذاتها والصورة الذهنية، فلا يمكن معرفة الأنماط البدئية إلا باستنتاج، حيث إنه ليس واعٍ بطبيعته، بينما نجد أن الصور الذهنية الأولية تقحم نفسها في الوعي، كما أنها هي الطريقة التي ندرك من خلالها الأنماط البدئية ونفسرها لأنفسنا. ولذلك فإن الأنماط البدئية أو طرائق إدراكنا قد تنكشف أو تنحجب من خلال الصور الذهنية (3).
وفي هذا تفسير لما جاء في مقولة غروتفسكي أعلاه من أن المسارح تتشابه في مبادئها، حيث أن تلك المبادئ تمثل نماذج عليا (أنماط بدئية) ولاوعي جمعي متوارث، ونستمر في تحليلنا أيضا بتوضيحات أكثر، وعطفا على مقولة غروتفسكي ذاتها، نسوق قولا للدكتور سامح مهران: “الممثل مع الدور الذى يؤديه هو فى عملية تكافل وتكامل؛ فمن بينهما تتعدد المناهج والمدارس” (4).
بما أن الحياة مسرح كبير فمواقفها قد تحددت وتلك المواقف خلقت قاموسا من الأمثال الشعبية والحكم التي تتشابه لدى كل الأمم والشعوب باختلاف الشكل التعبيري الذي تحدده الثقافة السائدة لدى كل شعب أما المضامين فواحدة فمثلا يقول العرب ” لا يفل الحديد الا الحديد” ويقول الانجليز الماس يقطع الماس “Diamond cut Diamond” ويقول المثل الشعبي “ما تكسر الحجر إلا أختها”. وفي سياق آخر يقول المثل الفرنسي “لا تضع البيض كله في سلة واحدة” ويقول المثل الروسي “لا تعلق كل شيء بمسمار واحد”. والفرنسيين رمزهم الديك لذلك نجد تعبيرات أمثالهم حول الدواجن وما يتبعها ومن ذلك تأكيدا قولهم “كان ديكان يعيشان في سلام حتى ظهرت دجاجة”. والروس رمزهم في وقتما كان المطرقة فنجد تعبيرات أمثالهم تطوف حول أدوات لها علاقة بالمطرقة كالمسامير وما إليه وهو الأمر ذاته في التعبيرات السابقة. (5)
وقد سمى عالم النفس جوستاف كارل يونغ تلك الأنماط البدئية من كل شيء والتي استمرت في الانتقال من جيل إلى جيل عبر سلاسل النقل وهي الشعر والمسرح وكافة أشكال الثقافة التعبيرية بكل أنواعها بالأنماط البدئية أو النماذج العليا التي هي مخزنة لدى كل أمة في موروثاتها عموما وعليه يمكن القول كما قال زهير بن أبي سلمى:
“ما أرانا نقول الا معارا أو معادا من قولنا مكرورا” والشاعر في هذا البيت لكأني به يهمس في أذن عالم الأنثروبولوجيا كلود لفي شتراوس قبل مئات السنين بملخص نظرية القرابة ومن قبله يونغ في نظرية النماذج العليا أو الأنماط البدئية. والمعنى أننا نريد وفقا لما جاء في قول الدكتور مهران ان يكون لدينا الشيء ذاته أي قاموسا يحفظ لنا منهجية التمثيل ومذهبه الذي يختزنه أداء ممثل ما في عرض ما بشرط الإتفاق على الإجادة والإبداع فيه وتمثل كل هذه المحتويات نماذجا عليا وأنماطا ثابتة يسير عليها الممثلون تماما كما هو في الأمثال والحكم والمبادئ كما سبق ان ذكرت لكن ما يمنع ان نستخدم كل مثل في كل موقف او بالأصح في الموقف ونقيضه هو كما يقول د.حليم بركات أن ما يصدق على مناسبة ما، لا ينبغي أن يصدق على مناسبة أخرى، فالقول مثلا: “أهلك وان رموك إلى المهلك” يصدق على مناسبة لنجد أننا في مناسبة أخرى نقول “الأقارب عقارب”. وهكذا فقد ابتكروا لكل موقف كلاما قد يقول الرجل نقيضه في موقف آخر فيبدو أنه متناقض مع نفسه، لكن هو سحر البيان لدى كل الشعوب. وهذا ذاته ما ينطبق على المسرح أيضا فإذا كان الشكل المسرحي تحدده الثقافة السائدة لشعب ما ويختلف به عن الشكل المسرحي لدى شعب آخر فإن الثابت هو المضمون الذي تقابله القيمة بجميع اتجاهاتها وإذا كنا نبحث عن السهل والممكن في عملية الحصر والتحديد وتأليف القاموس الخاص بالمدارس والمناهج المسرحية المستلهمة من تلك الأعمال الفنية الخالدة والعظيمة فلنحددها من خلال تلك القيم فالمسارح لا تتشابه في أشكالها ولكن في مبادئها وقيمها على حد تعبير غروتوفسكي. وعلى سبيل المثال نجد أن الأداء المسرحي في أعمال شكسبير التي تحمل قيما بمختلف اتجاهاتها واشتهرت بها قد أنبثقت عنها مدارس ومذاهب مسرحية وكذلك الأمر مع معظم الأعمال المسرحية الخالدة لأعظم الكتاب والمخرجين في العالم والتي لا يزال العالم يستأنس بها في كل عمل مسرحي لولا أن ارتباط تلك المدارس والمناهج كان بالقيمة أولا وليس بالشكل …
وإذا أتفقنا على وجود وحدة سيكولوجية للنفس البشرية فإن التشابه بين كل الحضارات القديمة قبل وجود وسائل للتواصل فيما بينها واقصد تشابها في المضامين والمحتويات الثقافية وهو ما يثبت النسبية والتنوع الثقافي ويلغي المركزية الثقافية الغربية الرأسمالية التي اصطلح على تسميتها بالعولمة وهو ما يمكن الاستدلال عليه من نظرية القرابة لكلود ليفي شتراوس وكذلك نظرية يونغ الأنماط أو الطرز الأولية وكذلك ما ذهب إليه في تعريفه للنفس البشرية حيث يقول أن “الذات (النفس) هو مفهوم الوحدة الشخصية ككل. ويرمز لها بالدائرة والمربع والرباعية والمندالا. ويقول يونغ (أن النفس كم يعلو على (الأنية) الواعية وهي لا تشتمل الواعية وحسب، وإنما على النفس غير الواعية أيضاً ولذلك هي ما نحن، إن جاز لنا التعبير والأمل ضئيل حتى في الوصول إلى درجة قريبة من النفس الواعية، لأننا مهما بلغ بنا الوعي يظل ثمة مقدار غير محدد، وغير قابل للتحديد، من المادة غير الشعورية التي لها صلة بكلية النفس) والذات ليست فقط هي المركز ولكنها أيضا المحيط الكامل الذي يطوق كلاً من الوعي واللاوعي. إنها مركز هذه الكلية، مثلما الأنا مركز العقل الواعي”.(6)
وفكرة الدائرة رمز النفس الكلية التي يعبر بها يونغ
نجدها في تقليد ياباني قديم يسمى بقصيدة “الجيزيي” أو قصيدة الموت لكهنة الزن اليابانية، فعندما يشعر الكاهن بدنو الأجل يرسم دائرة والدائرة ترمز إلى الكشف والبلوغ للحقيقة الأسمى التي تمثل قاسما مشتركا أعلى بين جميع الكائنات وهي حقيقة الموت ثم يكتب قصيدته الأخيرة والتي يعد عيبا أن يصرح فيها الكاهن بالموت صراحة فيستعير له بتساقط أوراق الكرز أو بمشهد غروب الشمس أو بالخريف وأوراقه الصفراء فيكون لون أوراق الأشجار الصفراء دلالة على البلوغ للحقيقة العظمى وهي حقيقة الموت (7)
ولدى بعض الفلاسفة فإن النفس الكلية هي نصفين نصف موجود في الأفلاك و الكواكب و نصف يرتبط بالأرض..
وفي رواية باولو كويلو الخيميائي فإن النفس الكلية و التي هي ذات جذور صوفية أو نرفانيات و فلسفات شرقية تعني تلك الروح المهيمنة التي تتحكم في كل شيء و كل شيء له معنى “مرتبط” و في معتقدات الإسكيمو فإن هناك شيء يسمى “innua” أي الروح المهيمنة على كل شيء و الموجودة في كل شيء و يقولون أنه حتى الحجارة لها إنواها و قوتها الروحية المهيمنة الخاصة بها..
وفي فيلم ” رجم ثريا” الإيراني الذي يتحدث عن تهمة ألصقت بامرأة زورا و قبل تنفيذ فتوى الرجم عليها يدعو المفتي الله إن كان هناك ظلم في الأمر أن يظهر له آية لانقاذ المرأة و تتجسد النفس الكلية في تلك اللحظة التي يحضرون فيها ثريا لتنفيذ حكم الرجم عليها إذ تأتي فرقة تهريج و أهازيج جوالة لا أحد يعرف عنها شيئا و تريد أن تفسد تنفيذ الحكم و لكن المفتي لا ينتبه أنها إشارة كان قد دعا الله أن يرشده بها فيتوقف الجميع و ينشغلون بالاهازيج لكنهم يعودون ليلتقطوا الحجارة و يرمون بها ثريا حتى الموت..
والأفلام السينمائية منذ عام 2009 تتحدث عن الكامرا الكونية التي تستطيع أن تكشف كل شيء يحدث على كوكب الأرض و كل حديث يحكى تستطيع أن تسجله و تكشفه و يسمونها أحيانا “عين الله” و هي تجسيد لفلسفة النفس الكلية مثال على ذلك “فيلم ديجافو 2009. لدينزل واشنطن” و فيلم ” الغضب المميت 2016 لفان ديزل ” وفيلم أليتا ..
هل يمكن الإيمان بحقيقة وجود النفس الكلية و هل يمكن تفسير كل ما يحدث معنا تحت تفسير مصطلح “مرتبط”؟
ويلخص المعلم الكبير بابا “موكتاننداBaba muktannda” نظرية التنوع النسبي بين الثقافات واحترام التعددية لكلود ليفي شتراوس ونظرية الطرز الأوليةأو الأنماط البدئية ليونغ بقوله: «كثيرٌ موجودٌ في واحد.. وواحدٌ موجود في كثير.. فكثيرٌ من الأواني تُصنع من طين واحد.. ومن مختلف النيران يسطع النور….» (8)
المسرح الفقير.. هل يفتقر إلى القيمة؟
بالعودة إلى قول غروتوفسكي صاحب نظرية المسرح الفقير: “إن المسارح لا تتشابه في أشكالها ولكن في مبادئها “، نجد أنه ورغم أن هذه المقولة فيها اتساع كبير في المعنى من حيث يمكن قراءتها وفق منهجية علم الأنثروبولوجيا أو علم السيسيولوجيا أو علم النفس أيضا، كما فعلنا أعلاه، لولا أن اخضاعها وفق سياقات صناعة المسرح ونظرية المسرح الفقير لغروتوفسكي سيخبرنا بلا شك أن المقولة تؤكد ما أراده غروتوفسكي من نظرية المسرح الفقير، حيث أن فكرة المسرح الفقير هي عملية تخفيف تكاليف الإنتاج على حساب تغذية موارد أخرى في العرض المسرحي، فالمبادئ والقيم وموهبة الممثل هما شرط نظرية المسرح الفقير، من حيث أن الشكل في المسرح يمكن أن يتجلى جماله وابداعه فيما يروج له المسرح من قيم ومبادئ وأيضا في إبداع الممثل في فضاء العرض المسرحي، أما السينوغرافيا وما يتبعها من جملة مكونات العروض المسرحية فهي تبدو مكلفة ومعيقة جدا لوجود حركة مسرحية في معظم بلدان العالم، وهنا بعد اقتصادي يتجلى بوضوح في نظرية المسرح الفقير، يراعي الحالة المادية للمسرح وكذلك المجتمع فعندما تنخفض تكاليف الإنتاج للعروض المسرحية دون اغفال للمبادئ أو مواهب الممثلين ستنخفض أيضا أسعار تذاكر العروض المسرحية وفي نفس الوقت ستنتج الفرق المسرحية الكثير جدا من العروض ما يؤدي إلى ازدهار كبير للحركة المسرحية والذي بدوره سيزيد من الوعي المجتمعي ويزيد من تهذيبه خصوصا والقيمة الاخلاقية والمبادئ حاضرة في تفاصيل العروض المسرحية كما يشترط غروتوفسكي في نظرية المسرح الفقير..
وكما تقول لنا الخبرة الإنسانية المتراكمة في عالم الاقتصاد والتسويق فإن زيادة العرض تنتج زيادة الطلب، وعندما يزيد إنتاج العروض المسرحية سيزيد الطلب عليها، والجماهير لها طبيعة الوحش، من حيث القابلية للترويض والتكييف والاعتياد، وبقدر ما أصبح الإبتعاد عن المسرح بسبب قلة العروض المسرحية الناتج عن التكاليف الباهضة لمكونات العرض المسرحي واقعا بقدر ما يمكن من خلال نظرية المسرح الفقير جعل الاقتراب والطلب على المسرح واقعا أيضا عن طريق إنتاج الكثير من العروض المسرحية التي لا تتطلب تكاليف إنتاج باهضة. والمعنى الإجمالي من نظرية المسرح الفقير يمكن تلخيصه في هذه العبارة: “إذا حضرت القيمة وموهبة الممثل حضر المسرح”.
ويمكن القول هنا إن الصراع الحاضر آنيا في واقع المسرح العربي يدور بين قوى الرأسمالية البنيوية والقوى الاشتراكية المنتصرة للفقراء وللذات الإنسانية فتيار الرأسمالية ينتصر للشكل والمظهر وتيار الاشتراكية ينتصر للقيمة والمعنى والجدوى والقضية، وهو ذاته ما أراد غروتوفسكي التعبير والافصاح عنه بنظرية المسرح الفقير الذي كان يدرك جيدا أن الرأسمالية ستقضي على المسرح ذات يوم حين تذهب للاهتمام بالشكل والمظهر في العروض المسرحية وعلى حسابهما ستقتل القيمة والموهبة الفنية وتقتل القضية الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية وقد أراد الدفاع عن نظريته بالقول الذي سطرنا به هذا المقال “إن المسارح لا تتشابه في أشكالها ولكن في مبادئها ” فكما لو أنه كان يعرف جيدا ما ستصير إليه الأحوال في أصقاع العالم عندما تتسيد القوى الرأسمالية والبنيوية عليه فمعظم المجتمعات ستتحول إلى عاجزة فقيرة ولن يختلف حال الفنان المسرحي عن حال مجتمعه لكن لأن الرأسمالية البنيوية ستفرض عليه تكاليف باهضة تجاه الاهتمام بالشكل والمظهر فإنه سيستقيل حينها عن المسرح لعجزه عن تلبية تلك المتطلبات، لولا أن نظرية المسرح الفقير قد تكون بديلا حيويا وملاذا آمنا لأهل المسرح فبها يمكن أن يحافظ المجتمع على قيمه وينتصر من خلالها لقضاياه ويحافظ الفنان على موهبته ومعاني المسرح وقيمه وجدواه…
أود الإشارة أيضا إلى أن نظرية المسرح الفقير مرنة جدا بحيث تشترط وجود عنصران رئيسيان ليكون هناك مسرح وهما الموهبة الفنية والقيمة الاخلاقية والإنسانية والاجتماعية وهي من المرونة بما يكفي ليضاف إلى وجود ذانك العنصران اي شكليات أخرى ان كان بالمقدور توفيرها والا فبهما يمكن أن يكون هناك مسرح ويمكن أن يكون هناك حراك مسرحي..
كما ينبغي الإشارة إلى نماذج جليلة في المنطقة العربية تمثل ذات السياق من نظرية المسرح الفقير مثل مسرح بلا إنتاج الذي يتبنى حضوره الفنان جمال ياقوت، وغير ذلك من التوجهات التي ترفع لها القبعة لإنها تمثل المقاومة الفنية ضد تيارات البنيوية الرأسمالية التي تريد انهاك المسارح والنيل منها بافراغها من مبادئها وقيمها ومعانيها..
وأما تيار الرأسمالية البنيوية الذي ينتصر للشكل فهو يشبه قول شكسبير: “من يتخذ أجمل المظاهر ينوي أكبر خديعة “.. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يمتلك المسرح العربي نقادا لحماية المبادئ والقيمة بكل اتجاهاتها في مسرحنا العربي؟
خاتمة:
يظل بقاء كل شيء مرهونٌ بجوهرهِ، أما الشكل فلا يجب الاختلاف عليه أو الفزع من تغييره، لإن لكل عصر معطيات ثقافية وأدوات جديدة ينبغي مواكبتها والتكيف معها، أي أن الجوهر هو شرط بقاء وجود المباني و القوالب والأنماط الفنية والثقافية على مر الدهور بدون اشتراط أي شكليات محددة لها، وخاصية التكيف وقابلية التأقلم تمثل استعدادا فطريا مسبقا لدى الإنسان يمنحه القدرة على تقبّل المعطيات الثقافية الجديدة والمظاهر العصرية الحداثوية والسعي إلى ابتكارها بدون تعصب أو تصلب، وأما الجوهر فيمكن التمثيل له بالقيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية التي يقابلها في الأعراف الأنثروبولوجية ما نسميه “المعنى أو الجدوى” وهذا المعنى مرتبط بغرائز الإنسان وفطرته. وأما قابلية التكيف والتأقلم فهي شرط بقاء الإنسان على قيد الحياة ويمكن رؤيتها بوضوح أثناء تعاقب الفصول الأربعة في السنة وتباين معطيات المناخ وتقلبه فيها وهو ذاته ما يسقط على المعطيات الثقافية والفنية ومظاهر كل عصر جديد وأدواته.
وإذا تأملنا حالة المسارح منذ فجر التاريخ سنجد أنها مختلفة ومتباينة في شكلها أما تشابهها فهو في الجوهر “المعنى والجدوى والقيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية “.
لذلك يمكن القول أن معطيات ومظاهر عصرنا اليوم قد تحيل الشكل المألوف للمسرح إلى شكل آخر تماما والبقاء سيكون للأقدر على التكيف والتأقلم مع هذه المتغيرات والمعطيات المستحدثة وإن كان ثمة رهان وإصرار وتعصب فينبغي أن يكون في اتجاه الحفاظ على المعنى والجوهر فقط.
ختاما يلزمنا التأكيد على أن الخوف كل الخوف من تسلط البنيوية الرأسمالية وتوغل مظاهرها في المشهد المسرحي العربي والعالمي ليصبح المسرح بعدها مثل “الحج” لمن استطاع إليه سبيلا..!!
المراجع
(1) هايل علي المذابي، الفرجة الشعبية المقاومة الثقافية وصناعة الوعي في عصر الاستعمار، إصدارات الهئية العربية للمسرح، ٢٠٢٣.
(2) جوستاف كارل يونغ، موسوعة ويكيبيديا.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) سامح مهران، منشور على منصة فيسبوك،٢٠٢٣.
(5) هايل علي المذابي، القدس العربي مقال الأمثال مفتاح كل الثقافات.
(6) جوستاف كارل يونغ، منصة موسوعة ويكيبيديا.
(7) معجزة كارلستاد وخلاصة التجربة.. قراءة في أعمال الفنان طلال النجار، هايل علي المذابي، منصة منتدى الفنون العربي. 2022.
(8) هايل علي المذابي، صحيفة الجزيرة السعودية، كيف أصبحت قاصا، 2010. أو مقال اعرف نفسك على منصة أخبار الساعة.