حالة العنوان
يشكل علينا العنوان، ابتداء، على أكثر من مشكل، ويمكن ان نتبع أثار تلك الاشكالات من حيث تتبع حالات ما يؤشره العنوان:
- اتجاه حركة المكان، إذ هناك سهم يجري نحو المكان الذي بالضرورة ليس (هنا) طالما أنه ترك نقطة انطلاقه من غير تحديد تلك النقطة..
- ان حركة ( وين ) التي هي معادل لحركة ( أين ) قارة في المكان. أي أن أداة الاستفهام بذاتها هي المكان، ولكن بطور السؤال لا بطور الاجابة، ولما كانت كذلك كان المكان اولا. ذلك لأن حركة الخروج من المكان (هنا) هي حركة الحالة المتغيرة التي تفرضها ذاتها وتمتنع لاحقا من تحديد هوية المكان او عتبته الجديدة.
- (وين) بذاتها تدل على سؤال يمس مباشرة (نحن). أي ما يقصد من أداة السؤال سوف يوجَه نحونا: الجهة الاجتماعية التي تدور او تسكن في رحى ومدار المكان وان كان مجهولا. كذلك ان ( وين ) تلعب دورا مراوغا في تأكيد متاهة المكان واحالته الى مجرد حالة من الضياع اي ان (وين) سوف ترتدي ثياب حالتنا الاجتماعية وتتخلى عن ثياب المكان.
- لو أننا لم نر من العنوان الا ( وين ) على نحو التحديد لوضعنا انفسنا خارج المكان. خارج القصد المباشر لما تعنيه (هنا) وتحل (هناك) كعنصر طاغ في البحث عن المكان. وهنا اذا تم الامر سوف تلغى من قاموس المكان ( هنا ) وبالتالي ستبدو خطورة وضعنا كمجتمع مشرد في هواء ضائع وان كنا كتلا ضخمة في الوجود والتاريخ والدلالة.
- ان مسافة البدء التي عبر عنها متن النص لاحقا كـ ( هنا ) كانت قبل سبعة الاف سنة، وهذا القبل من شأنه ان يجعل صورتنا القديمة في الوجود مغبرة وبلا وضوح وان تسلسل تاريخنا هو تسلسل ضياع وتشرد الـ هنا من قاموس البلاد والعباد.
- هذه الـ هنا او هذه البلاد ليست اكثر من حالة وانما جاء التعبير عنها بـ (وين) انما للبس تعرض له الـ هنا الاجتماعي من جراء التمركز في حالة التشرد والركض نحو هناك المجهول، وهناك هناك من غير توقف في الـ هناك.. أينما كان هناك وكيفما كان.
- ان لعبة الرحلة في المكان هي لعبة المجتمع ومصيره الثابت في تكرار ضياعه وهي رحلة في عنوانها الظاهر ولكنها مجرد تكرار عقيم للحركة وهي طمس في المكان المجهول والحيوات المجهولة التي تتلاصق به كعملة واحدة بوجهين: وجه المكان ووجه الضياع فيه.
وبملاحظة الحالة التركيبة التي هي انشطار ظاهري بين الخشبة المسرحية وبين صالة الجمهور سنتبين الاتي:
- الرحلة تمتد على افق واحد: السيارة التي تقل نحن بوصفها افتراض درامي على الخشبة المسرحية هي ذاتها السيارة الضمنية التي تقل نحن أيضا كمشاهدين بوصفها حقيقة فرجة ظاهرية لما يقع هناك من افتراض درامي وبالنتيجة نلحظ ان الامتداد ما بين الجمهور كحقيقة متساو مع الامتداد كلاعبين وممثلين في افتراض درامي وهذا يعني ان رحلتنا وان جاءت على مستويين الا ان المسار الدلالي لكلينا على افق واحد من الحركة.
- التماثل بين من يقود السيارة بوصفها تقل لاعبين على الخشبة وامتداها الحقيقي من الجمهور هو تماثل الشعب في المسير والمصير وبالتالي يكون المفترض هناك متساو في التقدير والنتيجة مع الحقيقة هنا اي ان نحن التي ينبغي ان تنشطر الى اثنين: لاعب ومتفرج اصبحت واحدة ولا مفر من تبادل الادوار او لا مفر من التماهي التام بين الطرفين طالما تماهت حالتيهما واصبحت حالة واحدة.
اذا كانت ( وين) سببا دالا على المكان بوصفها المؤشر الصريح اليه والتي ضيعت بوصلة ذلك المؤشر حالة المجتمع الذي انطوى المكان فيه والذي تفرضه تلك الاداة فان كلمة ( رايحين ) تثير اشكالات تستفز وجودنا نحن وتزيدنا خوفا على المتجه الذي نسلكه والمصير.. وسنتبين ذلك من خلال:
- توجَه كلمة (رايحين) اذهاننا نحو دلالات منها:
- التلاشي
- الغياب
- الضياع
- الموت
- في كلمة ( رايحين ) حركة وتثير هذه الحركة مخاوف ان لا نجد من جراء فعلها غير:
- المزيد من الرحلة دون معرفة الهدف او النتيجة او المصير..
- ضياع المكان او ( بـ الاحالة ) سيكون ضياع البلاد والمجتمع من التواجد في هنا او هناك. اي التواجد في ذات المكان او غيره وكأن الملحوظ من الرحلة هو ديمومة الرحلة او ديمومة سهم الحركة لكي يستمر او يدوم ضياع المكان.
- الشيء الأكثر انكسارا في هكذا رحلة ليست البوصة وحسب بل المجتمع وهويته وسنلحظ هذا الانكسار من تتابع متن العرض المسرحي او متن الرحلة بتفاصيلها القادمة.
ان اجتماع الجملة من الاداة ( وين ) وكلمة ( رايحين ) فيه تمويه يقصد منه: ان المكان الذي ينطوي على نحن هو ذاته الرحلة التي تنطوي على نحن. وبالنتيجة ان المكان الذي تثير دلالته ووظيفته الاداة ( وين ) سيكون مطمورا في حالة ( رايحين )، وهي حالة مجتمع وظرف دولة ودوران رحلة يتكرر مصيرها كل يوم طالما يتكرر عليها ذات المسير من غير هدف او خلاص.
ان جملة: ( وين رايحين ) ترمي في مقاصدها من مؤلف العرض وصانعه الى طريقة احتجاج تأتي من خارج المجتمع بوصف ان صانع العرض لاعب ترك ملعب العرض من جهة وتأتي من داخله على اعتبار ان الرحلة ألغت كل هنا من قاموسها مثلما ألغت كل هناك من جهة ثانية. وبالتالي ان الصانع واللعبة في مدار الرحلة وعلى مسير وخطوات في التيه واحدة.
الظرف او المشهد المحذوف
اتفقنا ان السيارة كانت على مستويين: مستوى الخشبة: افتراض درامي لحركة السيارة ومستوى الصالة: مجموع المشاهدين الذين تماهوا مع المسير على الخشبة ضمن أفق واحد في المسير والمصير. ولما تم ابتداء توزيع الظروف في الصالة اي في المستوى الثاني من لعبة الحركة ولعبة التوقف التي سوف نتبين اشكالها وطبيعة العمل فيها. اقول لما تم توزيع الظرف لاحظنا في التشخيص المباشر لمبتدأ العرض أن:
- المستوى العام من السيارة هو الجمهور وقد ظهرت عليه مقاصد اللعب التي ارد المخرج حيدر منعثر التدليل على نفسه من جهة حضوره الوظيفي والفني.
- هذا المستوى دخل اللعبة أولا بوصفها حامل القضية الكبرى بل بوصفه المجتمع كله الذي يسير تبعا لإرادة تلك السيارة في المسير والمصير.
- الظرف هو مكتوب مؤجل القراءة مثلما ان عينة الحدث ضمن الاختيار الدرامي للمستوى الافتراضي مؤجل المشاهدة.
- الظرف والمشاهد في ورطة من الحدث على فرض:
- ان المقروء لاحقا هو المستور من الاحداث التي وقعت سابقا.
- ان امتناع قراءته وتأجيل ذلك الى اشعار آخر فيه من اللعب الفني: اي ان عنصر التشويق اراده المخرج ان يكون وقعه من سبب الفضول مثلما هو حقيقة وقوع كما يتضح لنا لاحقا.
- ان مجرد قبولنا باستلام المظروف قد صرنا جزء منه، وذلك مبتغى المخرج. بل أصبحنا جزء من المستوى الفني، وكأنه يريدنا أن نقبل بالتماهي: تماهي المشاهد مع الممثل. تماهي الصالة مع الخشبة، وعلى نحو واحد ستبدو انطلاقة السيارة وهو افتراض انطلاق قد دمجت المستويين حتى اصبحا كلاهما في المنظور العام مستوى واحد.
ما يحدث عند التورط باستلام الظرف من قبل كل مشاهد هو ما يحدث في الواقع والذي يمكن التدليل عنه:
- ان جزء من تاريخ ومواقف كل فرد او جماعة سقط عنه التعبير المباشر في العرض وبقي مخبوء في ذات كل فرد او ذات كل جماعة.
- ان حيواتنا كلها قد استقرت في وثيقة تبدو أدبية في الظاهر الا انها حقيقة صادقة من حقائق المشهد الاجتماعي والسياسي في الباطن.
- مالم يكن في مستطاعنا البوح به الآن وعلانية هو مسجل ضمن وثيقة الظرف وهذا يعني اننا ولأجل التغاضي من اجل المصلحة العامة سوف نحذف الكثير من الوقائع لكي تمضي السيارة: سيارة المجتمع والوطن نحو بر الامان.
- ان حذف مشهد ما من كل حياة لأي فرد من افراد المجتمع هو بالحقيقة يعد تنازلا عن جزء من عمره والقبول بموته او القبول بطمره طالما ان ذلك سيشكل مدعى لحركة السيارة او المجتمع او الوطن.
- ان تقديم الظرف هو تقديم أضاحي لمواقف سالبة طرأت على الكثير من افراد المجتمع ولما بلغت تلك الاضاحي ذروتها في الالم والخيانة والموت خاف المجتمع نفسه من نفسه وقبل ان يسكت طالما ان الورطة جاءت منه اليه في آن واحد. طالما انه القاتل والمقتول داخل الظرف.
لقد تمَت اللعبة التي دفع المخرج اليها كل المشاهدين، وكأنه يريد لهم ان يكونوا ضحايا الافتراض الدرامي لاحقا طالما أنهم الوثيقة الاساس لما حدث في هذه البلاد وما حدث من زلزال قوَض المسير والمصير على حد سواء لكل فرد او جماعة من افراد وجماعات المجتمع والوطن.. لقد تمت اللعبة وصار المرض: مرض المجتمع وقودا لمسير ومصير سيارة المجتمع والوطن، وباتت الرحلة هي المرض ذاته الذي يعمل على ادامة حركة السيارة من لحظة البدء وحتى بعد الاف السنين، رحلة لا شفاء منها او خلاص الا بتكرارها المميت والمقيت جدا.
وبعبارة التوجيه وهي ختم الظرف من قبل المخرج: (من فضلك لا تفتح الرسالة الآن) سنلحظ تبعات ذلك في:
- الرسالة في مدار الرحلة ذاتها.
- المرسل واحد من بين تبعات تلك الرسالة وحيثيات مشكلها.
- المرسل اليه: نحن المجتمع اذ نشكل رحلة الرسالة كلها.
- السكوت او طمر الرؤية الان لما وقع من حدث وبات مسجلا داخل الرسالة.
- السكوت والعبور الناجز لما وقع لأن الجاني فيه والمجني عليه من بيت واحد وعائلة واحدة وجماعة واحدة ومجتمع واحد.
- ان تعرف ما وقع لا يعني ان تتحدث به او تعلن عنه.
- كتم بعض من المشكلة علاج ناجز للمسير والمصير الاجتماعي والوطن.
هكذا نجد ان مجرى الاحداث التي انتقلت من الصالة الى الخشية هي بالنهاية ستكون جزء من الصالة. اي ان انتقال الاحداث من عامة الناس كونهم جمهور العرض الى عينة العرض كونهم وثيقته الدرامية بافتراض درامي لا يؤثر على التماهي التام مع المجتمع عامة اي مجتمع الصالة بوصفه الشاهد والشهيد في آن واحد.
وما تلك الانتقالة الا وهم انتقالة بل هي ضرورة فنية انتقل بنا المسير من العام هنا في الصالة الى الخاص هناك على الخشبة، وهذا الانتقال فني اكثر منه حقيقي. وبالنتيجة سنرى ان الظرف تحرك ايضا بطريقة مزدوجة يمكن التعبير عنها من حيث:
1- الظرف الفني: يشمل حركتنا الدرامية التي يراد منها الكشف عما وقع بأسلوب درامي.
2- الظرف الحقيقي: يشمل حركتنا التاريخية في مأزق الوجود: وجودنا الانساني والوطني، والرحلة في فضاء هذا الوجود.
سنلحظ أيضا اننا والرسالة المكتوبة في الظرف مجرد ظرف تاريخي مر علينا سريعا ولكن مازال وقعه في نفوسنا ومازالت لعبته في تسيير وجودنا لعبة المريض الذي يريد من مرضه أن يبقى وقودا دائما لمسير تلك الرحلة وان كانت رحلة مدمرة ومميتة وقاهرة حدَ الغثيان. هذا الظرف هو نحن. وان احتجاجنا عنه الآن هو كتمان أمره مثلما وجَه المخرج ابتداء عرضه الحقيقي في الصالة في غلق ظرفه. والابقاء على صورة الغلق هو ابقاء على انكسار او شرخ في مرآة الهوية.
التقديم: ما قبل العرض ( الزمن والكهف )
مر سبع من الالاف سنين عددا على كهف الوطن، فلا ضير ان تمر على (لمياء بدن)/ ممثلة – الام، و (زهرة بدن) ممثلة – الفتاة أربعة اجيال عددا على كهف الدراما ولا ضير ان تمر على (لؤي أحمد) ممثل – حامل التماثيل ثلاثة اجيال على ذات الكهف. وان التلازم ما بين الكهفين: كهف الوطن وكهف الدراما سوف يتجلى على شكل بيانات منها:
- ان ما يكون قبل العرض الدرامي هو ذاته ما يكون بعد العرض. انه تلازم بنائي في الوجود والزمن لكل حيثيات التجربة. وقد تبين ذلك من حيث ان القطيعة في تواصل الممثلين بأداء ادوارهما على المسرح على مر تلك الاجيال لم يكن الا كهفا صامتا نزع عنه حركة اميال الزمن وركن الى عزلة هي منفى سواء كان ذلك المنفى خارجي او داخلي لا فرق.
- عرض الداتاشو ( شخصيات العرض المسرحي الرئيسة )ما قبل العرض الدرامي المباشر هو عرض للوقت المجمد في المهنة والوطن على حد سواء. عرض يرسم ملامح الزمن المشروخ بين بدء رحلة الانطلاق وسهم العمل وسهم الزمن وبين تداعي الرحلة من كل هدف وتراكم اعمال او تراكم حيوات على قارعة وطن او قارعة مسرح.
- الزمن يلعب على الزمن اذ ليس من المعقول كل هذا التوقف في الشخصيات الحقيقية للممثلين الذي تساوى مع التوقف الحقيقي لكل الشخصيات الفنية في الدراما. وهذا يعني ان كهف الزمن الذي افقد منا زمن البلاد والعباد كان فاعلا ومؤثرا في طبيعة مسير الرحلة عامة وخاصة.
- استدعاء الشخصيات الحقيقية لمياء – الام وزهرة – الفتاة ولؤي – حامل التماثيل هو تحريك الواقع الحي من شكلة الجامد الى الواقع الافتراضي – الفني في شكله المتحرك. هو اعادة بث الصورة فينا لا الروح اذ ما يفعله المخرج حيدر منعثر هنا انما اعادة تشغيل الوهم الافتراضي عن طريق الدراما لاستنساخ جمود وقتنا وحيواتنا كحقيقة متكررة في الواقع المعيش ويالها من خدعة. هي خدعة وجدت لتؤكد وثيقة تاريخنا الشخصي والوطني على حد سواء. ويراد من هذه الخدعة ايضا ان تعكس تلك الصورة المطمرة في كهفنا الزمني عبر مرآة رحلتنا التي تعمل باستمرار على تكرار مصيرنا المتوقف حد القهر والغثيان.
قد يبدو العبور من الكهف الحقيقي للشخصيات الى الكهف الدرامي/ الافتراضي على الخشبة اول وهلة، قد يبدو رحلة تحول في الرحلة او لنقل رحلة تجاوز كهف جامد الى كهف متحرك اسمه الفضاء المسرحي الا ان التشابه بين القبل والبعد. التشابه التام في تكرار الرحلة من غير وقوع الهدف فيها ومن غير وقع النهاية او التبدل او التحول في الموقف والمصير جعل كل بعد درامي يتساوى مع كل قبل حقيقي. الامر الذي زاد من ثقل الكهف وانعدام الوقت وهذا ما سنلحظه لاحقا في اول عبارة تجلت في الموقف الدرامي وهي سؤال:
- بعد شكد ونوصل
- ما أدري
لنعد الى الكهف الحقيقي: الكهف الشخصي وليس الكهف الوطني. ولنعاين من خلاله مدار الشخصية في الوجود والوطن والمسرح:
- وجود في ظل وجود وهامش يتحرك واقفا في مرآة وطن واشارة او علامة منسية بين ستائر واجهزة اضاءة عاطلة في مسرح مهجور.
- زهرة بدن/ دور الفتاة. في المهجر. خارج دائر ة الذات في الوطن وخارج دائرة الذات في المسرح/ المهنة. انه تأجيل لزمن الحياة وطنا وعملا. تأجيل مميت وتوقف لدوران حركة اميال الزمن في التتابع والمصير.
- لمياء بدن/ دور الأم. دوران الذات في منزل مهجور يطل على نهر منسي وحياة مؤجلة..
- لؤي احمد/ دور حامل التماثيل. آثر الانزواء بعد المرض والفشل في الوظيفة والحياة العائلية وبقي وحيدا في منزل مهجور.
ان الكهف او صورة الزمن في ذلك الكهف لشخصيات حقيقة سيتم لاحقا تبيان تلك الشخصيات على انها شخصيات مطمرة في الكهف وزمن الكهف الجامد. الزمن الذي انطفأت فيه مصابيح الحياة تقريبا مثلما انطفأت فيه مصابيح المسرح تقريبا. انه زمن يتحرك ولكن حركة امياله لا تكون الا في بركة آسنة من الوقت وهو كهف التأجيل لكل حياة او عمل.
لكن المخرج حيدر منعثر اعاد تكرار الصورة ليحتج عليها من خلال استدعاء تلك الشخصيات من واقعها الحقيقي الى واقعها الدرامي الافتراضي وهو بذلك يريد ان يوهمنا بان ثمة تجاوز لزمن المهنة واستبداله بزمن العرض المسرحي ولكن لسرعان ما سيتضح لنا بعد او استفهام:
- بعد شكد ونوصل
- ما ادري
يتضح ان العبور الوهمي الذي خدع به المخرج ممثليه انما هو تكرار تأجيل لحياتهم وابقاء الزمن دائرا في بركته الآسنة التي ليس من ورائها الا تجمد ذلك الزمن على صفيح الوطن وكهفه الاكبر.
صورة العرض ومعنى الاحتجاج
بعبارة ما قلنا: ان الممثلين الثلاثة: زهرة بدن، لمياء بدن، لؤي أحمد تم استقطاع مدة من وقتهم. مدة من الوقت المجمد في دلالة الكهف وما تعنيه تلك الدلالة من ترميز بتوقف الزمن وتوقف الحياة على مستوى الوجود والعمل في آن واحد. وان المخرج ( منعثر ) لعب على خاصية استدعاء اولئك المحنطين زمنيا داخل كهف البلاد الاكبر ليكونوا لاعبين وشهود وضحايا وتجربة موثقة لما تكون عليه البلاد ويكون عليها العباد منذ سبعة الاف سنة وحتى هذه اللحظة: اللحظة الحاضرة..
وبعبارة ثانية أنهم لم يكونوا خارج سيارة البلاد ابدا بقدر ما كانوا منفيين في أحد صناديقها، كهوفها التي تعمل على تأجيل حيواتهم وتأجيل رحلتهم لتبيان وجودهم الشخصي او الفني. أنهم في براد زمني لا اكثر. براد حجزهم بل نفاهم في عمق كهفه الى اشعار آخر. وانتهى فعل ذلك البراد بمجرد ما نفخ فيهم المخرج منعثر طاقة الاستدعاء الفني واعادة تحريك فعل الزمن عليهم من حيث تفعيل يقظتهم داخل فضاء الزمن وفضاء المسرح.
الآن، وفي انكشاف الصورة: صورة العرض وهي تماهي دلالي وتشخيصي مع صور البلاد واسلوب الحيوات فيها، نلحظ ميزات تلك الصورة على نحو التشخيص المظهري:
- عمق مظلم سيكون ظلا ورديفا من بعد للعمق المكشوف.
- كراس ومصاطب لسيارة تتجه نحو العمق التسجيلي المظلم..
- الجمهور امتدا عملي لتلك السيارة.
- زهرة بدن/ الفتاة. لمياء بدن/ الأم. لؤي احمد/ حامل التماثيل: مواجهة عكسية لمدار الرحلة وكأن ثمة احتجاج اولي اراد التعبير عنه المخرج تضمن الجلوس العكسي لأولئك الشخصيات وهي تعترض على الوجود كله في مسيره والسيارة في وضعها وهي انتفاضة مبكرة في التعبير على ما حدث وسيحدث.
- طلال هادي/ السائق: القائد المتماهي مع مسير ومصير الرحلة والذي يلعب دوره بوصفه أداة الكهف الزمني الجامد واداة تحريك وتكرار تحريك الوهم بإبقاء ألم البلاد وقهرها ثابتا لا تغيير فيه ولا تبدل عليه.
- إياد الطائي/ أمير داعشي: يمثل ادامة انكسار الهوية وطمسها في الصراع المذهبي على حساب السلام الوطني. صراع ايديولوجي يرحل اللقاء المدني بالخصام الديني.
- أمير احسان/ أداة تعمل على تمثيل الارهاب العابر للبلدان والهويات والسيادة اذ عبر بذلك من العراقية لهجة الى الشامية لهجة وهو بذلك يدفع التجربة برمتها الى تعميم ظاهرة اتساع الدين الايديولوجي القاهر لكل سلام وطني.
- وسام بربن/ الايقاع العملي لحركة السيارة والاحداث ومزاجها. وقد تناضحت عنه دلالات منها:
- إنه اعلام يعمل على توجيه حركة مسير المجتمع والدولة والهوية..
- إنه محرك عملي لأدوات اللعبة الفنية المتمظهرة على خشبة المسرح بوصفها لعبة اوسع مخفية في تاريخ البلاد والعباد.
- المؤشر النفسي الذي يجعل من مزاج الشخصيات وادوارها على طريقته وطريقة متطلبات فكرة العرض وغرضها الرسالي اللاحق في مقاصده.
- الاحتجاج: اذ كانت جلسته المختلفة/ المعكوسة لمسير الرحلة بالسيارة فيها من الاشارة على انه الاعلام المضاد. المعارضة..
- التماثيل/ الدمى. عوائلنا وذواتنا المحنطة والتي اعطتنا بعدين لرحلتهما معنا:
- إنهم عوائلنا في طور تحنيطهم الزمني. أي أن قوقعة الزمن وبراد كهفه أبقتنا اجتماعيا على صورتها النمطية والقارة في المصير والاداء.
- أنهم نحن التمثيل الايديولوجي لمعظم السكان المتماهي مع خراب ودمار ونمطية ادارة العجلة: عجلة البلاد في رحلتها ومصيرها.
- الداتاشو: العرض التسجيلي الذي يراد منه ان يكون تعبيرا عن:
- التاريخ الشاهد على مجمل ما يجري.
- الوثيقة.
- الممثل الصامت.
- التحريض الضمني: احتجاج مرئي آخر.
- بث دلالة: إن ما حدث بالماضي وما يحدث الآن وما سيحدث مستقبلا انما هو صورة لنمطية كل حدث في هذه البلاد منذ سبعة الاف سنة وحتى يومنا هذا او عرضنا المسرحي هذا.
- الوجه المقابل له وهو الوجه العكسي لمسير السيارة يشكل نوعا من الاعتراض والاحتجاج الذي يحرضنا على التغيير والانقلاب على ما سكن وتأسن من مصيرنا..
- الصالة والخشبة سيارة واحدة تقل الحقيقي والفني في لحظة عابرة ومستقطعة وهي بالنتيجة لحظة احتجاج صارخة لما حدث ويحدث لنا وبشكل قسري ومتكرر.
- سيارة التاتا ( باص كبير ): تأكيد اجتماعي لرحلة مستقطعة من مجتمع ينقل نفسه وبلاده بذات الحالة كل وقت. وهو باص استعصى به الوجود والامان والراحة وبلوغ الهدف.. هو باص العائلة في هذه الدولة مثلما هو باص المجتمع مثلما هو كيان الدولة وتاريخها..
- سبورة: الدرس الصارخ منها الذي يؤكد:
- النظام الدكتاتوري الذي يقود السيارة/ الدولة
- ثبات الوقت وانعدام حركة امياله
- تاريخ البلاد
- البحث المستمر عن دار آمنه في درس وجود هذه البلاد.
- البحث المستمر عن ذات او فرد او جماعة آمنة في هذه البلاد.
- شخصانية الدرس بعنوان: عاش القائد.
نلحظ مما نلحظ هنا من صورة العرض الشاخصة:
- الهوية المعطلة للمجتمع.
- احتجاج مظهري ولكن لا يخرج عن قوقعة الكهف الزمني وبراده المميت.
- ابطالها جزء منكسر من تلك الهوية وجزء محتج فيها وجزء مفروم بفرامة وقت البلاد المتوقف.
- كيفما ستستمر الرحلة ستكون النهاية واحدة.
الشخصي والفني في الأداء
ابتداء نؤكد أن زمن الحكاية هو الزمن المضغوط والمكثف والذي أريد له أن يكون زمن العراق كبلد لا يقل عمره عن سبعة الاف سنة هو زمن شخصياته (مواطنيه) وان التلاصق ما بين المكان كواقع جغرافي والادوار كواقع فني. أي أن زمن البلاد في مجمله هو زمن كل شخصية من شخصياته وذلك على اعتبار أن الحالة الواحدة المتكررة في المشهد الوطني هي ذاتها الحالة المتكررة على كل مواطن من مواطنيه..
بعبارة أخرى نلحظ المعادلة الآتية التي من مصاديقها:
- العراق: وحدة الدولة الكبرى = الشخصية بوصفها وحدة الفرد الصغرى.
- الحالة العامة لكل مرحلة من مراحل الوطن = الحالة الخاصة لكل فرد من افراد المجتمع.
- حالة الشخصية بوصفها الواقع المعيش = حالة الدور الفني المفترض على خشبة المسرح.
- الرحلة/ مسير الوطن وتاريخه = الرحلة/ مسير المواطن وتاريخه.
- تكرار توقف الزمن = تكرار توقف الذات سواء كانت تلك الذات في مدارها الحقيقي او مدارها الفني.
- المجتمع حقيقة او جمهورا فنيا = مجتمع الحكاية كلها افتراضا ووثيقة..
اذا كان البدء من حامل التماثيل/ لؤي احمد بالسؤال عن الزمن فان ما يقصد منه تبيان دلالات تصل الينا سريعة على شكل شفرات واسئلة، منها:
- قبل سبعة الاف سنة هي نفسها بعد سبعة الاف سنة، وذلك لتداعي التحنيط لبعض الشخصيات والتي تمثل لاحقا لعائلة يفترضها حامل التماثيل مثلما يفترضها الواقع عبر الاف السنين والواقع الفني المشاهد الان على خشبة المسرح.
- ان الفاصل بين المرحلتين: مرحلة قبل ومرحلة بعد كل تلك الالاف من السنين هو الافتراض المشهدي الذي صنعه المخرج لنا استقطاعا عرضيا وسريعا لبيان قصة هذا البلد المستلب عبر كل تلك المراحل وفي كل مسيره المتلاصق مع مصيره المتكرر والثابت لدرجة موت الزمن فيه وبرودة الكهف الذي ارتضاه ملاذا له عبر كل تلك السنين.
- ما توقف من شخصيات افتراضية على خشبة المسرح له امتداد تاريخي وعملي لكل شخصيات الجمهور على اعتبار ان الطرفين ولدوا وعملوا داخل ذات الكهف وعلى نحو يمكن تسميته بالسيارة تبعا لمنظر العرض في صورته السينوغرافية ولكن حقيقة مقصده هو العراق.
- لؤي احمد في أداء دوره التزم الخطوط الاتية كطريقة منه لتحقيق فكرة وهدف العرض المسرحي بل هدف وثيقة البلاد كلها وعلى نحو:
- الفرد اليومي الواضح والذي يعيش على هامش مصيره.
- البطل الشعبي المنسي بوصفه ممثلا شعبيا لطالما كانت له مصابيح الحضور والمتعة في ذوات المجتمع الحقيقي والافتراضي.
- حامل القضية الكبرى: انه يحمل عائلته التي تمنى لنفسه ان يكون فيها ومنها الا ان القدر: قدر مرضه المتساوق مع قدر مرض بلاده حال دون ذلك. حامل نفسه بمثل ما يحمل تماثيله وبالتالي ان جماد الزمن والاعتبار والحقيقة والوثيقة في تماثيله ينعكس عليه تماما.
- تكتيكه البنائي للدور توالد من تكتيك مرحلته السهلة والعميقة والتي فرضت عليه ان يكون واحدا من الناس: المواطن المألوف وحركة الوطن، والمألوف وحركة العرض المسرحي. الأمر الذي استوجب ان يكون اداءه في الشعور والحركة والفكرة والتواصل اداء يوميا يقترب من التلقائية وكأن ما يؤديه اننا كمتفرجين شاهدين عليه من القلب والضمير من جهة،
- وموجوعين به من حيث الدلالة والرسالة من جهة ثانية.
والزمن العالق في كل شخصية من شخصيات العرض هو نفسه الزمن العالق للدولة برمتها وعبر كل مفاصل حيواتها ومصيرها. هكذا ايضا يمكن ملاحظة لمياء بدن/ الام كدور يبحث عن فلتة من فلتات الزمن المتوقف ليحرك به زمنا محتجا وناهضا ومصورا لمأساة ما وقع على البلاد والناس على نحو:
- الأم والوطن هي رحلة آلام الرحلة والمواطنة في الوطن.
- الام هي استمرار التوالد الذي يزيد من حطب التجربة ليكرر لنا الواقع المأساوي.
- الام الحالة التي يراد تسليط الضوء على وثيقتها وما وقع عليها ازاء تدفق الحروب ومطر تلك الحروب على رأسها الذي افقدها بيتها وزوجها وطفلها. اي افقد فيها: الوطن والامان والمستقبل.
- الام هي أمنا جميعا. ذات الاسلوب وذات التكتيك الذي اعتادت عليه الطبيعة الاجتماعية المحلية التي تحدد صورة الام النمطية في اذهان كل العراقيين.
- اليومي والسهل الممتنع والشعبي الذي كان سمة أداء الأم.
- الام بوصفها كل أم والتي تحمل عبء التربية والرعاية لكل افراد المجتمع هي ايضا ذلك البطل الشعبي المقدس والاسطوري والذي له مكانة كبيرة في نفوسنا وتاريخنا الاجتماعي والوطني.
- الامر الذي استعى ان يكون اداءها في التمثيل متساوق مع الحقيقة لتلك الام التي تناضل من أجل ان يولد المجتمع كله على رعايتها ومحبتها لعبور امراض الحرب بعافية السلام لكل افراد المجتمع وجماعاته المتنوعة.
ولأننا اطياف متنوعة ولأن جريمة الاقصاء والتدمير ثقافة بل سلوك له تبعاته على مواطني البلد الواحد جاء اختيار الفتاة/ زهرة بدن ليوازن معادلة المواطنين في ميزان هذا الوطن غير العادل ولتسقط كفة الميزان وتسقط من بعد كفة الموازين والموثيق الوطنية كلها الامر يكسر الهوية في مرآة الوطن ويجعل من انكسارها شرخا قيميا واعتباريا ووطنيا لكل ابناء الوطن.
نلاحظ الاتي في أداء زهرة بدن/ الفتاة:
- قوة العصاب الذي يلازمها من الخوف بوصفها:
- فتاة/ انثى في مجتمع ذكوري شديد القسوة.
- ايزيدية/ اقلية جماعاتية يمكن ان تكون عرضة للفناء وهذا ما حدث ابان الحرب الداعشية المقيتة
- الطفلة التي تريد الدار والوطن والسلام والمعرفة في ظلف واقع مضطرب كالح بالحروب والموت والاقصاء.
- الطبيبة التي سيكون مرضها اشد عليها من كل طبابة في الهوية والقهر الجسدي والتدمير التنوعي..
- هي بنتنا مثل كل بناتنا. هي الدلال والعرض والمحبة وروح الوطن وكبرياء الذات مع ذلك هي الطف بناتنا اللواتي يركض بهن الحب والولاء الوطني مثلما يركض بها العمر والمصير سريعا نحو القهر والقتل والاقصاء.
- تكتيها الادائي كان من منزلة ابنتنا في البيت التي تلعب وتتألم وتضحك وتتحاور وتعمل وتشاكس وتزعل وكأنها لا تمثل دورها بقدر ما تمثل حقيقة شخصيتها عبر تاريخها العمري والوطني والمأساتي.
كذلك سيمر علينا سائق السيارة/ قائد السيارة الممثل طلال هادي وهو يفترض اللعب في صالة المشهد السياسي مثلما يؤدي دوره على خشبة العرض بوصفه سائق سيارة واقفة وهي تعادل وطن توقف ايضا منذ الاف السنين:
- النظام الذي يحرك الوطن.
- الايديولوجيا التي تفرض احادية السلطة في القرار والمصير.
- اللعب على الوطن والمواطن بأكذوبة نهب الحيوات والثروات: نهب اعمار المواطنين المعادل لنهب ثروتهم الكبرى من النفط بدالة ثقب خزان الوقود المستمر.
- البطل المجنون والذكي واللاعب والمتسلط الذي يعيش بداخلنا هو ايضا يعد بطلا شعبيا. انه كل واحد منا في حال تسنم السلطة. وذلك لإدامة ذات المرض المتكرر على البلاد منذ الاف السنين. وتغذية مسيره الراكد في الزمن: زمن الكهف الجامد وبراده المميت.
- تكتيك ادائي يومي وشعبي يصل الينا كأنما نحن من يؤدي دوره ولكننا ارتضينا انابته عنا.
تجري الهوية كأمنية عامة في رياح جريمة انكسارها من جريان انقلاب ذواتنا وايديولوجيتنا على انفسنا وقد تميز اداء دور ذلك الممثل اياد الطائي من حيث مستلزم شخصيته في:
- تبني كراهية الخطاب الديني الأحادي والمنقلب على وئام السلام والتنوع المدني.
- ثبات وجمود الفكرة الملازمة لذلك الخطاب.
- الانقلاب على الذات من داخل الذات. أي من انفسنا جاء الانقلاب على انفسنا.
- الحدية المفرطة في المعاملة وتقسيم التنوع المدني الى معنا او ضدنا. كافر ومؤمن. حلال وحرام بمنظور ديني احادي الرؤية والقرار والتبعات.
- بطل راديكالي يعيش بداخل كل واحد منا.
- الماضي التقليدي المريض محرك أساس لكل حاضر.
وهكذا نلحظ تبعات التدخل الخارجي او اليد الخارجية التي تسهم بترويع وقتل ابناء وطننا وتعمل على الغاء المواطنة فيها، وقد تجسد ذلك في دور: أمير احسان/ الداعشي وعلى نحو:
- الغريب وتدخله في شؤون الوطن وابناء الوطن الواحد.
- الترويع والقتل على الهوية وطمس ملامح التنوع بأحادية الايديولوجيا المغلفة بالجهل المقدس والقاتل.
- التكتيك الادائي النمطي لرسم كاريكاتير واضح الملامح والابعاد لشخصية الوافد الداعشي.
ولكننا سوف نصطدم بدور وسام بربن/ محرك ايقاع العرض وموسيقاه المباشرة والحية وهو يؤكد وجوده الفني والدلالي من خلال:
- مسير فردي مخالف لحركة ومسير الجماعة.
- اعلامي وموجّه خطير في ادارة لعبة الحياة الفنية والواقعية.
- موجه مزاجي لأجواء الشخصيات وعلاقاتها الاجتماعية وغيرها.
- متساوق تماما – وان كان جالسا بخلاف مسير الرحلة وكأنه على تضاد او مناهضة مع الرحلة – متساوق مع كينونة الرحلة ومحرك فعال لادوات الرحلة..
- الخدعة الاحتجاجية المزيفة التي تخدر المجتمع وتزيد من قناعاته بالمسير بذات الاتجاه وان كان كارثيا.
- تكتيك ادائي بمنظور دلالي: حزب. اعلام. عقيدة. الجو النفسي. البعد السياقي للفرد والجماعة.
كل هذا واكثر منه هو وقوع اللعب داخل الاداء: التمثيل في التمثيل نفسه. خروج الالم في الاداء مما يقع على كل شخصية متساق مع خروج الفرح. لعب يطرز الاداء احيانا بلغة الكاريكاتير المشوق. يطفح عنه صدق التقمص ولكن ايضا يطفح منه غضب الاحتجاج والمناهضة. مأساتي وكوميدي ولكنه ايضا سياسي. يكبت بمثل ما يحرض. مقهور بمثل ما هو نافر من قهره. قديم ولكنه ايضا متجدد. ياله من مصير لا قرار له في الوجهة والمسير.
تعددية المرض والمعالجة الاخراجية
نلحظ هنا حركة من الدوائر تتكرر كأسلوب نمطي في المرض: مرض الاحداث والمواقف والشخصيات والافكار والرسائل مثلما تتكرر في المعالجة الاخراجية ومثلما تتكرر في الاحتجاج وانكسار الهوية وسوف نتبين ذلك بالتسلسل وعلى نحو:
المرض الاول: العنوان: وين رايحين
مرض يؤكد:
- الضياع او فقدان البوصلة الاجتماعية
- تكرار المصير الخاطئ.
- تكرار القهر الملزم
- تكرار السلطة المميتة
- تكرار الهزيمة والخذلان
- راديكالية السلطة او راديكالية الدين
- قهر المكان بالحركة المجهولة
ونتبين المعالجة الاخراجية على العنوان:
- حالة العرض التي كان العنوان عتبتها هي ذاتها حالة المتلقي إذ تلازم العنوان بين ما يقع على شخصيات العرض وجمهور العرض من المتلقين وكأن ثمة تطابق دلالي يبثه العنوان هناك على الخشبة كافتراض درامي يشخص حالة المجتمع وهنا في صالة العرض كون ما يقع هناك مماثل لما يقع هنا. على الوضع العام برمته.
- الحضور على المستويين: مستوى الخشبة ومستوى الصالة لا يشبع دلالة (وين رايحين) بل ثمة استطراد شمولي لهذه الجملة اذ تختزل الدولة منذ ولادتها قبل سبعة الاف سنة والى يومنا هذا بذات المعنى.
إننا اصبحنا الدولة، بعمقها ووجودها وتاريخها، والعرض المسرحي صالة/ جمهورا وخشبة مسرحية/ مؤدين، اصبحنا على حافة بركة آسنة من الخطاب والتداول، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.. الأمر الذي تطلب أن يناهض المخرج تلك الصورة النمطية للدولة بـ:
- غضب الاستفهام المخبوء والصريح في العنوان في آن واحد: وين رايحين.
- تحويل العنوان من دلالة العتبة التي تؤدي بنا الى متن العرض الى العرض ومن ثم الى وطن كان الاستفهام به يعد غضبا مبطنا لما يكون عليه الوطن من وضع مستلب.
وأكثر من ذلك سيكون الشكل الظاهر للعنوان تضمين مبطن في المعنى الاجتماعي والسياسي لكل مواطن من مواطني هذا الوطن، وسنلحظ ذلك من تداعي الخطاب الموجَه من قبل العنوان على المجتمع الدائر في فلك قهره المتكرر الاف السنين.
- انكسار بوصلة الدولة هو انكسار لأبوية الدولة، وبالتالي سنلحظ شرخا بين السلطة بوصفها تحمل أبوية الدولة وبين المجتمع بوصفه افرادا وجماعات في تكوين الدولة. وهذا بدوره سوف يتأصل كخطاب متقاطع ومتضاد ايضا بين مفهوم السلطة ومفهوم المجتمع الامر الذي يضرب عمق الهوية ويجعلها في مهب الضعف والانهيار.
- الانقسام العام في اركان الدولة سلطة ومجتمعا سوف يضرب بظلاله على جماعات واطياف مجتمع الدولة. الامر الذي نلحظه من انقسام جماعاتي مغلق بين المجتمع الواحد وتتناضح علينا تلك الانقسامات لدرجة القتل على الهوية وهذا ما نجده في ادنى تفات او اختلاف او تحارب على الخطاب او السلطة.
المرض الثاني: الظرف
ان عوارض هذا المرض المسمى: الظرف الذي توزع لكل الحضور في صالة المسرح قبل بدء العرض تتبين من حيث:
- مغلق بتوجيه خارج عن إرادة جمهور بسلطة وإرادة المخرج.
- ليس كل ظاهر وتحت أمرك مكشوف المعنى وبالتالي اننا كدولة عامة وكأفراد خاصة ما نضمره ونجهله ويتحول الى مكبوت في النفس والمصير ويتحول الى بركان من ضياع البوصلة هو مدار ذلك المرض وتكرره.
- ان كثيرا من اسرار الافراد والدولة هي وثائق الافراد والدولة المطمرة والتي لا يراد الاعلان عنها لإبقاء حالة المرض على ما هي عليه.
وهذا ما جعل المخرج ان يتدخل في تسير رؤية ذلك الظرف الذي ألبسه ثوب المباشرة والتشخيص وان يضع المعالجة به تحديدا، ومن مقاصد تلك المعالجة:
- الصدمة إذ جعل من الظرف وثيقة بين يدي كل فرد ولكن من غير أن يعرف كنه تلك الوثيقة وأن يدفعه فضوله لاحقا لأغراض التشويق الفني لبيان تلك الوثيقة.
- إننا مازلنا كالظرف الذي بين ايديكم لا نعي انفسنا ولا نرى انفسنا دولة وافراد ومجتمع ثقافة او مسرح واضحين ومعلومين في الحقيقة والفن.
- إننا جزء حي مغلف. أي أننا سكان ذلك الظرف الذي يلازمنا مثل كهف انعدم فيه الزمن وأضاع علينا عمرنا وعمر الدولة سبعة الاف سنة.
هذه الصورة التي كانت مؤطرة بالظرف هي بطبيعة الحال صورتنا كمواطنين نحمل انفسنا في مرآة الدولة ولكن من غير وضوح بل على كتمان وكبت وتغليف وثيقة، وبدلا من ان تكون دواء للفرد والدولة ونتيجة انغلاقها بتت مرضا مزمنا للفرد والدولة. وهذا بذاته دفع فينا المناهضة مثلما اوقع بنا المخرج وعلى فرض:
- الرغبة بفتح الظرف لمعرفة المرض وتبيان الوثيقة الصادمة التي كانت مغلفة وغير مرئية لكل فرد وللمجتمع كافة.
- الظرف والفرد والدولة حالة متشابهة من السلوك والحياة والرحلة والمصير. ثمة تطابق ملحوظ بين كل مكونات الدولة وتاريخها.
- الاتهام المباشر اذ لمجرد قبولنا بالشكل النمطي لاستلام المظروف كأنما اعلنا عن قبولنا بذات المسير والحالة التي كانت معاشا ومصيرا وخطوات تجربة في هذه الدولة. ان المخرج بذلك قد اتهم الجميع بانهم مجرد ظرف مغلق لا اكثر وفي هذا الاتهام احتجاج صريح.
وليت الأمر انتهى بذلك الاتهام بل ذهب بنا ابعد من ذلك. إذ أن حالة الاغلاق: الانسان – الظرف الذي لازم حيواتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية قد تحول الى هويات مصغرة جدا بحجم ذلك الظرف وتحول الى انكسارات مصغرة جدا على شكل هويات فرعية متقاطعة ومميتة. هويات منكسرة ولكنها منفعلة ومنكمشة ازاء نفسها وازاء غيرها.
هكذا دفعنا الظرف الى تبني:
- هوية مغلقة.
- كل جماعة هي فرد وكل فرد هو جماعة محددة.
- موت الدولة واحياء نسق جماعة الظرف الواحد – الظرف المغلق.
- الولاء الجزئي على حساب الانتماء الكلي
- حراك الطائفة او الحزب او اية جماعة تكون تبعا لحراك كل ظرف/ عقيدة مغلقة ومكبوتة مثل طبيعة الظرف المغلق سيكون حراكا خلافيا ومتقاطعا ومتحاربا باستمرار.
- كل فرد هو عقدة نفسية ملغومة بالغموض.
- وثائقنا غير قابلة للإفصاح والنقد والتحليل بل هي مقدسة متعالية عن كل فحص او كشف..
- تكرار انفسنا في تدوير انماط عقائدنا مما يجعل زمننا دوري لا يتقدم الى الامام ابدا بل يلتف حول نفسه، لذلك نحن لا ننمو ابدا.
المرض الثالث: السيارة
نحن حينما نعد انفسنا وموجوداتنا في هذا العالم، اثنان في أطار واحد: نحن السيارة والطريق معا، ونحن أيضا ذلك الاطار الذي يمكن ان يكون عنوانا لوجودنا وانفسنا وتحت مسمَى: الضياع. ويكشف المتلقي مما تفرضه دلالة هذه الموجودات على نحو:
- المسرح/ مكان والسيارة/ زمان في حركة مطردة تكاد ان تكون متغيرة في الظاهر الا انها حقيقة الامر ثابتة وقارة في صورة نمطية من صورها التي جمدها الزمن والمسير والمصير المتشابه حد الغثيان المميت.
- مساحة العرض الفني هي مساحة احوال الشخصيات المنتخبة وهي افتراض مساحة وهمية من اصل مساحة كبرى وشاملة هي مساحة الدولة..
- التأثيث المفترض بالسيارة وهو تجريد سينوغرافي يدعو الى تجريد تاريخي لمسير الاشخاص ومسير مجتمعات اولئك الاشخاص بالمنظور الفني او الحقيقي وصولا الى تجريد تاريخ الدولة برمته ووجودها الشامل.
- الأم وحامل التماثيل والفتاة تم انتخاب عيناتهم للعب عليهم ولتأكيد حالة الدولة مما تعانيه من خلال احوالهم الشخصية كأفراد معطلة وفاعلة ولكنها بالنتيجة مهروسة تحت سرفة الزمن المجمد والحياة اللاحياة بالدولة.
- الناس: راكبوا تلك السيارة تماثيل.. افتراض مجتمع تحنط وتم انتزاع عينات منه ثلاث لمعرفة مسيره وما يؤديه في ظرفه هذا او تاريخه كله. ان تجميد ذلك المجتمع في تلك السيارة له تطابق ضمني بينه وبين تلك العينات المنتخبة منه وسنلحظ ذلك التطابق لاحقا.
- التدخل عبر الداتاشو هو تدخل السائق محاولة منه لقيادة السيارة من خلال قيادة ركاب تلك السيارة. اي ان المهم ليس حركة ومسير السيارة بل حركة ومسير مجتمع تلك السيارة لا اكثر.
لا يكتفي هنا المخرج برمي اشاراته على رقعة حياة/ خشبة المسرح/ النسق المجتمعي لتلك السيارة وهو نسق الوطن والمواطن.. اقول لا يكتفي بتوزيع تلك الاشارات ودفعها الى فهم المتفرج او تأويلها العشوائي منه بل اعاد رسم تلك الاشارات من حيث تدوير محركها الدلالي بما يناسب وغرض العرض المسرحي كله وبما يتناسب ورسالة او هدف حركة السيارة التي هي حركة الدولة والعرض المسرحي في آن واحد.
نلحظ ذلك من خلال.
- معالجة الجزء/ السيارة بوصفه تركيب فني افتراضي بالكل/ المجتمع والدولة بوصفهما تركيب ايديولوجي وثقافي بالموقف بوصفه لازمة تاريخية لوجود الجزء والكل على قارعة وطن كان ومازال يعاني من غمط قضيته في الوجود والتاريخ والحياة والمسير..
- الامتداد سمة هذا العرض الفني. لكنه امتداد بين العرض بذاته مع مجتمعه الشخصي والفني وبين جمهوره وبين تاريخ دولته وبين حيوات مواطني تلك الدولة والطريق التي تعبدت بهم سلوكا وقهرا وجمودا زمنيا..
- لا فرق بين من هو دمية تخلو منه الحياة وبين من هو على قيد الحياة حيا: كلاهما يعاني انعدام الزمن والحياة..
- كيفما كان مسير الدولة وكيفما كانت ظروف ذلك المسير الا ان نتيجة المسير واحدة: التوقف وتكرار البقاء على قيد العدم والقهر..
- رفع الخط الوهمي الفاصل بين المتفرج والممثل وجعل السيارة الفنية كوحدة ديكورية على المسرح هي السيارة كوحدة مقاعد لجلوس المتفرجين. أي اصبح الممثل متلق والمتلقي ممثل وانتهى او سقط ذلك الجدار الوهمي المسمى بالجدار الرابع.
نلحظ هنا ان ما يحتج به المخرج بالضرورة هو احتجاج المتفرج ايضا وبالضرورة سيكون احتجاجا مباشرا من قبل الممثلين والفنيين على حد سواء. بالضرورة توافر ثمة غضب. توافر ثمة وعي بما يحدث الان على خشبة المسرح وما حدث للبلاد بتاريخها ووجودها وما سيحدث لكل اجيالها مستقبلا.
عندما ننظر الى تلك السيارة/ المجتمع وهي على حافة الانجماد الزمني. على حافة الموت التاريخي. على حافة تكرار القهر بتدوير خطاب كل مرحلة من مراحل حركة المجتمع او السيارة سوف نتبين ذلك الشرخ القهري الذي تمر به الهوية والتي تعاني من ثقل اوزار الانفصام بين التغيير والتحرك والحياة الناهضة وبين مستنقع التاريخ وتكرار انماط القهر والموت الهادئ على سرفة الزمن العاطلة.
المرض الرابع: مواجهة الزمن
- أم مع ايقاف حالة تنفيذ الامومة: ( موت الابن وفقدان الزوج )
- فتاة مع ايقاف حالة تنفيذ الحياة السعيدة: ( السبي وقتل الاهل )
- رجل مع ايقاف حالة تنفيذ شبابه: (المرض القاتل وفقدان الاهل والعمل)
- لا مكان معلوم وأن كان مكان العرض/ ممثل فني او العينة الاجتماعية التي مكانها البلد/ العراق. لكن المعلوم فقط هو الرحلة التي لا حركة لها ولا مسير الا تدوير صورة التوقف وجمود الرحلة.
- المجتمع: التماثيل. هو موت المجتمع.
- السيارة: الوطن . قهر يتوالد باستمرار.
- السلطة/ خطاب الموت الموضعي. السائق الذي ينسى انه مسوق داخل ذات المرض.
- انفصام التاريخ والذات: الداعشي العقيم في الحياة والدولة والدين..
- العازف الحي: الاعلام المناهض والمقاومة الضعيفة
- المجتمع الجمهور: تماثيل أخرى.
ترك المخرج أشخاص عرضه الفني في حالة من تدوير حيوات مفترضة على الخشبة المسرحية لا طعم فيها ولا أمل يرجى منها وهي تكاد ان تكون اشباح شخصيات اقتطفها كعينة من مجتمع اكبر ومن تاريخ دولة اكبر. وقد تمايز عنده ذلك المقتطف في اعادة تصويره لنا كمجتمع فني او حقيقي من حيث معالجة اشكاله وقضاياه ومواقفه ورسائله على نحو:
- إن أمهاتنا لا تلد الا القتلى والمغدورين، وبالتالي أننا مجازا نسمي امهاتنا بالأمهات بل هن عقم وقهر وغثيان رحلة في لعبة دولة مريضة لا اكثر..
- عطل الرجولة كاستمرار للوجود يقابله عطل في الوظيفة كاستمرار للعمل والانتاج..
- الفتاة تساوي الحلم بالأسرة والاهل والبلد والمستقبل: حلم معروض في سوق العبيد والجواري. حلم هو الاخر تعرض للسبي من نفسه على نفسه داخل الوطن الواحد.
- الرجل غيبوبة رجولة بمرض وعقم حياة وصخرة مجتمع.
- السائق الذي يتوهم انه سلطة منفصلة عن المجتمع والسيارة/ الوطن ولا يدري انه جزء من ذات المرض وذات السيارة وانه يسوق نفسه مثل بقية افراد السيارة ويعاني بالنتيجة من داء القهر والتكرار والعقم والموت.
- الداعشي وظله: ليس أكثر من انفصام زمني بين حيوات الماضي وايديولوجيته وحيوات الحاضر وايديولوجيته. الانفصام الذي انعكس على السيارة والوطن والمجتمع والذات على حد سواء.
- مهما كان عزف المناهضة وصورة المقاومة بالحياة الا ان شراسة التكرار المقيت لنوع الخطاب الميت زاد من المجتمع مرضا وانكسارا في الهوية والمصير.
من هذه المعالجة الاخراجية تتكاشف لنا طريقة احتجاج العرض على نفسه:
- أين موضع الام اذا كانت بلا اولاد او زوج.
- اين الشباب اذا كان مستلبا بالمرض والمجتمع والدولة
- اين احلام الاولاد اذا كانت كل فتاة عرضة الى السبي والقتل والتشريد.
- اين الوطن اذا كانت كل حيوات ابناءه هي حيوات سيارة معطلة لا تصل الى هدف او تغيير او ضفة زمن آخر من ضفاف المستقبل الجديد.
- اين ذاتي اذا كانت فكرتها مريضة بالداعشية الجاهلة والمتخلفة وهي تعيش انفصاما تاريخيا وتعيش ايضا على ضفاف حاضر جديد ومغاير لا يشبه فكرتها عن الحياة والدولة.
- اين صوت المقاومة..
ولسوف يرى الجميع مقدار الكسر الذي يلازم مرآتنا داخل انفسنا وداخل مجتمعنا الذي تقاطع حد القتل والقهر ومقدار التفات بين نهر الحاضر الذي يجري شكلا وصورة كذوبة وفكرة الماء من الافكار التي تعاني التعفن والجمود وخذلان الدولة من خذلان افراد مجتمعات تلك الدولة.
المرض الخامس: الدولة – القيادة – الثروة – الرحلة
نعود الى جادة التذكير ابتداء، تذكيرنا بأنفسنا ونحن نعاين أنفسنا في مرآة لوعتها مما هي فيه من مرض. نعاين ذلك بالتقابل مرة: تقابل الفني/ خشبة مسرحية وممثلين مع الجمهور حقيقي/ صالة عرض ومرة أخرى بين تلك الحالة المفترضة على الخشبة المسرحية وحقيقة احوال المجتمع الدولة منذ سبعة الاف سنة وتكرارها المتبادل في الادوار والاجيال.
- وين رايحين مرض اصاب الدولة بالركود والجمود وتكرار الموت في الزمن والرحلة.
- السيارة معادل الى الوطن.
- المسرح والدولة. الافتراض والحقيقة. الفن والواقع. التاريخ والحاضر. كلها واحدة من منظور العرض المسرحي او عرض وثيقة الدولة بما يقع او وقع عليها من احداث..
- لا احد ركب السيارة الا ذات المواطنين لهذا الوطن.
- الرحلة اقرار بعذاب المواطنين واستمرار ذلك العذاب من غير الوصول الى بر أمان وضفة حياة جديدة مغايرة.
- ادارة وقيادة الوطن تتكرر بذات الاسلوب وهي تجر السيارة/ الوطن الى ذات المسير والمصير في آن واحد. انها تكرر موت الرحلة دائما وهي تعمل ايضا على استمرار قيادتها.
- السيارة معادل لعمر الدولة المقدر سبعة الاف سنة.
- لا حركة في حيوات الدولة مثلما لا فرق بين مواطن على قيد الحياة ومواطن دمية نزل به الجمود واصبح مجرد تمثال لا اكثر. كلاهما يعيش على حافة التهميش والموت.
- كل شيء هنا يستنزف وجوده: اعمار المواطنين وثروات الوطن. كل شيء يعاني من الهدر والضياع. انه تبديد معلن لكل حيوات ومكونات الدولة.
- الخطر الذي يكرر نفسه على المجتمع ان كل شيء له مستقبل وحركة تدفع به نحو ذلك المستقبل الا مواطن هذا الوطن فانه متساوق بالسكون في رحلة توهم كل المواطنين انها رحلة تقبل التغيير والتقدم الا ان حقيقتها المرة انها رحلة طمس وركود بذات الحالة وذات الوثيقة المكررة بالتأزم والضياع والمزيد من القهر الشرس.
لكن ذلك المعنى الذي ركبه بل تماثل به المجتمع واصبح دواء وجوده من داء حالته وتكراره، ذلك المعنى تطلب معالجات صريحة على المستوى الفني او الفكري او العاطفي. وهذا ما سنلحظ عنه في التعبير الذي اعتمده المخرج كلباس شكلي وفكري لذلك المعنى:
- الدولة سيارة تحمل ركابها/ مواطنيها في الزمن والارض والمصير، وهذه السيارة متوقفة نوعا ما.
- كل ما هو على المسرح اولا هو الكراسي/ السلطة وهذا يعني ان مشكلة المواطن مثلما هي في سكنه او وطنه او وجوده هي ايضا في سلطته.
- لا فرق بين مواطن حي او مواطن ميت/ تمثال طالما ان السيارة: الوطن في حالة سبات تاريخي ومصيري.
- الممثلون الذين يلعبون على انفسهم ومصيرهم داخل الرحلة وعلى متن السيارة هم انفسهم يعانون من انفصام زمني: وجودي ومهني ودولتي. الأمر أيضا في سبات ثلاثي الابعاد: الحياة السابقة المعطلة. المهنة السابقة المعطلة. الدولة السابقة المعطلة: الآن وقبل الآن وغدا.
- الماضي – الحاضر – المستقبل كله واحد ولا طعم له اذ ان السؤال المباشر والاول للرحلة: (شكد بعد ونوصل). هو بالحقيقة المضمنة، استفهاما وتاريخا، انهم لم يتحركوا ابدا من مكانهم ولم يتجاوزا صورة الحالة ذاتها التي وجدوا انفسهم عليها منذ سبعة الاف سنة. لكن ذلك السؤال جاء كاستفزاز درامي يراد به التشويق لما سيكون عليه واقع اولئك الركاب المحنطين اصلا..
- لا فرق بين لاعب/ ممثل وملعب/ مسرح او وطن ومجتمع جمهور او مجتمع دولة.. جميعهم في قدر المعاناة وعلى نار لا تهدأ ولا تنطفي ابدا..
- لا فرق بين نظام لعبة يمضي بنا جميعا الى المستقبل ونظام لعبة يمضي بنا الى ذات الخطوة التي وجدنا انفسنا عليها. كلاهما بيد لاعب وملعب وجمهور اجتماعي تشابهوا حد القرف والفعل الواحد.
- السائق/ السلطة ومطلب النوم تمويه لما تكون عليه السلطة اصلا في نوم وسبات. ان عدم حركة المجتمع او السيارة هي بالضرورة معادل موضوعي لعدم حركة السلطة وفعلها في ادارة شؤون الدولة. انه تمويه فني بينما الحقيقة هي دلالة صريحة بنوم السلطة عما تتطلب رحلة السيارة/ المجتمع/ الدولة من يقظة في المسير والمصير.
- تسرب ونفاد وقود الرحلة/ السيارة هو تسرب اعمار وثروات الدولة موارد بشرية ومادية. وان هذا التسرب لا يتوقف طالما ثمة تكرار لقصص الالم المكررة التي يعاني منها مواطنو الدولة/ السيارة.
في العلن يبدو لنا ان مخرج العرض المسرحي: وين رايحين جزء متماه مع الحالة الاجتماعية والسياسية والاسلوبية التي وجد عليها كل مواطن عراقي الا ان سرعان ما ينكسر ذلك الجزء المتماه ويعلن رفضه او احتجاجه، وخاصة في مفاهيم لم يعلن عنها صراحة ولكنها تعد جزء حيويا من الشفرات التي يبثها العرض وجزء من الرسائل التي يتورط باستنتاجها المتفرج ايضا. ومن هذه الشفرات او الرسائل نتبين احتجاجه:
- ان طريقتنا في الوجود والسلطة هي الخطر ذاته.
- التعبئة المنغلقة للسلطة الفارغة في كل قيادة او ادارة لهذه الدولة. انها تعبئة طاغية مهما كانت عنوانيها. اذ ان مؤداها بالأخير الطغيان..
- لا نعي الزمن طالما هو تدوير لحالتنا المتكررة ولذلك هو زمن دوري يقر في سباته ولا يعي شيئا عن الزمن التراكمي الذي يحرك البلاد والعباد نحو الامام.
- نحن في لعبة من الحياة مريضة جدا وتكاد ان تتعفن او تتحنط في مشوار وجودها اجتماعا وسلطة وطريقة تدبير..
- ما نراه من وجود ظاهر هو بالحقيقة نفاد صلاحية وجود ونفاد موارد وجود.
- انفصام حاد بين ما نتحرك فيه ولأجله تحت عنوان الدولة وبين سكون وجماد تلك اللعبة التي تتمظهر علينا بالنظام وهي تستبطن فينا عبث الدولة وعبث نظامها الحيواتي ..
- كل سلطة هي، بالضرورة في هذه الدولة، غاشمة تلعب ضاحكة ومدمرة لكل مواطن وثروة.
من هنا سوف نتبين شكل ونوع الخطاب المكسور في ذواتنا من جهة ونوع دلالة ذلك الخطاب الذي ينعكس على يومياتنا في السلوك والقرار من جهة ثانية. الامر الذي يجعلنا نعيش على حافة قيمة واعتبار منكسرين في كل شاردة او واردة في حيواتنا وظروفنا وعلى نحو ما يمكن ان نستنتج ذلك في:
- طريفة التفكير الاحادية. الطريقة التي يجتمع عليها كل المواطنين في البحث والرحلة واللعبة والمواقف.
- افكارنا الآسنة هي المرآة التي يتحرك من خلالها سلوكنا الحاضر وفي هذا مدعاة للانفصام الهوياتي اذ ان مستلزمات الحاضر لا تتناسب وتفكير او افكار الامس.
- نحن هويات مبتورة الوجه: هويات متفرقة منغلقة وبذات الوقت محصنة بالعداوة المفترضة نتيجة الخوف من انفسنا من جهة، والخوف من غيرنا في ميدان لعبة الرحلة من جهة ثانية، والخوف من مستقبلنا في هذه الدولة/ السيارة.. من جهة ثالثة
- نحن في رحلة فقدان الهوية العامة.
المرض السادس: الراديو والهوية
على أكثر من فكَ شرس يريد ان يلتهم المجتمع والدولة كان العرض المسرحي: وين رايحين قد وضع رحلته. كان يعيد صورته في مرآة الدولة كلها فينعكس دائما في عمق وسطح تلك المرآة: الاعلام/ الراديو والخطاب/ التناحر بين الرغبة في المدنية وبين طغيان التدين وبين حراك السلطة الذي يقدم الدولة كل مرة أضحية وقرابين فداء للقتل والجوع والتدمير.. نستعرض ذلك من خلال:
- الموارد في لعبة من الهدر مستمرة.. وصولا الى لعبة أخطر هي نفاد الثروة.. نفاد الاقتصاد.. نفاد وقود الرحلة الذي من شأنه ان يكون سببا لنفاد وجود الدولة..
- اشعار الجميع: الممثلون: شخصيات العرض. الجمهور المسرحي في امتداده الجغرافي والخطابي مع الممثلين. الدولة في المجمل و العموم.. اشعارهم المستمر انهم في مواجهة مصيرية مع توقف السيارة/ الوطن/ الدولة برمتها. بل الاكثر من ذلك هوية الدولة ايضا.
- تقنع السلطة/ السائق اطياف المجتمع انها مهددة بقلب السيارة او الوطن رأسا على عقب وهي بذلك تهددهم بالموت مالم يساعدوا السائق في ادامته على قيادة السيارة. مالم يسعدوا السلطة على ادامة بقاء اسلوبها في قيادة الدولة.
- الدولة وصالة العرض وكل الممثلين على الخشبة يعانون من مجهولية الرحلة. لكن التوقف عندهم أشد وطأة من تلك المجهولية بل أكثر رعبا عليهم كمصير ومسير.
- تسخير المجتمع لإرضاء السلطة/ السائق مطلب بقاء ووجود الرحلة.
- المشكلة ليست في بوصلة الرحلة. المشكلة الرئيسة في بوصلة الخطاب او الهوية. لذلك جاء التناحر في كيف سيكون وجه الدولة: مدني او ديني. ولأنهم لم يستطيعوا تحقيق ذلك الخطاب وتحديد وجهته في بناء الدولة بقيت السلطة تلعب على مفترق تلك اللعبة في ضياع الخطاب والهوية. الامر الذي استدعى ان تكون مفردة الراديو معادلا للإعلام الذي يوجه الدولة كلها. وانقسم هذا الاعلام على قسمين متنافرين: اعلام يريد الغناء وهو تعبير مجازي عن مدنية الدولة واعلام يريد القرآن وهو تعبير مجازي عن دينية الدولة. الامر الذي توسط الوضعين المتناحرين كان عن طريق الاخبار: انباء السلطة حصرا وقد تميز ذلك من خلال:
- السلطة هي اللاعب المركزي والطاغي هوية وخطابا.
- اعلام السلطة هو الموجه الاساس لخطاب المجتمع ومسيره وجودا وقضايا ومواقف واحداث..
- الاستعانة بالتداعي الصوري عن طريق الداتاشو او الصوتي عن طريق الاخبار التي بطبيعة الحال تؤكد تداعي تاريخ الدولة من حيث تاريخ سلطاتها المتكررة والنمطية في طغيانها او استبداها في رحلتها.
- بين عطل الاعلام وعطب شخصيته وهويته وبين تحقيق واستغلال ذلك العطب من قبل السلطة نزلت الاخبار نزول مصير واحداث ووقائع محمومة بالثورة والانقلاب والحرب والضياع: تاريخ الجمهورية وحدث 14 تموز والحرب الاولى مع ايران والحرب الثانية في غزو الكويت.. وامتداد تلك الاحداث يعادل امتداد ضياع الخطاب ايضا وتعقيد او اغلاق مسامات الهوية من نفاذ الهواء الوطني اليها وانعاشها ثانية ازاء مواجهة كانت الدولة برمتها هي الخاسر الاكبر.
- الدولة مجرد حقب وتحولات لا طائل منها غير المزيد من دمارها.
- اختزل التاريخ الحديث كله بصوت الراديو وبعض الصور من الداتاشو يعد اختزالا مأساويا وضاحكا على الصورة المتكررة منه في الدمار والضياع.
- اعادة مفهوم السلطة الى الواجهة كأساس للهوية والخطاب. وهذا ما جعل المخرج ان يعيد الدور السلطوي الى الواجهة من خلال الممثل (طلال هادي) بوصفه المتماثل مع السلطة وبوصفه قائدا اوحدا لرحلة: رحلة الدولة في الخراب والمجهول مثلما هي بالأساس رحلة الضياع والقتل والتجويع والتدمير.
- الخطاب الكلي للدولة والند الحقيقي لها تمثل بخطاب السائق/ الممثل طلال هادي وكان الخطاب المواجه والند الاقوى في الحضور والارادة والذي بلغ مراده من حيث بلوغ سلطته على طاقم وافراد الرحلة في السيارة والطن على حد سواء.
- استمرار تلذ السلطة بعذابات المجتمع من خلال استمرار اعادة تدوير مأساة ذلك المجتمع وقد تميز ذلك في:
- تلذذ السائق/ السلطة بعذاب الام المفجوعة بالابن والزوج نتيجة قتلهما في حروبه العابثة..
- تلذذ السائق/ السلطة بعذاب رجالات المجتمع وقهرهم بأمراض تلوث الدولة: امراض السرطان وضياع او فقدان الاهل وتكوين الاسرة. او الخلاص من المرض بالعافية المؤجلة بل والمفقودة هي الاخرى.
- تلذذ السائق/ السلطة بتصفير ذاكرة الفتاة من جمال الطفولة وجمال الامان لا لشيء الا لكون تلك الفتاة من اقلية اجتماعية من اقليات الدولة.
- اللعب والتسلية مدار السلطة على المجتمع وهو ذاته مدار القتل والخراب..
ولأن ذلك جرى فنيا بلعب واداء لاعب ملحوظ من قبل الممثلين والتلاعب داخل التمثيل بين الصدق المباشر والايهام غير المباشر نلحظ ان صور الاحتجاج التي دفع بها المخرج الى كادر الاداء من جهة، والى مشاهدي العرض المسرحي من جهة ثانية، والى مفهوم الخطاب الممروض والمكرر بالموت والتعفن حد القرف من مسير احداث الدولة كلها من جهة ثالثة. نلحظ ذلك متجليا من حيث:
- الاعلام جهوي لا يخدم الا السلطة.
- الصراع ما بين مدنية الدولة ودينية الدولة منح السلطة قدرة التحكم بالمجتمع وقيادة الدولة. وهذا ما جعل السلطة احادية ومصدر فساد وتدمير للدولة.
- الدولة موضع خراب وقهر مستمرين.
- لا منجى لاحد من موت وخراب الدولة في كل حدث او موقف او حقبة او وثيقة..
هذ يعني ان الخطاب الدائم وعلى هذا النحو يعد خطابا فاعلا في:
- كسر بوصلة الدولة وضياع متجهها. وهذا دفع الى تأثيث عنوان الرحلة بمسمى: وين رايحين.
- الهوية لرجل السلطة حصرا، وعلى الجميع التخضع له والقبول به كقائد أوحد لمسير ومصير الرحلة..
- الاحداث والوقائع صورة من صور قيمة الهوية المنكسرة وتعبير عما تفرزه تلك الهوية المنكسرة في السلطة والمجتمع معا وما تؤدي به من مجهولات في الرحلة والعيش والامان..
الظل الدموي/ الثالث المضمر
ثمة نحن وأنت وثالث يطارد الرحلة. ثالث يشبه الظل ولكنه لا يظهر ابدا كرديف او تابع لأي من الاثنين. لا نحن ولا أنت: ذلك الرديف الذي يختبئ وجوده فينا ولا ندري به. وقد عالج ذلك المخرج ابتداء من حيث تقسيم الدولة الى:
- سلطة/ أنت السائق
- الشعب/ ركاب السيارة
وسوف نلحظ ان ثمة اختزال ثلاثي في هذه المعادلة وقد اتضح ذلك الاختزال من خلال:
- الام: حين طلبت منها السلطة ان ترقص على مذابح فقدان الابن والزوج بمعارك تلك السلطة. هي الام المعادل للشعب في تمضية رحلته وموافقته على الحاكم/ السائق ومشروع السلطة في القهر والتدمير.
- السلطة: العزف على وتر الضحايا من أجل ادامة زخم السلطة.
- المفارقة: هي المضمر/ المستتر من جراء اللعب بين الشعب/ المجتمع والسلطة/ السائق. ذلك المضمر الخفي الذي خرج وحشه فجأة على شكل مجزرة سبايكر المعروفة.
نكتشف هنا ان المرض العلائقي التقليدي ما بين السلطة والمجتمع والذي عبر عنه المخرج بمعادلة واضحة: الدكتاتور النمطي والمجتمع الخنوع الذي تقبل ان يرقص له وملء فمه دم ابناءه. نكتشف هنا ايضا ان الصراع الايديولوجي للتعبير عن توجهات الهوية تم حسم ملفه لصالح الخطاب الديني المتطرف. تم ذلك طالما ان طريق الرحلة كانت معبدة بالقهر والجهل والحرمان والضياع. طالما ان مشروع المدني والتجديد والتنوع لم يصمد امام مشروع الديني المتطرف. طالما بقيت اغاني الذات العابرة للهوية الصغرى تعد اغاني لا مقر لها في الذات الاجتماعية بل لا مقر لها في خطاب الدولة التسلطي المطلق.
ومن رحم ذلك المطلق بدأت انحراف الرحلة تتجه نحو الانكماش السلفي في مسك زمام السلطة. الامر الذي تم تدويره على المجتمع تم بشكل وانموذج السلفي التاريخي الذي يتخذ من الشكل الديني المتطرف والمنقوع بالرؤية الاحادية والمتجاوز في صلاحيته لكل تنوع واختلاف وتعدد ثقافات وايديولوجيات. هنا كشف المخرج حقيقة صادمة:
- ان السلطة الديكتاتورية لا تعرف او تعترف الا بذاتها ولما طغى المد الديني واخترقت الرحلة بداعش تخلت السلطة عن التزامها بقيادة الرحلة. قيادة الوطن الى بر السلام بل الأشد من ذلك تم تسليم السلطة للعنف المضمر: داعش تسليما تاما مقابل هزيمتها وانسحاباتها من الالتزام والمسؤولية الوطنية والتاريخية وهذا مقدر بالنتيجة. ان في نهر ذلك المد العنيف بوصفه القوي الغالب والمعادل الفائز
- وجد المجتمع/ ركاب سيارة الرحلة/ مواطنو الوطن انفسهم بلا سلطة. بلا حماية سياسية او وطنية مما دفع الظل الثالث المضمر في المجتمع ذاته والسلطة ذاتها ان يعلن عن نفسه كوحش متطرف يريد اقتياد السيارة/ الوطن الى ماضي الدولة حصرا. الى مستنقع ذلك العنف الديني كخطاب اوحد لا يقبل التنوع او الاختلاف. لا يقبل الا بصورته الواحدة والمطلقة في مرآة وطن متعدد الثقافات. وهذا ما جعل الخطاب والاحتجاج يجريان في بركة آسنة من التسلط السلفي المؤدلج بالتدين العنيف والاحادي.
- هكذا تمت الصفقة وظهر الظل الدموي المستتر فينا ليعلن عن نفسه سلطة وخلاصا وبعنوان التدين الحق. هكذا ظهر طالما ان مسوغات ظهوره كانت فاعلة ومخصبة له ومنها:
- الاسلوب النمطي المتكرر للمجتمع والسلطة في ادارة شونهم والدولة.
- السلطة احادية حصرا.
- مجتمع احادي الرؤية.
- ذكورية السلطة وانثوية المجتمع.
- شخصنة الدولة بالسلطة.
- الخطاب التداولي للدولة تديني او على الاصح متمظهر بالتدين.
- الهوية منكسرة ومشوهة وغير واضحة المعالم في مرآة الدولة.
ان اعادة تكوين الدولة وفض مشكل خطاب القهر والموت التديني على حساب السلام والوئام الوطني مدنيا تمت معالجته بوثيقة اخبارية او مرئية عن طريق عنوان الظهور الملفت والسريع والمسمى: الدستور، كذلك العنوان الملفت مرئيا بمسمى الانتخابات. هنا نتبين الشد التديني المتطرف الذي تمت ولادته من المضمر السلطوي والذكوري للدولة منذ الاف السنين والذي يتوشح بالتطرف تقابل بشد آخر معنون بالوطني. معنون بكسر احادية الخطاب الى تعددية الخطاب. وبالتالي ان ضريبة ذلك التحول هو في الشد العنيف الذي بالغ به التطرف التديني من اجل كسر مرآة التعدد الوطني. وهذا ما جاءت معالجته مشهديا من خلال حدث التذكار للفتاة/ زهرة بدن والذي افضى الى مخرجات كانت على شكل:
- قتل الاقلية المغايرة
- سبي واغتصاب نساء تلك الاقلية
- محو تاريخ ذات الجماعة المختلفة من حيث نحر وجودهم الانساني والتراثي والاعتباري..
ان الفعل الديمقراطي كعلاج لفض مشكل:
- النظام الدكتاتوري
- التطرف التديني: ولادة الظل الدموي الذي يلازم مجتمع الدولة منذ قرون طويلة.
هذا العلاج مازال جنينا يريد ان ينبض بالحياة والسلام معا ولكن ايضا مازال يئن من تناضح جراحات وعذابات قهرة لقرون طويلة. وهذا التفاوت بين ما يريد وما يتناضح عنه من خوف وألم قد جعله مضطربا غير متزن، يدفع ثمن وجوده بثمن تراكم ظله المستتر والملازم له: ذلك الظل الدموي الذي يتفجر به ويفجر الدولة منه كل وقت وعلى فرض دمار شامل..
وهذا لا يعني ابدا ان رحلتنا التي تتراءى كأثنين في مسيرتها: نحن/ المجتمع وانت/ السلطة لا يعني ان ذلك الظل الثالث الذي يسير دائما معنا بل فينا وداخل انفسنا ومعنا كل وقت في اسلوبنا، لا يعني اختفاءه، موته او رحيله. بل هو باق معنا، متلازم فينا، نتنفس طغيانه وشراسته وبدائيته كالهواء، ويجري في عروقنا دما اسود طالما ان رحلتنا الغريبة تتخذ ذات السياقات وذات الخطاب الذي لا يراعي فيها لتحول او تبدل في الهوية او تبدل في الخطاب.
وبالعودة الى اليومي من وجود وحيوات المجتمع سنلحظ ايضا حركة ذلك الظل الدموي فينا. وبالعودة الى التفاوت بين عمر مرحلتنا البشرية في الاسرة والمجتمع والدولة وبين رحلتنا المتقهقرة فينا سنلحظ ايضا ذلك الظل الدموي فينا. وبالعودة الى ذاكرتنا من خلال فعل الفتاة/ زهرة بدن والمعادلة المقلوبة والمعكوسة بين طرفين: الدار في اول تهج لحرفيها ( دا ) والعمر الذي تهدره السنوات الراكضة بعددها ( 21 ) سنلحظ ايضا ذلك الظل الدموي. وبالعودة الى ذل الرحلة التي اختصرها المشهد اليوم في باص ( التاتا ) الذي لا يراعي فيه احترام لذات او مجتمع نلحظ ايضا ذلك الظل الدموي فينا. وبالعودة الى الام/ زهرة بدن ونزول صواعق الفقدان القاتلة فيها سنلحظ ايضا ذلك الظل الدموي فينا. وبالعودة الى حامل التماثيل/ لؤي احمد وخساراته في البدن والكرامة والاسرة سنلحظ ايضا ذلك الظل الدموي. وبالعودة الى السائق/ طلال هادي والذي اراد ان يلعب تمثيلية على نفسه ومجتمعه في تمثيلية العرض المسرحي او الدولة عامة وهو على شفا حفرة تصديق ما لعب من دور قاتل ومريض حد التدمير لذاته ومجتمعه ودولته سنلحظ ايضا ذلك الظل الدموي وبالعودة الى الارهابي الداعشي/ اياد الطائي وهو يتأطر بكل ذلك التطرف التديني كأسلوب حياة وقيادة مجتمع سنلحظ ايضا ان الظل الدموي له وجه وشكل واسلوب وجود وادارة وتدخل مميت في حيوات الدولة.
سنلحظ ذلك واكثر طالما ان مخرجات تلك المشاهد وهي لعبة العرض التي يراد منها تبيان لعبة المجتمع والدولة كافة ستخضع الى ضرورة وقوع:
- الذل الذاتي
- الذل المجتمعي
- الذل الهوياتي
- الذل في الخطاب
- الذل في اليومي من العيش
- الذل الاسلوبي في ادارة الذات والمجتمع والدولة.
من فعل بنا كل هذا الجحيم
ان تعرض تاريخ دولة دفعة واحدة في عرض مسرحي تساوق فيه القديم مما وقع على تلك الدولة والحديث مما وقع ويكون الفن المسرحي بذاته وثيقة ودليل تاريخي يدون ويسجل كل حلات وتحولات وحروب ومجاعات واختناقات في المشهد الاجتماعي والسياسي والهوياتي لا لشيء الا ليذكرنا ان رحلتنا المرعبة مازالت على سكة طريق مرعبة ومازالت في المجهول من مصير ومسير.
هنا اختلط في هذا العرض:
- ما هو فني تفترضه الخشبة المسرحية بما هو واقعي تسجله الوثيقة التاريخية.
- الماضي – الحاضر – المستقبل: مسير مأساوي يدمي ويفكك كل مكونات ومقومات الدولة.
- تساوق ما يحدث في اليومي للمجتمع مثل باص التاتا وذل الطريق المتساوق مع ذل الوطن كناية ومجازا..
- تساوق بين الشخصي العادي في مهنة السائق لباص التاتا ومجتمع ذلك الباص. بين السلطة بالمقابل والاشمل وبين المجتمع..
- تساوق بين جيل تداعي في المشكلات القاهرة والحروب المدمرة وجيل آخر يعاني ذات ما عانى من قبل.
- في مشهد السبورة: الدرس المحصل من ذلك المشهد يمكن تبيانه في:
- انقطاع الذاكرة على مستوى الفرد والوثيقة والدولة.
- انقطاع العمر، عمر الدولة كله على مستوى الفرد او الشخص الواحد ومستوى الجماعة الواحدة ومستوى المجتمع الواحد وصولا الى مستوى الدولة والواحدة. اقول انقطاع العمر وتسلسله وما يكون في العرض من اقتطاع في العمر بين طفلة ودرس وبين فتاة وضياع وقهر. هذا يدفعنا الى تصور القطيعة المرعبة التي عانى منها الفرد والمجتمع والدولة ايضا.
- انفصام حاد بين تذكر سعيد مؤقت وبين تذكر حزين دائم. وهذا ينعكس ايضا على كل مجريات وتفاصيل يوميات واحداث كبرى يمر بها الفرد والمجتمع والدولة.
- نحن: الفرد. المجتمع. الدولة. نشخصن السلطة: ان عبارة: ( عاش القائد ) هي وضع الشخصنة الدائم للدولة وبالتالي سيكون القائد/ السائق/ السلطة مركزا اوليا متعاليا بينما يكون كل شيء بعده في الهامش والاضمحلال والذل والقهر المميت..
- اللعب في الاداء الكاريكاتيري من قبل/ زهرة بدن ( ممثلة ) كان احتجاجا ضمنيا مثلما هو كان تغريبا مقصودا عن رحلة التذكر وانقطاع العمر ورحلة مسير المجتمع والدولة وانقطاعهما عن كل فرد او كل طفولة.
- لا فرق بين احتراق العمر، دارا او سنين عددا، وان التفاوت الملحوظ في الظاهر بين احرف الدار ( دا ) وبين جيلين من الحرب والفوضى: ( 21 ) انما هو ملتقى لضياع العمر والوطن على حد سواء.
لقد راهن المخرج بعد استعراضه لما حدث بالحقيقة ولما حدث بالفن المسرحي افتراضا دراميا منه. راهن على ضرب ظاهر ما حدث بباطن ما يحدث. بل بباطن ذلك المكبوت والسري الذي يتراكم فينا فنا وحقيقة ووثيقة وطريقة خطاب وهوية ملغومة بالخوف والجريمة. راهن من حيث:
- مثلما فتح نافذة المفضوح من سلوكنا استوقف الفني من الوثيقة. استوقف العرض برهة ونقل الحدث من الافتراض الدرامي بكل ايهاماته وشفراته الى الحدث التواصلي في مجتمع العرض ( الجمهور ) بل الابعد من ذلك قصدا هو مجتمع الدولة. نقل ذلك لا لتوريط الجمهور المسرحي او توريط مجتمع الدولة فنيا لأغراض اللعب والتشويق بل نقل المرآة من ظاهر ما يحدث الى السري والمكبوت بما يحدث.
- اذن، توقف الاداء وتم حجب كادر العرض المسرحي الفني من الظهور او اللعب الدرامي وبمثل ما سقط الظلام على الممثلين سقط الضياء على المشاهدين وتم تبادل الأدوار، وهو ايضا تبادل في الاتهام وتبادل فيما تعكسه مرآة الضمير المجتمعي وكشف ذلك التبادل بفتح الظرف الذي تم توزيعه قبل بدء العرض المسرحي الفني.
- نلحظ ان كل فرد هنا من الجمهور هو ظرف مغلق ينبغي الان – وبتوريط فعل المكاشفة فيه – فتح الظرف. فتحه من قبل افراد الجمهور. تم الكشف عن ذلك المضمر في خراب كل فرد من افراد الدولة وكل مجتمع من مجتمعاتها بمجرد قبول ذلك الرهان. قبول الجمهور فتح الظرف الذي هو بالحقيقة فتح مرآة الذات وتبيان صدق ما تضمره الان واما العالم ليتضح للجميع كوثيقة سرية ذلك المضمر الذي من شأنه ان يكون قنبلة دائمة التوقيت بالتدمير والخراب.
- نحن والظرف واحد. عملة بوجهين لا اكثر والموجود في الظرف والذي تم اعلانه هو ذاته:
- المشهد المستتر فينا.
- الوثيقة الجوانية التي تبرر لكل وثيقة ظاهرة تقع في سلسلة من احداث لاحقة فيما بعد.
- مضمون الظرف: نحن الظل والجحيم الذي نضمره نحن من نعلن عنه ونتكاشف به.
- الجميع على حد واحد من الاتهام.
- الجميع ولود بذلك المستتر الذي من شأن كل جيل او حدث فيه ان ينقلب على نفسه بالخراب والتدمير والقتل والتهجير.
هكذا صار المجتمع على مرأى من نفسه بوثيقة مزدوجة: هو يرى نفسه في الظاهر لما وقع به ومنه وعليه من احداث ولما يقع فيه بالكبت من انشقاق وانقلاب وتدمير ذاتي. وهذه الفضيحة هي وثيقة كشف موضع الجحيم الذي نعانيه جميعا وفي سيارة نقل او وطن واحدة.
هذا الامر الذي استدعى الاحتجاج والمناهضة واعادة العرض الفني لا بافتراضه الدرامي بل بصرخته المناهضة لكل تلك الوثائق المدمرة وجاء مشهد رفع الكراسي وقلب اوضاعها ردة فعل لما تركته السلطة من:
- انشقاق مجتمعي ملحوظ.
- حروب مدمرة
- تجويع وتشريد
- انفصام حاد في الهوية
- القطيعة الحادة بين افراد وجماعات المجتمع والتي ولدت عبر المكبوت منها كراهية وعنف شديدين.
جاء ذلك برفض تدوير العذاب: وان تمضي رحلة الدولة نحو بوصلة مغايرة. بوصلة السلام والوئام، سياسيا او اجتماعيا او هوية وخطابا. وهذا العرض الذي هو ملحق عرض فني يؤكد لنا انه عرض فني آخر. انه بداية تاريخ آخر. انه انقلاب على الذات المريضة بجعة أمل في العافية والسلام. جرعة أمل بصدق ظاهر الذات مع ما تستبطن. بجرعة دولة كريمة لا ذل فيها ابدا بل كل ما فيها سيكون مثلها معنونا بالحب لا اكثر.