إشارة:
في ورقتنا هذه ولمناسبة قرب بدء فعاليات مهرجان (ينابيع الشهادة) المسرحي بدورته العاشرة الذي تقيمه نقابة الفنانين في محافظة بابل/العراق وكذلك مهرجان (الطف المسرحي) بدورته الرابعة من قبل نقابة الفنانين في محافظة النجف يمكن أنْ نقف عند واحد من العروض المسرحية التي حققت لها حضوراً فنياً مؤثراً في المهرجانين آنفا وفي آخر دورتين لهما والأمر يتعلق بعرض مسرحية (اللعين) من تأليف الفنان الدكتور (حسين علي هارف) وإخراج الفنان (جواد الساعدي) ومن تقديم نقابة الفنانين في محافظة صلاح الدين، وحيثيات هذه الورقة تتجه نحو العرض الذي قدم في الدورة الثالثة لمهرجان (الطف المسرحي) دورة الفنان الراحل إحسان التلاّل بتاريخ 19-7-2023
عن النص:
يتبدى نصُ المؤلفِ الدكتور (حسين علي هارف) وفقَ الإعتمادِ المباشرِ على آليةِ السردِ المترافدِ ووفقَ تراتبيةٍ تصاعديةٍ تتبنى العلنَ في البوحِ وإظهارِ المخاضاتِ التي صارتْ تتراكم وتتفاعلُ وتعتملُ في دواخلَ ما وُصِفَ ب(اللعين) وقد إرتأى المؤلف بعدم ذكر إسمه في تعويل منه لأنْ تنهض الذاكرة الجمعية وتكون فاعلة من عندياتِ الجمهور/ المشاهد/
والقارئ لهذا النص
ويبدو إنسياقُ المؤلفِ نحو (المونودراما) سيجدُه اكثرَ إنسجاماً وهو يتعاملُ مع هكذا موضوعةٍ لها من الوقعِ الناجزِ والثابتِ لدى الذاكرةِ الجمعيةِ سيما وأنّه يستهدفُ إظهارَ تلك الدواخل المتفاعلةِ والمضطرمةِ وفي نفس الوقتِ لتشكلَ بمجموعِها كتلةً تكادُ تتشظى رغم إنبثاقِها من مصدرٍ واحدٍ محددٍ ومشخصٍ وكما تُنبئنا به تفاصيلُ السردِ والإشاراتُ التي اوجدَها باعثُ النصِ ليحددَ ويعطي من ملامحِ وصفاتِ ذلك (اللعين) وكيفية إقترافِه لذلك الإثم الشنيع بعد أنْ مارسَ عمليةَ القتلِ العمدِ ويعلن عن نفسه كما ورد في السطر الأول من البوح الثاني(انا قاتل، أعترف لكم أنا قاتل، بل أشهر قاتل في التاريخ، وجريمتي هي الأقذر والأبشع والأكثر خلوداً)
ويمضي المؤلف في تقريب تلك الشخصية من خلال ما بدا عليها من تداعيات وتذكرات اسهب فيها (اللعين) وهو يزجي بتذكير الجمهور/المشاهد بحيثيات الإثم الذي إقترفه ليكون لاعناً لنفسه ولما قام به
ويبدو على مقدرات هذا النص أنَّ المؤلف قد إنساق وربما ساير ذلك التقعيد العاطفي بتعامله حين أبرز لنا من صفات (اللعين) وهو بتوصيف الذاكرة يمثل (الشمر ذي الجوشن) فشاهدنا غياب ملامح تلك الشخصية الدرامية وفعلها المؤثر فذاكرة التاريخ تقول لنا بقوة هذه الشخصية وحدةِ فعلها وعدم تهاونها مع ما يحيط بها عند إقدامها على ذلك الفعل الرهيب في القتل والسلوك
وهنا يجدر بنا ان نكون مع التساؤلِ الأهم وهو: “متى يتم التحرر من عوالق الذاكرة وبكل ماتحمل من تبعات العاطفة والتاريخ والتقعيد الشعبي والديني وينظر لتلك الشخصية بكل ماتحمله من فواعل درامية بحضورها الملحمي وبتجرد موضوعي قوامه الفن والتعالق المثمر مع شواغل المخيلة والإشتغال الفني الرصين؟”
عن الإخراج:
أراد المخرج ( جواد الساعدي) في مقاربته الإخراجية لنص (اللعين) أنْ يتبنى بنية الفضح والنقد فسار الى تشطير الشخصية الواحدة وجعلها تتمظهر بلسان عدد من الشخصيات ويضاف لهم شخصية (المسخ) اللاعب والماسك بأدوات إنتاج القبح وعبر فرضية إخراجية تواصلنا معها عبر ملفوظ لغوي على لسان الشخصيات المنشطرة وملفوظ بصري حركي ساهمت سينوغرافيا العرض في دفعه لأن يكون واضحا ومهيمنا بمفردات بصرية تمثلت ب(قدور الطبخ-منبر الخطابة-الإطار الأسود-الشبكة المتدلية-الجُحُر أمام المسرح-قناني البيبسي التي تدلت من سقفِ المسرح-الإبر والإسرنجات- الأعمدة، يضاف إلى ذلك مشاهد الصور الفلمية التي تعكس بعضا من واقعة الطف-وغيرها)
يرافقها إستثمار لدور الإضاءة وبالذات اللون الأحمر الذي هيمن بوجوده على أغلب مادار من أحداث وأفعال داخل متن العرض فضلاً عن المؤثرات السمعية أصوات الدراجات النارية وأصوات إطلاقات الرصاص من أفواه المسدسات التي تُحيلنا إلى مشهدية حديثة وساخنة حصلت بما يعرف بعمليات التصفيات الجسدية بحق الكثير من المتظاهرين أثناء وبعد أحداث إنتفاضة تشرين العراق 2019 وهذا مايتعزز تأكيده بنزول تلك الدمى من سقف المسرح والتي أوحتْ لنا في بادئ الأمر وكأنها رؤوس تتدلى وحين نزولها أكثر إلى حضن المسرح ظهرت لنا أنَّها قناني البيبسي في إحالة الى أحداث تشرين وكيف كان يُعالج المتظاهرون حين تصاب أعينهم بدخانيات قوى الأمن فالبيبسي كان العلاج الناجع لدى المتظاهرين في ساحات التظاهر التي إنتشرت في العديد من محافظات الوسط والجنوب في العراق
وتبدو بنية القبح متوالية وعلى مدار ومخاضات هذا العرض إذ اخذت لها حيزاً وافراً منذ بداية الفعل المشهدي حيث تمت عملية الولادة والتناسخ ليكون (المسخ) محصلتها الكبيرة ويبدو الماسكَ والفاعلَ الذي يدير دفة اللعبة المسرحية برمتها ويبدو مهيمناً بحضوره الذي يكاد يوازي مفردات العرض رغم هيمنة وجودها فصار يوزع من خلاصات قبحه حين اخذ ينقل ابر وحبوب التخدير من بطن الإطار الاسود الى إلى داخل القدور وهذه العملية تُحيلنا إلى كيفية إستخدامها من قبل المدمنين على المخدرات والمخرج (الساعدي) يعلي من عملية الفضح والنقد اللاذع إزاء العديد من حلات الإنحراف في السلوك والقيم المجتمعية والدينية التي بدت تظهر على سطح الواقع المجتمعي في العراق
وتبدو نباهة المخرج فاعلة في إستثمار مفرداتٍ ذات وقع تفاعلي عند الجمهور وفي جعل ذاكرته مهيأةً للتواصل المثمر في عملية التلقي، فمفردة الإطار الاسود جعل منها تذهب في تأولين الأول في رمزيتها وكيف كان إستثمارها من قبل المتظاهرين في إحتجاجاتهم والثاني يذهب إلى نقد دائرية العمامة حين تخرج وتشذ عن فعلها القيمي والديني الصحيح، والمفردة الأخرى هي قدور الطبخ والتي تعطي لزخم واقعة الطف بعيداً آدميا إذ يتناخى هنا برمزية البذل العطاء الإنساني المستمر، وايضا بتواصل مفردة الاعمدة والتي تشي بحركية تتأصل بالديمومة والإستمرار وفعلها الدلالي في طريق المشاية الى كربلاء
وتكمن رجاحة هذا العرض في إعتماد الشكل الصوري ومن دون مبالغة ومغالاة في إيجاده فرغم طغيانه فإننا نجد للجسد الآدمي من قبل الممثلين بعده الذي حضر بموازاة هيمنة التشكيل الصوري فواحدية الصوت كما في نص الدكتور (حسين علي هارف) نجدها وقد تناثرت في ملفوظات الشخصيات التي اوجدها المخرج فرحنا نسمعها مع خطابية الراهب(عبد حبيب الخفاجي) وايضا بلسان(امجد نبيل) وبزي معاصر والذي بدا بتأوهات المخدر وهو يبوح ويتلوى ليدخل مع السائرين في طريق المشي في المشهد الختامي وايضا شاهدنا الرجل المرائي الذي يخرج من بطن القدر(لقمان فرحان) يماثله في نفس الفعل والنيّات (كرار أحمد) يشاطرهم في الحضور والأداء المؤثر المخرج نفسه وهو يؤدي دور المسخ وبحضور ادائي وجسدي لافت منذ أنْ خرج من جحره في مقدمة المسرح مع بداية العرض ويعود إليه في نهايته
ورغم توجه المخرج (جواد الساعدي) في عرضه هذا نحو الفضح والنقد وتسليط الضوء الساطع على العديد من الممارسات المدانة كالقتل العمد والقسوة بحق الجسد الإنساني إلا أننا نراه وفي المشهد الختامي قد جعل الجمهور أمام تأويل وسؤال عن كيفية النهاية التي ينتهي إليها رهان (اللعين/المسخ/القبيح) حين جعله يدخل مع جموع المشاية؟!
ولنا أخيراً أنْ نقول من الثناء على دور السينوغرافيا في هذا العرض ومن قبل مصممها(علي حيدر سهيل) وأيضا الى مصمم الإضاءة(أحمد الغزالي) والى منفذ الموسيقى والداتاشو(أحمد الحسيني)…