(فضاء المسرح يتشكَّل من باب يرسمه مسقط ضوئي يستقر في أعلى المسرح.. وفي الزَّاوية اليمنى شبّاك.. أرضيَّة المسرح فارغة إلَّا من شجرة لوز ليست تقليديَّة بل تُصمَّم من الخشب لتترك فضاءات متنوِّعة للعرض.. جذعها العريض يطلُّ منه بابًا ستستعمله الممثِّلة أثناء العرض.. بينما الأوراق والأغصان تشكِّل مربَّعات ومستطيلات شبيهة بالشَّبابيك.. بعضها يعمل بنظام “السلايد” في الحركة والحالات).
(كلثوم الشَّخصيَّة الرَّئيسة في العرض.. امرأة في الخامسة والثَّلاثين من العمر.. نشطة الحركة.. مصابة بلوثة عقليَّة أو هكذا تبدو.. أفعالها تبرِّر لها وتبيح كل سلوك أو كلمات.. تبدو مجنونة وغير مجنونة.. أو طفلة.. يبدو عندها نكوص “العودة للطُّفولة”.. تتذكَّر لكنَّها تلغي ذاكرتها بسرعة.. وتعالج كل أخطائها بالضَّحك.. حتَّى الألم).
(من مسقط ضوئي جانبي وبمستويين يظهر وجه كلثوم الكالح والخالي من الملامح.. شعرها المنثور بغير انتظام كأنَّه منحوت.. ويبدو متصلِّبًا يأخذ شكل الشُّعب المرجانيَّة.. ثُمَّ تفتح الإضاءة على جسدها كاملًا لنجد ملابسها الرَّثَّة..وهي تقف بذهول.. تتحرَّك ببطء خطوة واحدة فنسمع صوت سلسلة حديديَّة.. كلثوم تنظر لقدميها فنجد القدم اليمنى مقيَّدة بسلسلة تمتد ومربوطة بشجرة اللَّوز.. الإضاءة وكأنَّها هربت من كلثوم.. تلحقها وهي تضحك).
كلثوم: لماذا خفتِ منِّي؟ (تضحك) حتَّى الضَّوء يخاف منِّي..(تدخل البقعة) ها أنا ألحق بكِ..(كلثوم تفتح عينيها بكلتا يديها) عيوني أصبحت أصغر من المعتاد.. أكيد.. فالَّذي يعيش في الظُّلمة تصغر عيناه.. يصبح خفَّاشًا.. لا يعرف سوى اللَّيل.. (تجلب خشبة قريبة بطول ذراع وتبدأ بقماطها بقماش)..انقلب النَّوم عندي.. مثل طفل حديث الولادة.. ينام في النَّهار ويستيقظ في اللَّيل..ينام في النَّهار ويستيقظ في اللَّيل (تكرِّرها أكثر من مرَّة بسرعة وتتوقَّف فجأة) حتَّى صار ليلي نهار.. ونهاري ليل.. لا لا.. صارت كل النَّهارات ليالٍ واللَّيالي ليالٍ.. هكذا عندما يُترك الإنسان وحيدًا معزولًا.. فالعزلة ظلمة.. ألبستني ثوبًا أسود.. هكذا الإنسان عندما يُحسُّ بأنَّه وحده.. ولا يجد من يؤنس وحدته.. يصير مثل الشَّمعة نارها برأسها وتبكي دمعًا حارًّا (تضحك ضحكة خفيفة).. اللَّيل.. طويل..(تقطع الكلام) اللَّيل ستر.. “بس ابن حرام”.. عندما تجد نفسك وأنت مُجبر على أن ترافقه.. رغم أنَّك لا تطيق مجيئه.. (تقطع).. كثيرون غنّوا عن اللَّيل..(تغنِّي) يا لييييل..يا ليلي.. يا عين.. أيُّ عينٍ تلك الَّتي ترى كل هذا الحزن.. وتغضُّ الطَّرف عن ضوء يُسرق منها.. لا لا.. لا أريد أن أتذكّر حزني.. معناها تنتهي القصَّة.. وأنا بحاجة لمن أشكي له همِّي.. شرط ألَّا يبكي.. البكاء ذلَّة.. فلنتركه.. (تصفِّق) حتَّى ينتصر الضَّحك.. فالبكاء لا يشفي غليل.. تركني أقفز على قدم واحدة.(تقفز قفزات طفوليَّة كأنَّها تلعب).
(صوت صرير باب.. تنتبه للباب الضَّوئي.. الَّذي يُدفع من خلاله ماعون فيه أكل وخبزة في طبق معدني).
كلثوم: (تضحك) منذ ثمانية عشرة عامًا وأنا هنا يدسُّون لي الطَّعام مثل قطَّة حبيسة.. أكلٌ لا تجرؤ القطط على أكله.. فيه من الرَّمل والحصى ما يوهمني أنِّي أمضغ قطعة لحم.. كفيلة بتكسير أسناني.. ما الَّذي أستطيع فعله الآن؟ (بانفعال عالٍ).. عندي من الكلمات.. الَّتي إذا ما قلتها فإنَّها تتحوَّل إلى ألسنة لهب في جوفي.. نسيت فمي لأنِّي لا أشعر بالجوع.. ومعدتي تقلَّصت وصارت مثل.. مثل.. (تتذكَّر) مثل يدي الفارغة هذه.. أصابعها لا تجتمع.. وصغيرها يخاف من كبيرها.. (تضحك).. أنا أهذي كثيرًا.. أنا.. أنا.. وأتكلَّم بلا معنى.
(تأخذ الطَّبق لتأكل.. تتوقَّف وهي تنظر إلى دمية بدائيَّة الصُّنع مُعلَّقة بحبال في غصن خشبي في أعلى الشَّجرة ومربوط في الأسفل.. وتعوَّدت كلثوم تحريك الدُّمية مثل الماريونيت في كلِّ مرَّة.. وهي تستعين بها لاستعادة ذاكرتها في محاورة أشخاص مرُّوا بها.. الإضاءة تكشف الدُّمية).
كلثوم: (للدُّمية) مريم.. تأكلين؟(تحمل الماعون وتذهب باتِّجاه الدُّمية).. مريم صديقتي..(للدُّمية) أدري أنَّكِ غاضبة منِّي.. ولكن إذا عرفتِ الحقيقة ستعذرينني وسيزول عنكِ كلّ غضب..(تصرخ وهي تنظر للخلف مع كائن مُتخيَّل يمنعها).. وأنت ما دخلك؟ هذه مريم صديقة العمر.. عديلة الرُّوح.. مذ كنَّا صغيرتين ونحن قلب واحد..(للدُّمية) خذي.. كلي.. لا تشيحي بوجهكِ عنِّي.. هذه العينان خلقها لنا الله لنرى فيهما الخير.. وليس أن نصبغ الدُّنيا بسواد الكراهية (كأنَّها تطعمها) همممممم.. افتحي فمكِ..(كأنَّها أسقطت من يدها الماعون)..حرام.. نعمة الله..كيف ترمينها على الأرض! من يرمي طعامًا على الأرض يحرم بطنًا جائعة.. يقولون الَّذي يرمي النِّعمة يقصر عمره.. بل تأكل الأرض عمره..(تضحك).. زين ضحكتِ.. ماذا؟ تضحكين على عقلي؟ طيِّب.. طيِّب..(تنظِّف المكان بمسحه بنفس القماشة الَّتي قمَّطت بها الخشبة وتلتقط ما سقط من طعام).. أنتِ تضحكين على قلبي الطَّيِّب.. ما عادت الطِّيبة تنفع.. ولا نعرف معناها.. القسوة حوَّلتها فينا إلى سذاجة..(تنتبه)أنا خَرِفة.. (ترفع عقيرة صوتها بطريقة النِّساء الشَّعبيَّات) روحي شوفي وجهكِ في المرآة.. وجدي لنفسكِ حلًّا.. نعم.. نعم.. ليس ذنبي أن يحبّني أحمد ولا يحبّكِ.. ولم أبعث إليه ليطلبني للزَّواج ولا يطلبكِ..سافر من أجلي ليحضر لي مهري.. أرسلتِ له أكثر من عشرين مرسال.. لا وأكثر.. مائة.. ولم يرمش له جفن ليرى صورتكِ.. الرَّجل اختارني.. عنده ذوق.. (تبتسم متذكِّرة) عندما التقينا.. جفل.. خاف.. عيناه صارت ألوان طيف واستقر على لون واحد هو.. الحب.. أين يجد امرأة مثلي وبجمالي! (تستدرك) ليس الآن.. عندما كنت شابَّة.. قبل أن يأكل الدَّهر منِّي عقلي..(تصمت.. تمسح دموع كاذبة.. ثُمَّ تحاول البكاء.. تكاد تبكي..تنتبه).. لا ليس وقت بكاء الآن.. أنتِ تغارين منِّي.. لأنَّهم كانوا يسمّونني قنّينة العطر.. وهذه الرِّقَّة.. (تغيِّر صوتها).. وصوتي (تطل من الباب الَّذي يشكِّل جذع الشَّجرة كأنَّها تستقبل أحمد).. أحمد.. راح عمِّي..قبل قليل.. سبقك للدُّكَّان..قال عندما يأتي أحمد أخبريه أنَّني في المقهى بانتظاره..(كأنَّه يذهب).. هل ستذهب؟ هل أخذت ما يكفي من الملابس؟ أخاف عليك من برد الشِّتاء.. ووحشة اللَّيل.. وإذا اشتقتلي.. فقط انظر لأيَّة نجمة في السَّماء.. ستجدني أبرق لك من روحي دفء لم تذقه حتَّى في حليب أمّك.. وستجد حنانًا لم يمطر عليك من حضن أمّك.. لك في كلِّ خطوة سلامة.. لك كلّ النَّسمات ترفعك للقمر.. وطريق مفروش بحدائق ورد.. وبيتك قلبي.. ارجع لي سالمًا أحمد.. أحمد (تصرخ) أحمد..(تركض باتِّجاه سنا ضوء جانبي).. أين رحلت عنِّي؟ لم تعرف قدماك طريقي كي تصل إليَّ.. خذ عيوني كي تبصر.. إنَّ طريق رحلتك خطَّط له عقل قذر أراد إبعادك عنِّي..أيام بُعدك أبكتني كثيرًا.. بكيت حتَّى أنِّي لم أجد في عيني دمع.. وأخاف أن تنطفئ عيني فلا أجد عيني ولا أراك.. (مؤثِّر لصوت غناء بعيد مناسب).. بقيت أبحث عن وجهك بين الوجوه.. فوجدتها متشابهة.. وحَّدها التَّعب وحمّى الفقد.. (تفرك أذنها بإصبعها بقوَّة) كل هذه الأصوات تأتي لتخترق أذني.. وأنا لا أريد صوتًا غير صوتك.. لا ضوء يهديني إلَّا ضوء عينيك..(تضحك) ألم أعاهد نفسي ألَّا أبكي.. وأن أهجر الحزن لأنَّه غبي سخيف يسرق منَّا العمر ببطء.. (تتوقَّف.. تذهب للدُّمية) أحمد.. أنت لا تدري.. (تضحك بعمق) أتصدِّق؟ حتَّى عمِّي.. تبيَّن أنَّه ليس عمِّي أخو والدي.. ولا ابن عمّه.. ولا ابن ابن عمّه.. قال لي (تتقمَّص شخصيَّة العم.. يمكن اللَّعب مع الدُّمية أو حولها).
العم: عندي لكِ سر يا بنت النَّاس.. أنا.. لست عمّكِ.. فقد أنقذتكِ من بيت محروق جاء على أمّكِ وأبيكِ بالموت.. وجدتكِ بعيدًا عن البيت والجروح تغطِّي وجهكِ.. الظَّاهر رموكِ لإنقاذكِ..
كلثوم: لم يفاجئني الخبر.. فقد عرفت أنِّي وُلدت يتيمة.. لا أب ولا أم ولا أخوة أو بيت.. إلَّا هذا الرَّجل الَّذي اعتنى بي هو وزوجته.. (تتوقَّف) لكن.. بعد موتها.. صبغ شعره والشَّوارب واللِّحية بلون أسود أزرق..فصار وجهه كأنَّه جدار له عيون (تضحك).
العم: آآآآآآآآآآآخ.. طولكِ الَّذي يتلوَّى أمامي مثل غزال في مرعى…
(كلثوم تعقِّب مستدركة).
كلثوم: وقتها كنت أطول من الآن.. لأن القهر لا يقصِّر العمر فقط بل يقصِّر حتَّى القامة..(تضحك) أنا قلت جنَّ الرَّجل أو يمكن هو في حلم.. (تكلِّمه) عمِّي لم أسمعك.. ماذا قلت؟ هل تكتب قصيدة؟
العم: قصيدتي تكتبها خطاكِ في عيوني شعرًا.
كلثوم: وقتها قرَّرت الفرار من بين يديه الَّتي بدت لي كأنَّها مخالب وأنياب تريد نهشي وافتراسي.. حتَّى صوته تحوَّل إلى عواء ذئب.. جعلني أحاول التَّخلُّص من أحضانه الجحيم..لم توقظني من كابوسه إلَّا أنفاسه.. كأنَّه يلفظها للمرَّة الأخيرة.. فكَّرت أهرب من بيته الَّذي انتشرت في أرجائه الشَّهوة.. حاولت إبعاده بيدي.. فوجدته يسقط على حافَّة السَّرير الحديد فأغمي عليه.. صار لزامًا عليَّ أن أخرج من خنقة الاتِّهام بقتله.
(تأتي أصوات من الخارج).
صوت 1: قتلتِ الرَّجل الَّذي آواكِ.
صوت 2: الرَّجل الَّذي ربَّاكِ.
صوت 3:أفنى العمر من أجلكِ.
صوت 4: جاحدة أنتِ.
صوت 1: تقتلين أبوَّة الرَّجل الَّذي رفعكِ من الأرض ليضعكِ تاجًا لبيته.
صوت 2: مجرمة أنتِ.
صوت 3: قاتلة.
(الأصوات تدفعها للتَّنقُّل بسرعة بين جنبات المكان.. حتَّى تظهر من إحدى فتحات الشَّجرة خائفة)
كلثوم: أحمد.. أحمد.. أين ذهبت عنِّي.. لا تصدِّق ما أشاعوا عنِّي.. ليس أسهل من الكلام.. والاتِّهام.. إنَّه لسان بدون عظم.. يقول ما يقول.. وحصاده وجوه جافية.. وقلوب بلون الجحود.. كنت تقول لي اللِّسان.. آخ منه.. مقتل الإنسان مخبوء تحت لسانه.. هل لك أن تسمع حقيقة الأمر منِّي؟ لا أظن.. فأنت لم تعد ملاذي.. أين رحلت عنِّي؟ يا ابن الحلال.. لم يبق في دنياي غير صوتك.. فهل تحرمني من كلمة منك؟ أيَّة خديعة تلك الَّتي غيَّرت ملامح صورتي في عقلك؟ أنا كنت أدافع عن نفسي.. فالرَّجل أراد امتهان حبيبتك.. لم يُضعفه تقدُّم العمر فشعرت بذراعيه تطبق على ضلوعي وتضيِّق أنفاسي.. هذا العجوز أصبح بقوَّة ألف رجل.. نبَّهتني رائحة فمه العفنة.. لأستيقظ على رجلٍ ممدَّ على الأرض.. وقدمين تسوقاني إلى مكان بعيد عن البيت.. (تنتبه) صحيح أنا مجنونة.. معقول.. تبحثين عن أحمد الَّذي ابتلعته الأمواج وأبقاكِ فريسة لأنياب ذلك التَّاجر الَّذي يبيع البشر للموت من أجل ملذَّاته! (تبكي) أحمد كان بُعدك عنِّي يدفع بي للجنون.. لكن موتك أصاب الهدف فشلَّ عقلي (تضحك) أنا لم أشاهد في حياتي امرأة أغبى منِّي.. (تعود لكنس البيت وتنظيفه) أحسُّ أنَّ وساخة عقلي تملأ المكان.. أفكاري السَّوداء أحيانًا تهرب منِّي فتصير أزبالًا تملأ الباحة.. وعليَّ أن أنظِّف المكان من أفكاري.. (تصل إلى الدُّمية.. كأنَّها تراها للمرَّة الأولى) ما هذا؟ صنم؟ أم فزَّاعة؟ (تخاف) أمّي.. هيَّا.. اخرجي من البيت.. أنتِ مجنونة أنتِ تحبسين نفسكِ معي في هذا المكان الموحش؟ شجرة لوز وسلسلة وامرأة لا تعرف رأسها من قدميها.. كأنَّكِ تبحثين عن المصائب.. عن المشاكل.. عن الحزن مثل مجنون يحفر بئرًا بإبرة (تضحك بصوت عالٍ) ذكَّرتِني ب “مراد”.. كان يوميًّا يأتي سكرانًا للزُّقاق.. ويتكلَّم إنجليزي (تمثِّل مراد السَّكران).
مراد: Anybody her? I want to fight anyone.
(تترجم) هل هناك أحد يقاتلني.. هل من مبارز؟
I am working in the ship. I have a lot of money.
أنا أعمل في السفينة. لديَّ الكثير من المال.
كلثوم: ثُمَّ يُخرج الأوراق النَّقديَّة من جيبه.. وفلوس الحرام تطير.. طيَّرها الهواء من يده.. سكران.. انحنى لجمعها.. حاول الإمساك بواحدة فجاءت به سكرته وترنُّحه إلى أقرب جدار ليشج رأسه.. وفاض الدَّم.. الَّذي غطَّى وجهه والملابس..فبكى وصرخ.
مراد: ألا يوجد بينكم أحدٌ في قلبه رحمة.. يأخذني للمستشفى.
To the hospital. I am winded.
كلثوم: أخذوه وعاد بغرزات كثيرة في رأسه فقال لهم…
مراد: لو أنَّكم خيَّطتم عقلي.. لكان أجدى.
كلثوم: سألوه لماذا أنت هكذا؟
مراد: عندما تمتلئ العقول.. تفرغ الجيوب.. وأنا عكس ذلك.. كلَّما امتلأ جيبي.. فرغ عقلي.
(تقترب كلثوم بهدوء من الدُّمية المعلَّقة.. تمسك بها لإخراجها).
كلثوم: هيَّا اخرجي من هنا.. حتَّى في وحدتي لا أريد أحدًا يقاسمني المكان.. أنا ألفت المكان دون أن يقاسمني شريك فيه.
(تكون كلثوم قد سحبت اللُّعبة إلى جانب المسرح..تكشف الإضاءة عن شاب غريب الأطوار.. يرتدي دشداشة قصيرة وجاكيت.. وحزام وربَّما يضع عقالًا من حبل أسود أو غطاء رأس.. بيده حزمة حشائش خضراء.. ملامح الجنون تبدو عليه بنسبة أقل من كلثوم.. حين تراه تقف واجمة.. تخبِّئ الدُّمية خلف ظهرها.. وتتقدَّم باتِّجاهه).
كلثوم: من أنت؟ وكيف دخلت إلى هنا؟
الشَّاب: (يقدِّم لها الحشائش) خذي.. جلبت لكِ الحشيش.
كلثوم: حشيش ماذا؟
الشَّاب: هم قالوا لي.. في هذا البيت بقرة.. مربوطة بسلسلة طويلة بشجرة لوز.. أنتِ جائعة؟ خذي.. أنا أحب الرِّفق بالحيوانات والأبقار.
كلثوم: بقرة! أنا ما عندي بقرة.. طيِّب.. كيف دخلت البيت؟
الشَّاب: (مازال في مكانه يتكلَّم بآليَّة) البيت مفتوح من كلِّ الجهات..يمكن أن يدخل أي أحد إليه.. (يهمس لها ويعض شفته بسرعة) أنا قفزت من سياج البيت.. حتَّى لا يراني أحد.. جميل أن تشعر أنَّك حرامي وأنا لست حرامي.. أوَّل مرَّة أجرِّب.
كلثوم: ولكن “ادخلوا البيوت من أبوابها”.
الشَّاب: وإذا كان كل البيت بابًا مفتوحًا؟
كلثوم: تطرق الباب.
الشَّاب: أنتِ خبلة.. ألا ترين الأبواب.. لا أبواب فيها.
كلثوم: هيَّا.. خذ حشيشك.. واذهب كُله لوحدك.
الشَّاب: لكن أنا لم أُربط بسلسلة.
كلثوم: وما المشكلة.. تعال واربط نفسك.
الشَّاب: لا.. يجب أن يربطني النَّاس عندما أقوم بعمل.. ممممم.. منافٍ..للللللللـ… للشَّـ…ر… ف.
كلثوم: اخجل.. أنت تكلِّم امرأة.. عيب.
الشَّاب: صحيح أنتِ.. إمـ…إمـ… يعني.. أأأأأأ…
كلثوم: وما تعني ب إمـ…إمـ… أأأأأ؟
الشَّاب: (يبكي) لا تطرديني من البيت.. (يريها رأسه) انظري لقد تشقَّق رأسي من حجار وحصى الأطفال وهم يركضون ورائي ويصرخون.. مجنون.. مجنون.. مجنون.
كلثوم: لماذا؟
الشَّاب: ها؟
كلثوم: لماذا يصرخون.. مجنون.. مجنون.. هل أنت مجنون فعلًا؟
الشَّاب: لا.. ولكن لكثرة ما صرخوا بي مجنون.. مجنون.. صدَّقت.. فجننت.
كلثوم: (بهمس) الحمد لله لقيته.. (له) والآن؟
الشَّاب: أنا مخبول.. رفيق الأبقار والحيوانات.. خذي..كلي.
كلثوم: أكلت قبل قليل.. ما اسمك؟
الشَّاب: لا أعرف.. سمّوني بأسماء شتَّى.. ولم يتَّفقوا.. فبقيت دون اسم.. وأنتِ؟
كلثوم: عيب تسأل حرمة عن اسمها.
الشَّاب: لقد سألتكِ سؤالًا صعبًا ولم تردّي عليه.. هل أنتِ إمـ…إمـ… يعني.. أأأأأأ.. (بعصبيَّة) قولي لي ما اسمكِ؟
كلثوم: لا اسم لي.
الشَّاب: تعالي نسمّي أنفسنا.. أنتِ اسمكِ بقرة.
كلثوم: وأنت اسمك ثور.
الشَّاب: (يضحك) هاهاها.. لا لا.. عيب.
كلثوم: وليس عيبًا أن تسمّيني بقرة؟
الشَّاب: ليس من ناحية الأسماء.. لا.. بقرة وثور.. يعني إمـ…إمـ… أأأأأ…
كلثوم: ذبحتني بهذه الألغاز.. ما معناه؟
الشَّاب: ها.. لا أدري.. هم قالوا لي.. هي.. إمـ…إمـ… يعني أأأأ…
كلثوم: كلامك هذا يجلب لي الصُّداع.. سينفجر رأسي.
الشَّاب: تعالي أقرأ على رأسكِ.. (يتقدَّم لها).
كلثوم: لا..ابتعد عنّي.. (ترفع الخشبة الَّتي شاهدناها سابقًا).
الشَّاب: أنا دائمًا يقرأ على رأسي الرَّجل.. عندما أصاب بالصُّداع.
كلثوم: وماذا يقرأ؟
الشَّاب: لا أدري.. لكنَّه (يضع يده على رأسها) يضع يده على رأسي.. ويبسبس.. بسسسسبس.. آه.. بسـ… هـ… الرَّ… (يتمتم).
كلثوم: أشعر أنَّ يدك تدخل في رأسي.. تمسك دماغي.. تعصره.
الشَّاب: (يسحب يده بسرعة) لا.
كلثوم: ما بك؟
الشَّاب: أحسست برطوبة.. هل هو دماغكِ؟
كلثوم: لا تخف.. أنا دماغي من حجر.
الشَّاب: (ينزوي جانبًا) كأنَّها فعلًا مجنونة.. وليس كما قالوا..إمـ… إمـ… يعني أأأأ…
(هذا المشهد يكتفي بالحركة.. ويفضَّل أن ترافقه موسيقى.. يؤدَّى بطريقة تثبت جنون الاثنين).
هي: (تتحرَّك مسرعة لتختفي خلف الشَّجرة).
هو: (يبتعد عنها مسافة خائفًا).
هي: (تطلُّ برأسها من خلف الشَّجرة).
هو: (يركض من مكانه قاطعًا المسرح إلى مكان آخر).
هي: (تذهب لمكان الشَّاب الأوَّل).
هو: (يذهب خلف الشَّجرة..يطلُّ برأسه عليها).
هي: (تبتعد مسافة كافية عنه.. وتبدأ بالبحث عن شيء.. تدور في المكان).
الشَّاب: ها.. عن ماذا تبحثين؟
كلثوم: لا عليك.. يكفي لعبًا اليوم.. هيَّا اذهب أمّك بانتظارك.
الشَّاب: ما عندي أم.. أنتِ…
كلثوم: أمّك؟
الشَّاب: أنتِ لماذا لا تخبريني قصَّة هذه السِّلسلة؟
كلثوم: وإذا عرفت.. ماذا ستفعل؟
الشَّاب: ممكن أساعدكِ.
كلثوم: ساعد نفسك.
(صوت لمؤثِّر صرير الباب.. الشَّاب يختبئ خلف الشَّجرة).
الشَّاب: (يطلُّ خائفًا) ها؟ هل ذهبوا؟
كلثوم: مَن؟
الشَّاب: الَّذين يريدون إلقاء القبض عليَّ.
كلثوم: (مرعوبة) ماذا؟ أنت..أنت..ارتكبت جريمة؟
الشَّاب: (يدور في المكان.. متلصِّصًا) نعم.. سرقت الحشيش من مراد.. صاحب المتجر.. القريب.. قالوا لي أنَّكِ تعيشين هنا منذ زمن طوييييل.. دون أن تأكلي أو تشربي.. أنا خشيتِ عليكِ أن تموتي من الجوع.. صحيح؟
كلثوم: (تبكي بافتعال)صحيح.. (تنتبه) ولكن لا أحد يموت من الجوع.. قل.. أموت من الهمِّ.
الشَّاب: وصحيح أنتِ تأكلين الحشرات؟ صحيح؟
كلثوم: آكل كل شيء.. وممكن أن تكون أنتلي وجبة دسمة وآكلك.. (تضحك ضحكة شرِّيرة) ها ها ها ها ها.
الشَّاب: وكيف تأكلين مجنونًا.. بهذا تصبحين مجنونين اثنين.
كلثوم: أمزح معك.. ولكن الأفضل لك أن تخرج من هنا.. (تذهب باتجاه الباب ويتبعها الشَّاب) ما دام الشَّارع فارغًا.. هيَّا اذهب مسرعًا.
الشَّاب: والحشيش؟
كلثوم: أرجعه لمراد.
الشَّاب: (الفكرة تشتغل في رأسه.. وتبعده عن كلثوم) كيف أردّه لمراد وهو الَّذي تسبَّب لي بكلِّ هذا الَّذي أنا فيه..سرق زهرة عمري.. هل تعرفين ابنة عمِّي سلمى؟
كلثوم: لا.
الشَّاب: كيف لا.. والنَّاس كلّها تعرف قصَّتها مع مراد الكلب.. تزوَّجها ليلة واحدة وادَّعى بأنَّها ليست بنت.. واختفت بعدها.. لم أعد أراها.. لم أجد نفسي إلَّا وأيادٍ غليظة تسحبني من فراشي.. وأنا نائم.. اتَّهموني بأنِّي أنا الفاعل..مع أنِّي لا أعرف أن أفعل شيئًا.. كل ما أتذكَّره أنَّ أخاها الصَّغير باغتني بعصا.. وبضربة قويَّة على رأسي.. سقطت مغشيًّا عليَّ.. غارقًا بدمي..استيقظت فوجدت الدَّم وقد رسمني باللَّون الأحمر.. لا أعرف مَن حولي.. بعضهم أسمعه يقول أمّي.. وآخر يقول.. أخي.. نواح وبكاء.. وشماتة.. الأصوات بدأت تتداخل في رأسي.. وتُحدث فوضى في دماغي.. وعيناي لا أرى فيهما جيِّدًا.. مراد كافأوه بالزَّواج من ابنة عمِّي الثَّانية مقابل صمته.. وأنا كافأوني بالرَّكض في الشَّوارع والأطفال خلفي يضربوني بالحصى..ويغنّون عليَّ مئات الأغاني.. منها “يا مجنون وين أمّك.. ابقَ وحيد بهمَّك”.. وكلمتي “أم” و “هَم” مترابطتان في عقلي لكنِّي لا أعرف لماذا يرتبط الهَم بالأمَّهات.. وأغنية أخرى يقولون “طير طير يا مجنون.. طار عقلك تنتن تون”.. لا أعرف ما بعدها.
كلثوم: (تضحك).
الشَّاب: تضحكين.. أي.. شرُّ البليَّة ما يُضحك.
كلثوم: أشكُّ أنَّك مجنون.. ممكن تكون عميل لهم أرسلوك إليَّ لتعرف الحقيقة.
الشَّاب: الحقيقة.. هذا ما أريد معرفته.
كلثوم: ماذا؟
الشَّاب: أنتِ.. أنتِ.. كيف تتحرَّكين بهذه السِّلسلة الطَّويلة.
كلثوم: (ترفع السِّلسلة لتجعل منها لعبة حبل القفز.. تقفز وتردِّد الحوار) أتحرَّك.. بحرِّيَّة.. صارت هي حرِّيَّتي.. أنت لم تجرِّب لذَّة أن تكون مقيَّدًا لكن تتنفَّس بعمق.. أو أنَّك تفكِّر فتكتشف أنَّ لك عقلًا مازال يعمل حتَّى لو لنفسك.. هذه السِّلسلة أصبحت مثل ثوب ألبسه.. جزء منِّي.. أنت اعتدت على حصى ترمى عليك.. وصدَّقت أنَّك مجنون.. وأنا هذه السِّلسلة هي لعبتي.. الخوف يجبرك على سجن نفسك.. حتَّى لو كان في قنِّينة.. هذه السِّلسلة أهون عليَّ من آلاف البشر.. الَّذين قيَّدوني بأقاويل وكلمات أقل ما فيها أنَّك تجلب لي الحشيش لأنَّهم أقنعوا خيالك المخبول بأنِّي بقرة.. ربَّما أنا بنظرهم لا أساوي روث بقرة.. وسخة.. ولا ينظِّفني كل ماء البحر.. البحر الَّذي ابتلع منِّي كل أحلامي وأمنياتي.. (تمسك صدرها من اليسار) آه.. آه.. (تتوقَّف).
الشَّاب: ما بكِ؟
كلثوم: قلبي.
الشَّاب: (خجلًا) ما..به؟
كلثوم: قلبي.
الشَّاب: ماذا؟ هل أحببتِني؟
كلثوم: اذهب واجلب لي الماء من خلف الشَّجرة.
الشَّاب: (يركض مسرعًا ويجلب لها إبريق ماء كالَّذي يستخدم في بيت الرَّاحة).. لم أجد غير هذا.
كلثوم: هو.
الشَّاب: أغسل وجهكِ؟
كلثوم: لا..سأذهب أنا.
الشَّاب: أين؟
كلثوم: للـ…(تضحك).
الشَّاب: (يتبعها) ولكن أنا لا أجد مكانًا للماء في البيت.. (نسمع مؤثِّر باب يُغلق بعنف) من أين تحصلين على الماء؟ (يجلس على الأرض) أكيد هناك حنفيَّة.. أنا لا أشاهد حنفيَّة في الدَّار (ينام على الأرض وينظر باتِّجاه المكان الَّذي ذهبت إليه كلثوم).
كلثوم: (تصرخ من الخارج) ماذا تفعل أنت؟
الشَّاب: أراقب.. الـ… ظلمة.. ظلمة.. ألا يوجد ضوء؟ (الإبريق يأتي طائرًا من الخارج ليستقر على الشَّاب) آخ.. (يحمله ويذهب خلف الشَّجرة).
(تخرج كلثوم.. ويأتي إليها الشَّاب).
الشَّاب: (يداري خجله) أرجعته لمكانه.
(هنا يمكن الفصل بانتقال الإضاءة..لتبرير مرور فترة من الزَّمن.. مشهد آخر).
(لحظة صمت.. يدخلان بقعتين متفارقتين في جانبي المسرح.. موسيقى.. وصمتهما).
كلثوم: أنت ستبقى هنا؟
الشَّاب: وأين أذهب؟
كلثوم: هذا المكان محاط بذئاب.. يمكن أن يدخل أحدهم فيجدك هنا.
الشَّاب: أنا لا أخاف من الذِّئاب.. أخاف من القطط.
كلثوم: (تضحك) ميو.. ميو.. ميو.
الشَّاب: لكن أنتِ لستِ قطَّة.. أنتِ إمـ… إمـ… يعني أأأأ…
كلثوم: لم تقل لي ما تعني إمـ… إمـ… يعني أأأأ…
الشَّاب: أخجل.
كلثوم: ولماذا تخجل من كلمة ولا تخجل من دخول بيتي؟
الشَّاب: هذا ليس بيتكِ.
كلثوم: من قال لك؟
الشَّاب: أنا أعرف.
كلثوم: كيف تقول أنَّك مجنون.. وتعرف أنَّ هذا بيت مراد!
الشَّاب: مراد يملك حتَّى الهواء الَّذي نتنفَّس.
كلثوم: أحلف يمينًا أنت لست مجنونًا.
الشَّاب: لا.. (بغضب) مجنون.. أنا مجنون.. وأجد راحتي في هذا اللَّقب.
كلثوم: هيَّا اخرج من بيتي..أنا لا آوي مجانين في بيتي.
الشَّاب: (بعصبيَّة أشد) بيتكِ.. بيتكِ.. أنتِ تصدِّقين كذبة كذبتيها على نفسكِ.. أنتِ في وهم.
كلثوم: لا يصح أن تبقى معي.. هيَّا اخرج.
الشَّاب: (يتوقَّف) لماذا؟
كلثوم: حرام.
الشَّاب: حرام؟ كيف؟
كلثوم: ما اجتمع رجل وأنثى إلَّا والشَّيطان بينهما.
الشَّاب: ولكن الشَّيطان لا يدخل بين شيطانين.
كلثوم: أنا شيطانة؟
الشَّاب: وأنا شيطان.
كلثوم: (تخيفه) بخبخبخبخ.
الشَّاب: الشَّيطان لا يقول بخبخبخ.. الشَّيطان يوسوس.. يالِّي ما عندك عقل.
(الشَّاب يخرج من بقعته باتِّجاه كلثوم.. ويمكن أن تتغيَّر الإضاءة إلى لون آخر يغيِّر ملامح المكان.. أو أقترح أن يدور المشهد خلف إحدى فتحات الشَّجرة المستطيلة.. يفتح بسلايد كأنَّه ستارة تزاح.. فنجد الشَّاب ملثَّمًا).
(الشَّاب بدور التَّاجر.. وكلثوم في السَّابعة عشرة من العمر).
(تدخل كلثوم فتفزع من منظر التَّاجر).
التَّاجر: لا تخافي.
كلثوم: من أنت؟ وماذا تريد منِّي؟
التَّاجر: ما زال عمّكِ ممدَّدًا في مكانه.. ومنذ يومين.. فاضت رائحته لتنشر عفنها في بيته.
كلثوم: إنَّه ليس عمّي.
التَّاجر: أدري.
كلثوم: لم أقتله.
التَّاجر: لكنَّكِ هربتِ.. وبهربكِ.. أثبتِّي للنَّاس أنَّكِ أنتِ الفاعلة..ولُصقت تهمة القتل بكِ.
كلثوم: هو أراد أن.. أن…
التَّاجر: لا عليكِ.. أنا من سيحميكِ..(يخلع اللِّثام).
كلثوم: أنت؟
التَّاجر: ما زلت أنا الَّذي يتتبَّع خطاكِ.. فهذا الجمال لا يليق إلَّا برجل يحميه.
كلثوم: أنا مثل ابنتك.
التَّاجر: حفيت قدماي وأنا أقنع عمك في أن ندخل من باب الحلال.. لكنَّه كان يرفض.
كلثوم: إذن أنت من فتح عينه عليَّ.. أراد اغتصابي.
التَّاجر: أريد أن تأمني لهاتين اليدين.. ستأخذانكِ لبرِّ الأمان.
(يقترب منها فتنفر منه).
كلثوم: ابتعد عنِّي.
التَّاجر: لا مفرَّ لكِ غير هذا الحضن.. هو المأوى.
كلثوم: لا.. لا.
التَّاجر: فقط اهدئي.. وأعطيني فرصة لتصديقي.
(تبدو عليها الحيرة والتَّصديق والرَّفض في آن واحد.. يضع يده على كتفها مستسلمة..إظلام.. صرخة كلثوم تتردَّد في الأرجاء).
(نعود إلى تغيير في الإضاءة).
(نجد كلثوم في بقعتها.. يقف الشَّاب بالقرب منها).
الشَّاب: (ببرود) وماذا فعل؟
كلثوم: بعد كل هذا وتسأل.
الشَّاب: (يشعر بحالة إثارة وتشنُّج) لا.. فقط أريد أن أعرف.. أكملي.
كلثوم: وإذا لم أقل لك؟
الشَّاب: إنَّه نفس الأفعى.. يسري سمُّها في جسدينا.
كلثوم: الآن وقد عرفت القصَّة بالكامل.. هيَّا غادر.
الشَّاب: أين؟
كلثوم: أرض الله واسعة.
الشَّاب: ولكن أنا أريد أن أنتقم منه.. هذا الـ…الـ… سأذهب لجلب فأس خبَّأته في بيتنا القديم.. سأرجع لك.. هل تأتين معي؟
كلثوم: والسِّلسلة.. هل نسيت القيد.. صعب عليَّ يا ثور.
الشَّاب: لا عليكِ يا بقرة.. فأنا سأركب البحر.. وحدي.
(يصعد فوق الشَّجرة.. وتتبعه كلثوم ترمي له قطعة قماش يعمل منه عباءة غير منتظمة).
الشَّاب: ها.. هل ستأتين معي؟
كلثوم: نعم وسأكون مغنِّي هذه الرِّحلة.
(تصعد هي الأخرى على الشَّجرة.. وتُطلق صوتها).
كلثوم: أوه يا ويلي.. يا ويلي.. ويل من هذه الحال.
الشَّاب: متى يردُّون على هذا السُّؤال.. كيف ضاعت أرواحنا وتشتَّت الحال.
كلثوم: أويلاه جعلوا من أرضنا آبار خوف لا يقال.
الشَّاب: أضعنا العمر.. وضاعت منَّا السِّنين.
(الاثنان يغنِّيان بلحن غريب.. للشَّاعر الشَّعبي العراقي مهدي عبّود السُّوداني).
الاثنان:
كتلي من تعطش ترويك الجفوف
هذا أنا العطشان وين جفوفك
وأنا أدري رموشك أمضى من السّيوف
شجاب قلبي وحطّه بين سيوفك
(ينفجران بالضَّحك.. ثمَّ.. صمت).
الشَّاب: سأذهب لجلب الفأس.
كلثوم: من أين لك بالفأس؟
الشَّاب: هي إرث أبي.. قال لي..ستحتاجها يومًا ما يا ولدي.. عندما تضيق بكالحال.. استعملها.
كلثوم: وبماذا ستستعملها؟
الشَّاب: سأكسر قيدكِ.
كلثوم: لا..أريدك أن تثأر لي.
الشَّاب: و… لي.
كلثوم: نضرب مراد ضربة واحدة.
الشَّاب: نفتح رأسه.
كلثوم: أمسك بدماغه لأرى ما فيه.
الشَّاب: خراء.
كلثوم: ويع.. ما هذا.. (تبتعد عنه).
الشَّاب: (يذهب عنها)..انتظريني.
كلثوم: لا تطل الغيبة أحمد.
الشَّاب: لا كلثوم..أذهب لأجلب لكِ المهر.. وأعود إليك مسرعًا.
كلثوم: أخذت معك ثيابًا كافية؟
الشَّاب: نعم.. نعم.
كلثوم: أخاف عليك من برد الشِّتاء.
الشَّاب: أتدفَّأ بكِ.. بررررد.. تعالي.. البرد قارس.. قاسٍ.. بررررررد.. أششششش.. (يقترب منها).
كلثوم: (تفرُّ منه) أنت صدَّقت! اذهب واجلب الفأس.. هيَّا فارق.
الشَّاب: لم تقولي لي.. من أحمد؟
كلثوم: معناها نعيد المسرحيَّة من الأوَّل.. روح.
الشَّاب: سأذهب لجلب الفأس.. ونكسر السِّلسلة.. ونهرب من هنا.
كلثوم: لسنا بحاجة لفأس.. (كلثوم تفكُّ قيدها بيدها وبتحكُّم بسيط).
(الموقف ينزل على رأس الشَّاب كما الصَّاعقة).
الشَّاب: لا قفل في السِّلسلة؟
كلثوم: نعم.
الشَّاب: ولماذا لم تهربي؟
كلثوم: وأين أهرب.. والأماكن متشابهة؟ هنا المكان أعرفه وهو أكثر أمانًا لي.. أن تُتَّهم بالجنون خير لك من شرِّ الفجور الَّذي يطاردك حتَّى وأنت في القبر.. بقيت هنا.. حتَّى لا يصدِّقوا ما اتَّهموني به.. الهروب اعتراف بالجريمة.
الشَّاب: إذن لابُدَّ من الرَّحيل.
كلثوم: وأين نذهب؟
الشَّاب: لمدينة أخرى.
كلثوم: هذا المكان أَحبُّ المدن إليَّ.
الشَّاب: حتَّى وهو خربة؟
كلثوم: خربة تستوعب جنوني.. خير من جنَّة.. أنا غريبة فيها.
الشَّاب: لم أفهم.
كلثوم: حين نخرج من هذا المكان إلى المدينة سندرك حتمًا أنَّنا أكثر عقلانيَّة من أناس أغلقوا أبواب القلوب..وغادرتهم المحنَّة.. صار الجفاء عملتهم.. وجيوبهم أتخمت بالجحود.
الشَّاب: إذن نبقى هنا؟
كلثوم: طبعًا.. فهم لم يقتلوني..لأنَّهم أرادوا لي موتًا بطيئًا.. ولا فرق إن كان الأمر دُبِّر لي أو لك.
الشَّباب: صحيح فنحن الاثنان.. (يحرِّك يده عند رأسه علامة الجنون).
كلثوم: سنمثِّل عليهم دور المجانين..في زمن شاع فيه الجنون بين النَّاس.. صار وباء.. إلى أين نذهب.. والأخ يأكل لحم أخيه في كلِّ مكان.
الشَّاب: حسنًا..سأبقى.. ولكن..أنا ما عندي قيد مثلكِ.
كلثوم: لست بحاجة إليه.. تعال نلعب.. ونضحك على هذه الدُّنيا الَّتي ابتليت بنا وابتلينا بناسها.. ستجد أنَّ هذه السِّلسلة لعبة.. لعبة.. لعبة.
(تبدأ بتحريك السِّلسلة كالحبل.. والشَّاب يقفز فوقها مثل الأطفال.. يردِّدان أغنية أطفال..أو ألعاب شعبيَّة معروفة في بلد العرض.. يضحكان بعمق.. ويتبادلان الأدوار في القفز على السِّلسلة).
* محمود أبو العباس (الإمارات العربية المتحدة / ديسمبر 2015)
ملاحظة جد هامة:
كل من يتصدى لإخراج هذا النص يجب ان يحصل على موافقة الموقع في شخص مديرته (بشرى عمور) تحديدا
فالرجاء الاتصال على:
الهاتف/ الواتساب: 00212665069189
الأيميل: alfurja.com@gmail.com