إذا كان سعي المهرجانات الثقافية والفنية الأساس يكمن في خلق أجواء احتفالية بهيجة، فإن هذا الهدف يتم تجاوزه في المهرجانات التي تحترم ذاتها، وهذا شأن المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء الذي حقق لجمهوره أجواء ماتعة، وعمم فوائد فكرية وثقافية كثيرة عبر عروضه وفقراته المختلفة، بل خلق أجواء حميمية انصهرت خلالها العلاقات الإنسانية، ساد خلالها بناء جسور التعاون والانفتاح على ثقافات وعادات مختلف الجنسيات التي ينتمي إليها الحاضرون من دول مختلفة. أكثر من ذلك استطاعت الدورة الرابعة من مهرجان الصحراء في تونس أن يستقطب جمهور كثيف ومتنوع ومتفاعل أضفى عليه ملامح خاصة .
هذا هو الرهان الذي جعل من المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء بتونس تظاهرة تندرج ضمن الدينامية الوطنية للنهوض بالحراك المسرحي بالمناطق النائية ليقع اختيار المنظمين على الصحراء كفضاء ذي جغرافية متنوعة (الواحات والكثبان والنتوءات الصخرية، والجبال) تعكس صورة الجمهور التواق لفن وجنون الخشبة القريبة من ذاته والمعبرة عن هواجسه. الشيء الذي جعل من المهرجان موعدا سنويا له قيمته وأهميته، خصوصا وأن البرمجة التي سطرها القائمون لهذه الدورة كانت غنية ومتنوعة استهدفت فئات واسعة من الجمهور سواء الصغار أو الكبار أو الممارسين والمهتمين. إلى جانب اختيار فضاءات مفتوحة مختلفة كنوع من الانفتاح والانطلاق.
تحقيق الرهان….حضور جماهيري غفير :
إذا كان المعيار المعتمد لقياس مدى نجاح المهرجانات، المسرحية خاصة والفنية عامة، هو الحضور الجماهيري الغفير، هنا يمكنني القول إن طموح المنظمين تحقّق، إذ جاء في تصريح لرئيس المهرجان (حفيظ خليفة) ” أنّ عدد الحضور في الأيام الخمسة التي دامَها المهرجان وصل إلى قرابة ثمانية آلاف متفرج ليلة الختام، من مختلف الفئات العمرية” . وهذه النتيجة تجعل المهرجان متفوقا بذلك على مهرجانات كبيرة رصدت لها ميزانيات ضخمة. ومن خلال متابعتنا لأنشطة المهرجان لاحظنا بأم العين شغف الجمهور ومتابعته للفرجات فقد كان تنقله بينها دون كلل أو ملل ليتضاعف العدد بالسهرة اليومية (تفصل مسافاتها حوالي 3كيلومتر للوصول إلى الساحة الكبيرة) الذي يحج عبر موكب كبير، كانت خلالها قلوب الحاضرين تتوزع بين متابعة العروض ومتابعة أطوار عرض مأساوي بفلسطين الحبيبة رفع بموجبها الحاضرون أعلام فلسطين، وردد الجمهور الغفير أناشيد تنتصر لقضية العرب والمسلمين في أجواء تؤكد أن الشعب العربي واحد في أفراحه وأتراحه.
والملفت في الأمر، أن مؤشر الحضور الجماهيري الذي واكب جل فقرات الدورة الحالية شهد ارتفاعا مقارنة مع الدورات السابقة، يعود ذلك إلى المشاركة الشبابية الكثيفة أكدت على قيمة الفنون الدرامية على فرض مكانتها بين أوساط الشباب، ودورها في استقطاب رغبتهم في المعرفة والانخراط الى جانب الوفود المشاركة في ترسيخ مهرجان تونسي متميز، وقد قدموا بذلك صورة عن الشباب التونسي والعربي بشكل عام، تجلت على الخصوص في حفظ القيم التونسية فضلا عن كرم الضيافة وحسن الاستقبال الذي أبان عنه أهالي ولاية قبلي عامة والجرسين خاصة أضفى على المهرجان طابع الشُرْكة والحميمية لانجاحه وترسيخه في المشهد المسرحي العربي.
عروض فنية متنوعة…مكاسب جديدة
كثافة مواكبة الجمهور، وإن كانت قد أسعدت المنظمين، إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر في مضاعفة مسؤوليتهم للبحث عن تقديم فقرات تتميز بالجودة، وحضور عروض نوعية، ساهم فيها على الخصوص شعار يتساوق والظرفية التي يعيشها شعبنا في فلسطين والذي كان عنوانه:” الصحراء تحتفي بفلسطين “.
في هذه النسخة من المهرجان حضرت وفود من أربعة وعشرين دولة (24 دولة)، توزعت مشاركتها ما بين (19) تسعة عشرة عرضا مسرحيا تنوع مابين: (كوريغرافية، ملحمية، مونودرامية، ديودرامية ، والحكي ، وعروض السيرك، والبانتوميم، وعروض تراجيدية .. ) .إلى جانب ذلك اهتم المنظمون بالورش التكوينية لفائدة أطياف من الحضور، وأيضا بالندوة العلمية التي اتخذت عنوانا لها :” الحكاية الشعبية…الآن”، كما شهدت لحظة حفل تقديم توقيع كتاب: “الحكاية التاريخية” للدكتور زهير بن تردانت حضورا مكثفا لجمهور المثقفين المتبع للمهرجان. وأيضا حظي المعرض التشكيلي للفنان القدير صالح الصويعي متابعة فنية. ولم ينس القائمون الفعاليات الفنية والثقافية إذ خصص لهم لحظات تكريمية عرفانا بما أسدوه للمجال، واختتم اللقاء بسهرات السامور.
والملاحظ أن الجمهور المتابع للدورة لم يرض عن بعض العروض المسرحية واعتبرها غير ملائمة للشعار المرفوع خلال الدورة، وقد سجلنا انسحاب بعض الجمهور بذريعة أنها عروض لم تراع الذائقة الفنية ولم تحترم الخصوصيات الثقافية والدينية التي تربى عليها ونحن نعتقد أن الأمر يؤكد حيوية الجمهور التونسي ويقظته اتجاه قيمه الوطنية والدينية.
إلى جانب ذلك استطاعت الدورة الحالية أن تحقق مكتسبات جديدة للمهرجان، سواء من خلال تأسيسها للمخيم الشبابي الحر بالصحراء بغابة شينيليا بالجرسين، المكون من شباب ينحدر من كل الولايات (وصل عددهم 100 شاب وشابة). أو أثناء تبنيها تجربة جديدة تمثلت في إطلاق عرض رقمي على كثبان الرمال تمهيدا لتأسيس مهرجان سينمائي جديد.
تنظيم محكم.. وسخاء الصحراء
وما تجدر الاشارة إليه أنه رغم الحضور الجماهيري المكثّف، اتسمت الدورة بالتنظيم الجيّد أبان خلاله المنظمون عن حنكة وتجربة حين تظافرت جهودهم لتوفير أجواء ايجابية للمشاركين ساهم فيها جمعية الامل الثقافية بالجرسين و شباب نادي المسرح بها. دون نسيان الدعم القوي الذي بذلته الدوائر المسؤولة على رأسها السيد والي قبلي، والسيد معتمد قبلي الجنوبية، واللجنة الجهوية للتضامن الاجتماعي، ومركز الدفاع و الاندماج الاجتماعي بقبلي، والمكتب الجهوي للبريد التونسي بقبلي، والفرع الجهوي للهلال الأحمر التونسي. وقوات الأمن.كل هؤلاء قدموا دعما لوجيستيا قويا. ودعما نفسيا قدمته ساكنة الجرسين/ قبلي، بكرمهم الفردي والجماعي، وبكرم قلوبهم الساعية للاحتضان بطيبوبتها وعفويتها بعبق الياسمين. فطوبى لتونس بأهلها وأبنائها الأبرار.