تشكل البنى التوليدية عدة علائق متوازية تسهم في أحداث تعددية في المعاني، تنضج بدورها الوعي القائم على تفكيك النص، والغور في مغارته التوليدية، ثم يسعى من خلال مبثوثاته إلى خلق مرتكزات دلالية توازن بين المعنى الظاهري المتدفق ضمن انساقة البنيورؤيوية وبين المتخيل الحاصل من ازياحات المعنى المتلازم مع المتن العام للنص، وهذا ما يبحث عنه الكاتب حين يحاول ان يخلق توازانا بين عالمين أشار لهما غولدان عن ما يقوم به المبدع بقوله هو :” توازن بين العالم الخارجي الذي يحيط بالإنسان ويرسل إليه الحروب والفتوحات والنزوحات والاحتلال مثلا، والعالم الخارجي الذي ينبعث من الإنسان والمجموعة البشرية بغية التفاعل والرضوخ او الرفض”، وبهذا المعنى يتحرك الوهج الدلالي عبر سياقات الكاتب ويعطيها نسقا تواصليا نفهم من خلاله التولبدات المباشرة او غير المباشرة في المبنى التوليدي العام، وهذا مانساق له نص “كاليري” للكاتب حيدر الطيب، فمن بنية العنوان الرئيس فإنه يسحبك إلى دلالة الصنعة التي سيتم فيه صناعة الحدث ليبث من خلاله موج من الدلالات التي تحفر في الذاكرة الجمعية للقارئ، فالمرسم الذي انطلقت منه الثيمة الرئيسة حيث يتواجد فيه مجموعة من الرسامين وعددهم ثلاث مع استاذهم مرافقا للوصف العام للمكان، أعطى التأسيس الأول لانشائية التوليد عبر السياقات الحوارية في الحدث الصاعد يصاحب ذلك مفارقات لفظية ودلالية كما سيأتي تباعا..
الاستاذ: (الأستاذ ينظر إليهما من خلف نظارته ويتكلم بهدوء) مالأمر ..لقد تأخرتم هذه المرة، ليس من عادتكم
الرسام 1: (مرتبكا) لا، لاشيء ابدا، تصورنا ان الوقت سيكفي للذهاب إلى المكتبة من أجل شراء بعض لوازم الرسم.
الاستاذ : (بهدوء) اتصور انني اخبرتكم مرارا ان كل ماتحتاجونه ستجدونه هنا، فلاداعي لذلك في المرة القادمة).
اعتقد بهذه المدخل البسيط ولج الكاتب إلى المساحات التي من خلالها يكشف سرية المكان والحدث، لذلك بدأ يصف الوقائع اليومية التي يقوم بها الرسامون مع استاذهم ، حيث يصورهم انهم قابعون على رسم أشياء متداولة يوميا، وليس ثمة تحول في مجرى الإبداع لديهم، وهي دلالة على أنهم قد اختزلوا كل متغيرات البيئة التي يعيشوها على هذا النحو الذي هم فيه، فتجد بعضهم يرسم لوحة من الطبيعة والآخر الفهد الصياد وهكذا، وما يؤكد اجترارهم لهذا الفعل هو قول الرسام 2 لزميله :”عفوا، رسمتها كثيرا حاول أن ترسم شيئا اخر”، ثم يتدخل الأستاذ محاولا ابدال الموضوعات المستهلكة لدى الرسامين بان يطلب منهم شيئا اخر عله يخرجهم من أتون أفكارهم القديمة، والمفارقة في هذا هو التحول في السياق ثمة تحول ملحوظ في الدلالة مثير بل وأنه يشكل صدمة مرجعية للقارئ، حيث يطلب الأستاذ من الرسامين ان يرسموا اطفالا، ويستغرب الجميع لهذا المطلب، وحين يقوموا بالعمل فإننا نشاهدهم يرسمون اوصال الطفل وليس طفلا كاملا ..وهذا ما يوقف الأستاذ بقوله بعدما يضع الفرشاة :”اروني مارسمتم”.
الرسام 1: حتما أيها الأستاذ
بعد أن ينظر الأستاذ لرسوماتهم ينهض صارخا :”ما هذا انتم تحاولون ان تسخروا مني”، حيث يصور الكاتب وعبر هذا المشهد صورة الطفل في أذهان الفنانين وهو تعبير عن الحالة العامة التي عاشها اطفال العراق مابعد 2003 من تقطع للاجساد سواء عن طريق السيارات المفخخة او العبوات وكذلك ما حصل لهم عند دخول داعش إلى البلد او ربما يمتد. هذا الفعل إلى ما يحصل إلى أطفال غزه حاليا ..ثم يستدرك الكاتب دراميا ليتحول إلى البحث عن ما يخرجه من الازمات التي تعيشها الشخصيات ضمن فضاءا مزدحمة بالموت والألم والدم والفقر والضياع والاجدوى والياس والخراب .. الخ لينظر إلى المستقبل القادم عله يمثل فسحة امل او لنقل ثمة بوح بوصفه متنفسا للشخصيات المتشائمة من الراهن الذي تعيشه،
الرسام 2: أيها الأستاذ نحن لا نسخر من حضرتك
الأستاذ : طلبت ان ترسم البراءة والمستقبل وتعبر بلوحة كفل
الرسام 3: كنت أجلس في المقهى، وحينما ينتهي الحديث اذكر كلمة المستقبل لنسلي أنفسنا حتى نقضي المزيد من الوقت
هذه الخيبة المتولدة في أذهان هؤلاء الرسامين اريد لها ان تكون دلالة على الجو النفسي العام الذي خلق المحيط الذي تعيشه الشخصيات وهي دلالة على الوخز المتعمد الذي يقوم بها الكاتب لضرب الواقع السياسي الذي يعيشه، وهذا من معلومات الانبعاث الخارجي للكاتب كما أشرنا في المقدمة، والذي يؤكد هذه الحالة تمركز هذه الدلالة هو ما جاء على لسان الرسام 2 وهو يضحك على المستقبل الذي يدعوا له الأستاذ
الرسام 2: المستقبل؟ من اين يأتي؟ وكتائب الموت تلاحق الأطفال..من اين يأتي، والجميع يصرخ في الجوامع باسم الله، ولا يعرفون من العدل الا في توزيع باقات المنايا علينا.
وبتقديري ان هذه الجملة المباشرة كشفت ما يرمي اليه الكاتب من دلالة، أو ربما اسقطته حين راح ينثر وخزات دلالية ليمرر نصه وفق حبكة لم تتصاعد في الحدث الدرامي وإنما راحت تكشف نفسها في الملفوظ الحواري، وهذه أشبه بكشف غطاء الرأس عن المتاح للمساحة التاويلية المراد تعضيدها في المتن العام للنص كي تحافظ عل توازنه وعيا وجمالا، لكن الكاتب وقع في فخ المباشرة واغدق من خزينه المتواري ليكون معلنا، وهذا ما ثبته ايضا في مشهد اخر حين تحدث عن الثورة، بعد أن أمضى المشاهد التي سبقت هذا المشهد بالأحلام والاستدعاءات والامنيات التي ربما أكثرها لا تتحق لذلك جردها من واقعيتها وادخلها في فضاء الحلم، ثم ليصل إلى هذا المشهد الذي جرى على لسان الرسام 2 وهو يصف كيف كان ينتظر الاحتفال بذكرى الثورة وهي إشارة إلى (تشرين) وهو منهار :”نعم كنت انتظر ..اترقب ..كنت انظر الى التقويم انظر إلى ساعتي وضعت ورقة بجيبي حتى احسب الايام .. يهدا… حتى وصل اليوم الذي كنت اترقبه بامل كبير ..( بالم ) ولكني تمنيته ان لا يصل “.
الرسام 1: (مستفربا) لماذا وانت تنتظره؟
ثم يتسال الأستاذ :” هل ستحيي الثورة في بيتك ام ماذا ؟ ”
وهنا تأتي الاجابة لانه لم يحييها تحت ذريعة التشائم، وهو _ اي الكاتب_ بهذا الحال وصف الشعور الذي ينتاب أصحاب الثورة عبر هذه الشخصيات، ثم يفترض حوارا جدليا بين الأستاذ والرسامين الشباب الأول يدعوا الى التغيير والثبات من خلال التوافق وفي مقدمتها الموقف الفني والثاني يدعوا الى المغادرة لانه خسر كل شيء وهو متشائم، لان يعتقد بأن الواقع فرض عليه بعض المسلمات التي تحتاج إلى قدرة قادر او مشاكل، وبالتأكيد وعي وخبرة الأستاذ تتفوق على الشباب، لذلك يبقى الأستاذ صابرا وواعظا للناس كي يقفوا معه في تحقيق الحلم عير الثورة كي يوقف _ بحسب رايه_ الدماء التي تسيل من الأطفال والنساء وغيرهم، حينها ينهي الكاتب نصه ضمن بنية دائرية للحدث الدرامي بعد أن يوقف جميع الرسامين الثلاث مع استاذهم بنفس الحدث الذي شاهدناه في المشهد الاستهلالي، ليبعث بدلالة بقاء الامور على حالها وليس ثمة انفراج في الأفق، ومما تقدم يمكن أن نعطي بعض المؤشرات في النص وهي على النحو الآتي:
اولا..بني النص على مجموعة من الدلالات المباشرة وغير المباشرة الأولى حافظت على كشفت المتواريات النصية والاخرى حفظتها جماليا وكلا لها وظيفتها الخاصة .
ثانيا .. تساوق العنوان مع المتن في المكان فقط ولكنه لم يبحث عن متواليات مشهدية أخرى لتعزيز الفعل الدرامي الذي يضخ لنا بمركبات توليدية تعطي للخطاب ضخامة وحضورا أكثر غورا في المعنى.
ثالثا.. ابتعد النص عن الحفر في الحبكة الاولى وكذلك الثانية الا في موضع التخادم في المعنى واهتم بالفكرة كنسق تواصلي، لذلك فإن الصراع هنا خفيف الظل لم يرتقي إلى التدفق الدرامي مع وجود حالة المغايرة والاندهاش في بعض الموارد وخصوصا في مورد رسم أوصال الطفل..وهي التفاته تحسب للكاتب.
رابعا..امتاز الحوار بالرشاقة والوضوح والكوميديا في بعض الأحيان خصوصا في مواضع المفارقة بين اللفظ والمعنى، كما هو في حديث احد الرسامين عن دعوته للحضور إلى المعرض من قبل إحدى الفتيات.
النص حمل هموم شعب وأن اختص بشريحة ما، كما وانه عبر عن أهمية الفن في نقل الحقيقة والدفاع عن الحقوق وهو يساوق رؤية مع نيتشه في هذا المفهوم، إذ أن الغن عند نيتشه ليس فقط هو نتاج فنان بل هو الحياة والواقع كما هو، ليشكل بذلك فائضا لارادة القوة التي تعمل دائما على إثبات الذات الانسانية بكل ما تشوبها من غرائز…
اخيرا النص حصل على المرتبة الثانية / جائزة جماعة الناصرية للتمثيل في التأليف المسرحي النسخة الثانية 2023 دورة الفنان الراحل حسين الهلالي ..
* حيدر جبر الاسدي / الناقد العراقي