التجريب مفهوم تكون في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين وارتبط بمفهوم الحداثة la modernity وإذا كان التجريب المسرحي في بداياته قد طال الشك, فأن سمته الأساسية في مرحلته الجديدة في الستينات والسبعينات تجلت في محاوله الانفتاح بالمسرح على بقيه الفنون وفي خلق علاقة مختلفة مع الجمهور. وتوسيع هامشه. وبذلك اخذ التجريب منحى جماليا فنيا ومنحى ايدلوجيا . وقد ارتبطت حركه التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءه المسرح.
وكان الخلاف حول ارجحية الواقعي أم الجمالية المحرك الفاعل لحركات المسرح التجريبي منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم وعندما طلب (كوردن كريح) الممثل بان يكون أشبه (بالسوبر ماريوت) فإنما ليستطيع صانع العمل المسرحي تحقيق جمالية الصورة المسرحية وحين رفض (ماكس راينهارت) إن يكون المسرح مؤسسه أخلاقية بل مجتمعا للمشاركة العاطفية ,وحين عمل على تغيير العلاقة المساحية بين الممثل والمتفرج ,وحسب طبيعة العمل وبالتالي تغيير أسلوب معالجته فإنما لترجيح النواحي الجمالية على الواقعية.
فمصطلح ( التجريب ) في اللغة معناه مأخوذ من (جربه تجريبا إي اختبره وامتحنه )، يقول الدكتور سامي عبد الحميد ” إن ما كان تجريبيا يوما من الأيام يصبح بعد حين تقليديا، وان المسرح التجريبي هو ذلك الذي لا يقوم على أسس ثابتة بل يبقى متحركا على الدوام “.
أما المسرحي الألماني (برتولد برشت 1898-1956) فقد اعتبر في محاضرته عن المسرح التجريبي (1939) إن كل مسرح غير ارسطاطاليس هو مسرح تجريبي .
إن تكون تجريبيا يعني إن تقوم بغزو المجهول,وهذا الشيء لا يمكن التأكد منه إلا بعد حدوثه, وكل شخصيه من الشخصيات أدناه فتح إمام المسرح إمكانات جديدة، وكانت التجربة لدى كل منهم شيئا مختلفا كل الاختلاف، فمثلا :
- عند ستانسلافسكي أهمية الممثل
- عند كوردن كريح الممثل عنصر زائد يمكن الاستغناء عنه ,وتكون الأهمية كلها للإمكانات ألمنظريه على المسرح
- عند مايرهولدوراينهارد أهمية المخرج
- عند أبيا استخدام الإضاءة
- برشت اهتم بإبراز الطابع الملحمي للمسرح مثله مثل بسكاتور
- ارتو اقتناعه بان المسرح لا يجب إن يصور الواقع اليومي على نحو طبيعي
- لوي نيكولاي إلف بين تصور ارتو لمسرح غير لفضي, وفكره كريح في تحريك الكتل المجردة وهذا ما تحقق في الرقص الأمريكي الحديث .
- كروتوفسكي وبروك وباريا انطلقا من إن جوهر المسرح من حيث هو علاقة حيه بين الممثل والجمهور
- مارتن أسلن انطلق من الجدوى.
كروتوفسكي
بدأ العمل في غرفه صغيره في اوبول, مع جمهور محدد بأربعين متفرجا, وكأنه يعد لونا من المسرح المقصور على جمهور محدد, وفي 1966 وحين عرضت مسرحيه (الأمير الدائم) على مسرح الأمم في باريس, إصر على إن يشهد العرض جمهور محدد كذلك، اما بداياته في التمثيل فكانت في 1951, حيث ذهب إلى موسكو لدراسة منهج سنان تحت إشراف الممثل (زافاديسكي), وعاد 1956 بعد إن قام برحله في اسيا ليتولى اخراج عروض (مسرح ستاري) في كراكوف، وبعد ثلاث سنوات, اصبح مديرا لمسرح (13رذيدوف) في اوبول, وبدأ التجريب، وفي عام 1965 حين انتقل هو وممثلوه إلى روكلاف, اصبح (المختبر المسرحي) مؤسسه رسميه لأبحاث المسرح، وكان اقرب العامليين معه هما (لودفيج فلازن), المستشار الأدبي للمسرح, و(يزار جيلاك) الذي يعتبره كثيرون أهم ممثل في العالم.
وكان عمل كروتوفسكس مع الفرق المسرحية منصبا على أصابه الممثل بسلسلة من الصدمات فمثلا:
- صدمه مواجهه ذاته إزاء تحديات بسيطة لا يمكن رفضها .
- صدمه رؤية مراوغاته وحيله وكليشاته.
- صدمه الإحساس.
- صدمه إرغامه على إن يواجه السؤال لماذا هو ممثل أصلا.
- صدمه إرغامه على الإقرار بان مثل هذه الأسئلة قائمه بالفعل والوقت حان لمواجهيها
- صدمه إن يجد نفسه راغبا في هذه المواجهة.
- صدمه معرفه إن في مكان ما من هذا العالم ,يصبح التمثيل فنا يقتضي التكريس المطلق والرهبنة الكاملة.
الممثل عند كروتوفسكي راهب يخلق الطقس الدرامي، ويقود الجمهور إليه في نفس ألان, وهذا عنصر جديد في المسرح, اعني هذا التوتر السيكولوجي بين الممثل والجمهور، وعليه ايضاً إن يتعلم كيف يستخدم دوره كما يستخدم الجراح مبضعه كي يشرح نفسه, واهم شيء إن يستخدم الدور كأداة يدرس بها ما هو كامن وراء قناعنا اليومي، ويرى كروتوفسكي إن المشاهد يفهم إن هذا العمل دعوه له كي يفعل مثله.
فهو مهتم بإزعاج الجمهور, على مستوى عميق جدا, وهو ليس مهتما بان يأخذ المتفرج بعيدا عن ذاته, بل يأخذه عميقا داخل ذاته، انه مهتم بالمتفرج الذي لديه احتياجات روحيه عميقة, والذي يريد خلال مواجهته هذا الأداء وان يقوم بتحليل ذاته, وهذا المتفرج والممثل إنما يهدف لتحقيق هذا التحليل النفسي الجمعي، وعليه فان كروتوفسكي يؤكد بوضوح من البداية (لسنا مهتمين بالجمهور على الإطلاق, بل بنوع خاص من الجمهور).
واهتمام كروتوفسكي بدور المتفرج في المسرح، هو ما قاده نحو استكشاف طبيعة المساحة المنظريه, بحيث يخلق شكلا من إعداد الخشبة في كل عرض يتيح له اختيار جوانب متباينة من العلاقة بين الممثل والمشاهد، في (كورديات) كان الحدث يدور في جناح من مستشفى الإمراض العقلية, والمساحة كلها مشغولة بالأسرة, حتى اوجد المتفرجون أنفسهم مرغمين على الجلوس بين المرضى, وفي ( الدكتور فاوستوس) وجد المتفرجون أنفسهم ومعهم الممثلون, ضيوفا على مائدة (الدكتور فاوستوس) في قاعه الطعام الخاصة بالرهبان .
كما إن طريقته – خلال السنوات العشر الأولى في المختبر المسرحي – يتناول أسطورة أو موقفا كرسه التقليد والتراث فجعله موضوعا محرما (تاب) ثم يبدأ الممثلون في مهاجمته, من اجل إن يربطه بخبرته الخاصة في الحياة , والتي هي محددة الخبرة الجماعية لعصرنا، وبالنسبة لحاله كروتوفسكي فهي مرتبطة أيضا بالتاريخ التراجيدي لبولندا في هذا القرن.
في العراق تقاطع المخرج الدكتور طارق العذارى مع مؤلف مسرحية (اوديب الملك السعيد ) فؤاد التكرلي تقاطعا تاما ورفض كل ما كتبه من ملاحظات وإرشادات تفيد العمل المسرحي, حيث كان المؤلف يتحدث عن ملك وقصر وسفن وجيوش ويخوت وو،،،،،، الخ ، لكن المخرج درس العمل اقتصاديا, وعمل على جسد الممثل وعلاقته بالمتفرج, حيث استغنى عن الديكور واكتفى بوضع مرتفع (فلات) بارتفاع (6،سم) في عمق المسرح لظهور الملك, وادخل المجاميع (الجوقة) والتي هي عامة الشعب ,لكي يعمل منها كرسي الملك تارة وتارة أخرى يعمل بها منضده للاجتماعات,كما استغنى عن أكثر الإكسسوارات, ولم يبقي سوى عصى بيد ممثل الملك وحقيبة بيد ممثل البنك الذي يحضر لمعرفه أسباب موت الملكة وإعطاء الإرث لمستحقيه, وكذلك استغنى عن الموسيقى والماكياج, وبهذه الطريقة استطاع المخرج الدكتور طارق العذارى إن يطبق نظرية كروتوفسكي وتعامله مع الممثل والجمهور .
ومن ثم طرح جروتوفسكي سؤال هاماً :ما هو المسرح؟
وفي بحثه عن الإجابة وجد انه يمكن إن يوجد دون ماكياج ,ودون أزياء ,ودون ديكور ,وحتى دون خشبه مسرح ,ودون أضاءه ,ودون مؤثرات صوتيه, لكنه لا يمكن إن يوجد دون هذه العلاقة الحية بين الممثل والجمهور .
فالممثل هو الاساس في عمل كروتوفسكي ، فليه الممثل قادر على فعل اي شيء ، من خلال التمارين المكثفة، ومن خلال المعايشات التي كان يدرب الممثلين عليها، والتي من خلالها يكتسب الممثل خبرات وطاقات يستغلها على خشبة المسرح اثناء عرضة لأي شخصية تسند اليه.
المصادر
- جيمس روسايفانز،المسرح التجريبي من ستانسلافسكي الى بيتر بروك.ترجمه: فاروق عبد القادر، مركز الشارقة للأبداع الفكري .
- د سامي عبد الحميد،قديم المسرح جديده وجديد المسرح قديمة ، مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي ، الدورة الاولى.
- د ماري الياس ودحنان قصاب، المعجم المسرحي، مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبه لبنان ناشرون.
- حسين مصطفى، قاسم محمد، سيد المسرح، اصدارات دائرة الثقافة والاعلام حكومة الشارقة .
- د احمد سلمان عطيه، الاتجاهات الإخراجيةالحديثة, وعلاقتها بالمنظر المسرحي، مؤسسة دار الصادق الثقافية .
- د علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة, الطبعة الثانية, تقديم: فاروق عبد القادر ، سلسله كتب ثقافيه شهريه يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، اب/1999