ارتبطت نشأت المسرح بمقدسات الانسان وهو ما عرفناه عند اليونان القديم واحتفالات الالهة وعندما دخلت العصور المظلمة وتمت محاربته ..خرج المسرح من رحم مقدس اخر وهو ( الكنيسة) فصار رسول التعاليم والاخلاق والمبادئ السماوية… وتواصل مع الثورات الكبرى التي حدثت في العالم منذ الثورة الصناعية وحتى انهيار الانظمة الايدلوجية الكبرى..فكان الارتباط الكبير للمسرح بمقدس اخر وهو (طموحات الجماهير ) وبحثها الدؤوب عن سبل الكرامة والعيش الرغيد وحرية للفكر بعيدا عن ارهاب وغول بعض المعتقدات ( !؟)
وتواصل هذا الفن العظيم في رسم ملامح الحضارة الجديدة منطلقا من تلك الاسس الحقيقية والصادقة في بناء الانسان الجديد الرافض للجهل والعبودية…..اذن…مالذي حدث؟؟ المتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم وخروجه من دائرة الصراعات الحضارية والدينية والايدلوجية وصولا الى الصراع السياسي الذي افضى بقوة الى التكتيك (حيث ان مواقف الدول والمجتمعات ومبادئها تتغير مع تغير عقارب الساعة). والدخول في الصراع الاقتصادي_ المادي بكل اشكاله وتفرعاته القى بظلاله على فن المسرح فلم تعد القيم المعاصرة تحاكي او تناغم المفاهيم السابقة ..مثلا..لم تعد افكار ( ماركس او انجلز) تثير الاهتمام ، ولا طروحات ( كامو او سارتر) تدفع للدهشة..وكذا الحال مع ( كولن ولسن) او ( فوكو …كنت _ هيغل_ دريدا). والادب الشكسبيري فضفاض يحتاج الى مقص يختزله.._والمهابهارتا_ لعبة قديمة صعب تقبلها…اما لانغستون هيوز..اصبحت احلامه سوداء كسحنته المظلمة….!!
فالمتغيرات اصبحت سريعة ومعها تتغير الافكار والهواجس بل وحتى الانتماءات. انه زمن مادي بامتياز ..تسوده تجمعات اقتصادية مادية اسهمت في تشويش صورة الاوطان.. والانسان……وحتى الايمان تراجعت الاجتهادات الفلسفية.. وتأزمت مدارس التحليل النفسي .. وتجمدت الرؤى الوجدانية المرتبطة بالضمير والحس والفكر الانساني.. واستبدلت..بالمتحرك السريع الخاطف من الصورة والاشارة والتقنية المادية وصولا الى الجمال البحت…جمال لاجل الجمال..ودهشة لاجل الدهشة ..وسحر من اجل السحر ..بعيدا عن (ازعاجات المضمون وقلق الافكار وتعب الوجدان) واختفى مبدا ( مسك العصى من المنتصف) فصار التشبث بطرف واحد من العصى ليتم تهشيم المديات الانسانية ..الارحب..والاصعب..بحجة المعاصرة _ التحديث_ التجديد….ومصيبة الفهم الخاطيء لحقيقة (التجريب) لم يعد المسرح نشاط اجتماعي يومي لاغنى ولااستغناء عنه!!! بل مناسبة سنوية او نشاط مهرجاني يسعى اليه الافراد او المؤسسات لتثبت وجودها الرسمي .. ولم تعد العروض المسرحية تحاكي هموم الناس او افكارهم بل وحتى تصوراتهم المستقبلية…والايغال بالتجريب قاد الى ( التخريب)…مع الاسف انطلت علينا فكرة ( العالم قرية صغيرة)..فصرنا نوجه خطابا مشفر بشفرة ( نعتقدها لغة عالمية) او رمز جماعي يفهمه القاصي والداني ويدل على الرقي والابداع والتطور…..حتى صرنا نهمل خواصنا وخصالنا..ملامحنا..وملاحمنا.. ارثنا واثارنا واثرنا… واصبحنا (نهرف بما لانعرف) (وننعق بما لانسمع)…وصارت الرغبة باثبات الوجود الشخصي هو الهدف!! المهم المشاركة باي مهرجان وتحت اي مسمى لننشر الصور…وننتظر الاشارة بالثناء ..مع ورقة مختومة من الادارة كي نشعر بالغلبة والتفوق على الاخر….يتوجها التصفيق من هنا وهناك.. والتهيئة للنسخة الاخرى من المهرجان….. اما الاهداف العظيمة..والتواصل مع الناس. أمست. كلاسيكيات..تقليدية….ذهبت مع ( جيل الطيبين) مع الاسف.
نلتقي بالجزء 3
طلال هادي ( بغداد/ اب 2022)