السينوغرافيا وأسئلتها من خلال كتاب “السينوغرافيا بين الأثر الفني والجسد الفرجوي”
يتموقع مفهوم السينوغرافيا في منطقة نقاش محتدم، سواء تعلق الأمر بالتحديد والتأصيل، أم بالممارسة والتطبيق، منذ أن ولج المفهوم مجال الاشتغال المسرحي بالمغرب في أوائل الخمسينات من القرن الماضي مع تداريب المعمورة، ومع جيل الرواد أمثال عبد الصمد الكنفاوي، وتلامذته الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج (1).
ويُعدّ الباحثون المغاربة من الرواد في معالجة المفهوم على المستوى العربي، يشهد على ذلك إنتاجهم المضطرد ممارسة وتنظيرا وإبداعا، في هذا السياق يأتي كتاب “السينوغرافيا بين الأثر الفني والجسد الفرجوي” للد. ع. المجيد الهواس، الصادر عن الهيئة العربية للمسرح بمناسبة الدورة الثالثة عشرة للمهرجان العربي للمسرح، ليؤكد هذا الانشغال المستمر مثرا مجموعة من القضايا المرتبطة بالسينوغرافيا، ومواصلا النقاش المفتوح في بعضها الآخر، وبذلك يعد إضافة مهمة تستدعي اهتمام الباحثين في المسرح العربي والمغربي والسينوغرافيين عموما، والمهتمين بالخطاب السينوغرافي وأليات تحليله على وجه الخصوص.
يشكل السينوغرافيون المغاربة -كما أسلفنا- حالة نادرة بالعالم العربي على الأقل (2)، لأن كفاءتهم لا تتوقف عند خلق تصورات للعروض المسرحية، بل تمتد لتشمل مجموع المهن المسرحية والتقنية المتعالقة مع السينوغرافيا، ومجالات تطبيقها من أزياء وإضاءة وصوت وفيديو وإنجاز إدارة الخشبة، بل نجدها تمتد لتشمل مجالات أكثر اتساعا من قبيل سينوغرافيا المتاحف، والأحياء، والمدن … إلخ مع الجيل الجديد منهم، وقد أفرز هذا سينوغرافيين يشتغلون بالدراماتورجيا ويقدمون تجارب مهمة في الإخراج، من بينهم -على سبيل المثال- ليلى التريكي، أمين بودريقة، عبد المجيد الهواس، إدريس السنوسي، أنوار الزهراوي، أحمد حمود، عبد الحميد آيت عبو، يوسف العرقوبي … إلخ، جيل يعي خاصيات الفضاء، ويضبط التقنيات المرئية الحديثة مما يجعل رؤاهم عن المسرح مختلفة ترى فيه تشكيلا متكاملا من مكونات متعددة للفرجة بدل التركيز على جزئيات منعزلة كإدارة الممثل لتسريب النص نحو الركح، جيل يحمل مشروعا مميزا يمكن اختصار أهم ملامحه في السعي لإيجاد تصورات جديدة لفضاءات فرجوية تنسجم مع الخصوصيات المحلية، من خلال الانكباب على دراسة القاعات المسرحية المتوفرة بالمغرب، لرصد ميزاتها ونواقصها التقنية والفنية، ثم ربط ذلك بمجالاتها الجغرافية، والحاجات الثقافية الخاصة بالمتلقي سعيا إلى تحقيق ذلك الانسجام بين الجمهور وفضاءات الفرجة التي يغشاها.
يعتبر الكتاب، موضوع هذه الورقة، مدخلا لرصد مفاهيم تخص فن المسرح، والفنون التشكيلية في سيرورة تحولاتها، والعلاقات التي تربط بينهما، تبرّرُ ذلك علاقة الوساطة بين السينوغرافيا، بوصفها مكونا من مكونات العرض المسرحي، وبين هذه الأجناس الإبداعية، كما تبررها أهمية الجدل القائم بينها وبين هذه الفنون من حيث أنها تتجدّد باستمرار متربصة بما قد يمنحها قوة تعبيرية أبلغ؛ سواء حين يوظّف المسرح هذه الفنون بكثافة كما في مسرح “ما بعد الدراما” الذي تخلى عن الهواجس الأدبية في العمل المسرحي لصالح غيره من الفنون، أم حين يجد الفنانون، في فن المسرح، مرتعا خصبا لإعطاء منحى آخر لأعمالهم الفنية نظرا لخاصية التمسرح Théâtralité التي هي ميزة المسرح (3)، والتي تظل في الوقت نفسه الرابط بين الرسم والمسرح بوصفها متدخلا رئيسا في تشكيل عناصر اللوحة في الرسم، ومتدخلا يتخذ منحى تصويريا في المسرح، وبوصفها، أيضا، مركز التقاء التشكيلي بالفرجوي الذي ظل حضوره دائما في مجموع الأشكال الفرجوية التقليدية، متمثلا في ارتداء القناع أو صباغة الجسد ووشمه أو في غيرها من مظاهر هذا الحضور، مع يستدعيه هذا التجاور من تقارب في المفاهيم والمصطلحات، مما يحفز على البحث والدراسة أكثر وهو ما يتصدى له الكتاب في فصوله الأولى.
تفرّعت السينوغرافيا عن كلمة سكينوغرافيا Skênoghraphia وهي -باختصار- مجموع العلامات التي تبرز على الواجهة المتقدمة للمسرح، والتي تتم عبر كتابة (غرافيا) أشمل، ما دامت سكيني هي أيضا Scéne بمعنى خشبة المسرح، وهي “المشهد” أيضا في أبعاده الثلاثة يضاف إليها الممثل لحظة العرض (4)، وأصل الـ”سكيني” خيمة أتت كحاجة لخلق كواليس تبيح للبطل التراجيدي التخفي لتغيير الزي والقناع (…) قبل ان تتطور وتصير في شكل بناية تميزها واجهة قصر تخفي “بناية السكيني” التي تتحول إلى “فضاء درامي” (5)، وقد أدرك اليونانيون أهمية بناية السكيني بوصفها خلفية للأحداث التي تدور، الشيء الذي كان له الأثر البالغ في تطور تجربة الكتابة لديهم، حين أدركوا الإمكانات المسرحية لهذا العنصر المعماري الجديد، كما ترى حنا سولينكوف، فقد يغدو مجرد تغيير بسيط في طلاء الجدران متغيرا كافيا وحده ليوحي بتغير دلالات المكان أو الزمان.
ترتبط السينوغرافيا بالأمكنة فتتأثر بها بل وتنبثق منها، مما يستدعى الوقوف على مجموعة من العناصر المرتبطة بهذا المفهوم وهي الفضاء Spatality والمكان Space والتفضية Espacement، فمفهوم الفضاء -حسب إيريكا فيشر- يعد عنصرا عابرا وسريع الزوال، مثله مثل الجسدية والصوت؛ حيث يوجد أثناء العرض ويزول، أما المكان فيعدّ عنصرا مغايرا تماما إذ يحيل على المساحة المعمارية المحددة التي لا ينتهي وجودها بانتهاء العرض بل يستمر ويدوم، فيما يعد مفهوم التفضية مفهوما ثالثا متعلقا بعملية الإخراج بوصفها “كتابة تخطيطية” تسعى لخلق ترابط بين مكونات العرض. وفقا لهذه العناصر يظل عمل السينوغراف محكوما ببناية موجودة سلفا، بعد أن تمّ التوافق على شكلها النهائي، الذي يبرره حسب “مايرهولد” بالحاجة إلى وضع المتفرجين جميعا بالطريقة التي تسمح لهم بمشاهدة ما يعرض أمامهم.
ولاعتبارات تراعي ضرورة وجود بناية لاكتمال عرض الإنتاج الأدبي، والركحي، والتكامل بين تلك البناية والمُشاهد حسب “شارل غارنيي” من جهة، والالتحام بين شكل القصيدة وشكل البناية حسب “بيير سونريل” من جهة ثانية، صُمّمت المسارح بوصفها أداة قبل أن تكون معلمة، أداة تصب “مؤهلاتها الفنية ومكوناتها التقنية في اتجاه منح العمل الدراماتورجي إمكانيات ومنافذ تحفز المبدع على صياغة عمله والتجديد فيه، بالشكل الذي يحفز مخيلة المتلقي، من خلال فضاءات لا متناهية تمكن المبدعين الدراميين من إبداع أساليب جديدة في تناول الكتابة والبحث السينوغرافي في ممكنات الإخراج. يضاف إلى هذه العناصر عنصر الزمن الذي لا يمكن لعمل مسرحي أن يكتمل دونه، من خلال تحقق الالتقاء بين الدراماتورجيا والإخراج والسينوغرافيا وتكامله.
داخل هذا الانشغال يجد القارئ نفسه مدعوا إلى تأمل أسئلة ترتبط بعنصر المكان في علاقته بالسينوغرافيا في المغرب، من قبيل “ما دور المبدعين-سواء كانوا سينوغرافيين، تقنيين، مخرجين، مؤلفين، ممثلين، نقاد أو جمهور، مؤسسات أو أفراد- في بلورة أفكارهم عن الفضاء المسرحي الذي يلزمهم؟”، وأيضا “لماذا توقف النبش في إمكانية بدت ممكنة قبل رحيل “أندري فوازان” تتعلق بتصور فضاء مسرحي يوازي مستقبل الممارسة المسرحية في المغرب”، وقبل هذا كله يطرح التساؤل عن الكيفية التي يعبر بها مسرحيونا عن انشغالاتهم الفنية وتصوراتهم الجمالية من أجل التأثير في قرار بناء أي مسرح كان؛ أ عليه أن يكون بهذا الشكل أم بشكل آخر؟ ولم؟”.
في سياق آخر يتناول الكتاب تحولات السينوغرافيا وآفاقها، وما عرفه مفهومها من تغيرات أثّرت بشكل إيجابي على مكانتها داخل الممارسة المسرحية، فبتخليها عن جانبها التزييني، وبانفصالها عبر سيرورة من التحولات عن الارتباط بمفهوم الديكور بوصفه عملية ملأ فراغ ما بقطع متعددة، فإنها “زكت سلطتها بوصفها لغة مستقلة، مستفيدة بشكل كبير من تقوّي سلطة المخرج المسرحي، مثلما تعددت قدراتها التعبيرية حين تحول السينوغراف من صانع منفذ إلى خالق مبدع، يوظف الوسائط والتكنولوجيات الحديثة كما هو حال “ما بعد الدراما”، حين صار الحديث عن دراماتورجيا بصرية مكثفة ومتزامنة، ما يدفع بالمتلقي ليؤلف دراماتورجيا خاصة به” (6).
وبعد توطيد مكانتها في الممارسة المسرحية، فإن التعالق بين السينوغرافيا والفنون التشكيلية والرقمية والبصرية والهندسة المعمارية قد غدا أمرا محتما، وتتجلى ملامح السينوغرافيا التي باتت توصف “بالسينوغرافيا الموسعة” في ما باتت تطرحه من أسئلة وإشكالات، مضافة إلى تلك التي تثيرها امتداداتها خارج مجال المسرح والفرجات الحية، في هذا السياق يستحضر الكتاب اعمال د. خالد أمين الذي طرح مفهوم “السينوغرافيا الموسعة” بوصفها حلا دراميا للفضاء، وبوصفها تقنية تهتم بطرائق توليد المعنى لتشكل معجما بصريا تتوضح أبجدياته أثناء سيرورة صناعة الفرجة وأثناء تلقيها أيضا، وبوصفها سليلة تصور مشترك “بين المخرج والسينوغراف والدراماتورج … إنها توجد في صلب الكتابة الركحية التي غالبا ما توصف بانها كتابة تحت كشافات الضوء تعتمد على ممكنات الركح بطريقة خلاقة ومتساوية ومتزامنة”(7).
ما يمكن استخلاصه بالإضافة إلى ما سبق هو أن للسينوغرافيا لغتها الخاصة التي لم تعد منحصرة في تمظهر واحد بسبب شساعة موضوعاتها، وزوايا تناول تلك الموضوعات، وشساعة الآفاق المفتوحة أمامها حين تدخل في نقاش مع الفضاءات والمواقع، إنها “مثلما تتمتّع بالقدرة على تأويل واحتواء جل الأماكن، فإنها في الوقت نفسه تستوعب في طياتها لغات، ووسائط متعددة يبرز بعضها أكثر من بعض وفق خصوصية كل تجربة” (8)، وإذا كان السينوغراف موكلا ” بتدبير الفضاء المسرحي” فهذا لا يعني بتاتا أن يعمل هذا الأخير بوصفه ملحقا يعمل فقط من اجل إضاءة النص الدرامي، أو مترجما إشاراته مشهديا، وقد يبدو لنا أن نتساءل عند هذا المستوى أين تتموضع بقية مكونات العرض المسرحي؟ أين يتموضع الممثل وجسده مثلا خلال هذا الانشغال كله؟
يجيبنا ع. المجيد الهواس بأن الاهتمام بالسينوغرافيا لا يمكن أن يحجب جسد الممثل ولا أن يلغيه بأي شكل من الأشكال، إذ يمكنه أن يظهر بشكل أكثر تميزا وهو محفوف بلغات أخرى متعددة ومكملة له، مكونات تلتحم بأفعاله وقوة حضوره لتغدو لغتها خاصية له، إذ بمقدور المؤثرات أن تنشئ انفعالات وتعبر عن أحاسيس متعددة تعفي الممثل من مشاق التقمص وعنائه، حين تتدخل الوسائط لتسند عمله، ولتؤازره، من أجل تقديم تعبير أكثر دقة وذا إيحاءات أكثر قوة.
ختاما، يقدم الكتاب إجابات شاملة بلورتها سنوات من الممارسة في المسرح المغربي إبداعا وتنظيرا، والاحتكاك بالمسارح الشرقية والغربية عن الأسئلة التي يثيرها في خضم تناوله للمفاهيم والإشكالات المطروحة، ولكنه مع ذلك لا يستصدر حق القارئ في الإدلاء برأيه، تاركا له مساحات تستفز تفكيره وتجعله يبحث بدوره عن أجوبة انطلاقا من موقعه، ما دامت عملية الابداع في المسرح عملية مشتركة بين المبدع بتعدد مهامه وصفاته والمتلقي بتعدد درجات وعيه، ومادام الحوار ممكنا مع المتلقي عبر وساطة الركح عرضا، وتنظيرا، وتأليفا، وانشغالا.
هوامش وإحالات
(1): خالد أمين، المسرح والهويات الهاربة، رقص على حد السيف، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة- سلسلة رقم 63، ص 186.
(2): يشار في هذا السياق إلى أن السينوغرافيين المغاربة أسسوا “جمعية سينوغرافي المغرب” بتاريخ 30 شتنبر 2018، ورغم المشاكل التي واجهتها الجمعية، إلا أنها خلت نقاشا حول مجموعة من القضايا أبرزها ما يهم حرفة السينوغرافيين ووضعهم الاعتباري بوصفهم ممارسين ما يزال البعض يرفض التعامل معهم بوصفهم مبدعين مستقلين عن أية تبعية لأي عضو من أعضاء فريق الإعداد للعرض المسرحي.
(3): عبد المجيد الهواس، السينوغرافيا بين الأثر الفني والجسد الفرجوي، الهيئة العربية للمسرح، الطبعة الأولى، سنة 2023، ص 6.
(4): نفسه، ص 35-34، بتصرف.
(5): نفسه ، ص 35.
(6): نفسه، ص 95.
(7): خالد أمين، المسرح والهويات الهاربة، نفسه، ص 186.
(8): عبد المجيد الهواس، السينوغرافيا … نفسه، ص 104.
ذ. رشيد بلفقيه