يتفق الجميع على ان الموهبة هي اساس كل عمل، وبدونها لا يمكن للمتعلم ان يطور نفسه او يكون مبدعا، بل سيبقى طيلة حياته العملية مقلدا لمعلمه، وما يشاهده في حياته اليومية، وطبعا هذا الامر يعم كل التخصصات العلمية منها والفنية، فلا يمكن لغير الموهوب ان يتعلم العزف مثلا او الرسم، ولا يمكنه ان ينطق بكلمة واحدة على خشبة المسرح مادام لا يملك تلك الموهبة، نعم يمكن ان يكون بمرور الزمن يتعلم التمثيل، ولكن لا ولن يمكن ان يكون مبدعا او مبتكرا فهو لا يمكن ان يتجاوز كونه مقلدا للمخرج او الى ممثلا اخر اعجب به في يوما ما.
ولهذا عندما دخل عزيز الكعبي لمجال المسرح لم يكن دخوله عاديا، او انه اقحم نفسه في مجال لم يتمكن منه، بل كانت موهبته هي من دفعته بهذا الاتجاه الصعب، فراح يطور نفسه من خلال مشاركته مع فنانين سبقوه في مجال المسرح، كما انه كان يلاحق الاعمال المسرحية في اي مكان من اجل مشاهدها والاستفادة من الدروس التي يعتبر منها من قبل الممثلين، او كل ما يدور على خشبة المسرح، لذلك اصبح فيما بعد مؤلفا وممثلا ومخرجا لكثير من الاعمال المسرحية.
ولد الفنان عزيز علي عزيز الكعبي في محافظة البصرة عام 1926، ودخل مجال الفن المسرحي في الاربعينات، متأثرا بما يشاهده من عروض مسرحية وافلام سينمائية، كما كان للفرق الزائرة تأثير كبير في زيادة وعيه ومعرفته في اساسيات المسرح – يذكر ان فرقة يوسف وهبي زارت محافظة البصرة وقدمت عرضا مسرحيا على مسرح نادي الموظفين في محلة الساعي، والتي تمكن حينها الطفل عزيز الكعبي من مشاهده عملاق المسرح العربي يوسف وهبي، اثناء بيعة لمادة (النامليت) على الجمهور، كما زارت البصرة فرقة جورج ابيض، والذي تمكن الكعبي من العمل معهم (كومباراس)، وفي الاربعينات زارت فرقة فاطمة رشدي محافظة البصرة، وقدمت عروضا عدة، وعادت في الخمسينات فرقة يوسف وهبي الى البصرة وقدمت عرضا مسرحيا على قاعة سينما الحمراء الصيفي – ، مما دفعة عام 1943مع لفيف من أصدقائه الى تشكيل جماعة ليقدموا مسرحية (لاوفاء بالحياة)، الذي شارك فيه (سيد مجيد سيد خالد، ومحمد البطران، وعبد الودود الرديني، وعبد الواحد امين)، وقد طرحت المسرحية اشكال الاضطهاد بقضايا رمزية، مثل امور الحب والغرام وسيطرة بعض الرموز على منابع الحياة .
كان ولع الكعبي وحبه للمسرح يدفعه دائما الى بغداد العاصمة، لكي يشاهد العروض المسرحية التي تعرض على قاعاتها الكبيرة والمتكاملة، فقد سافر عام 1948، الى بغداد وشاهد مسرحية (شهداء الوطن) وهي من تأليف فيكتور بان ساردو واخراج ابراهيم جلال،كما شاهد الفصل الهزلي الذي كان مرافقا للعرض وهو من تأليف خليل شوقي. من هنا تشكلت ترسانة الكعبي الفنية والثقافية، لذلك كان يسعى ويجتهد من اجل تقديم اعمال مسرحية دون انقطاع، ولكونه لم يدرس علوم المسرح لذلك كانت بداياته متواضعة، حيث كان هو وجماعته يعملون بالفطرة واحيانا تكون بعض افعالهم غير مدروسة، وكل ما يمكنهم تقديمه هو اجتهادات شخصية، ومشورات من بعضهم البعض، مع اضافات بسيطة مما يشاهدوه من محترفي التمثيل، وكانت حركة الممثل من مكان لأخر ليس عن دراسة علمية او تعبيرا لحالة يتطلبها المشهد او الحدث المسرحي، بل كانت الحركات فقط من اجل عدم ضجر المشاهدين، لذلك كانت ارشادات المخرج تركز عادت على الحفظ والتمسك بالحوار، والحركات البسيطة والمتواضعة، ورغم هذه البساطة فلم يتناسوا ان العرض المسرحي له عناصره ومكملاته، من ازياء ومكياج واضاءه، فكانوا يتعاملون مع هذه العناصر بجدية لاعتقادهم وايمانهم بأهميتها ، وهي من تكمل العرض المسرحي.
لم يحلم الكعبي يوما بان يكون فنانا، ولم يسعى لذلك، كان كل همه ان يعمل في المسرح، ويعبر عن سخطه للمحتل الذي كان يحتل بلده، وكان زملائه (عبد الودود الرديني، وتوفيق البصري، وخالد سيد امين، وعبد القادر النائب، وعبد اللطيف الكلدار، وزكي الساعدي، واحمد الرديني، ومجيد العلي، ومحمد الجزائري…. واخرون) يشاركونه هذا الهم، لذلك كانت اعمالهم الشعبية، تطرح القضايا الاجتماعية وتندد بالمحتل، وكانوا يؤلفون مجتمعين نصوصهم المسرحية، معتمدين على ما يسمعونه من حكايات الناس اثناء لقاءاتهم بهم في المقاهي او في محال سكناهم، ثم يحولون هذه المعاناة الى نصوص مسرحية يتدربون عليها ويقدمونها على خشبات مسارح المدينة، دون ثمن، كانت سعادتهم هي اسعاد الناس وتقديم كل ما يفكرون به في حياتهم اليومية.
دخل الكعبي المسرح عن حب حقيقي لازمة طيلة فترة عمله، لذلك كان يقدم للمسرح كل ما يمكنه تقديمه، حيث كان يستمتع بترتيب وتنظيم القاعة وتنظيفها دون خجل، بل كان يعمل بنكران ذات مفرط، بالإضافة الى ادخال عائلته معه في اكثر الاعمال التي قدمها على خشبات المسرح. بعد زواجه عام 1960 كانت (سميرة) زوجته احدى الممثلات التي شاركته همومه المسرحية والاجتماعية ، وقدمت اعمالا مسرحية، وقد اخذ الكعبي على عاتقه تحفيضها وتدريبها على الادوار المسرحية، حتى اصبحت فيما بعد واحدة من الممثلات المرموقات، واخذت الفرق المسرحية والمخرجين يطلبونها في اعمالهم، بعدها انضمت (احلام) ابنته الى فرقته وعملت معه اكثر اعماله التي عرضت داخل المحافظة، والتي خلدت ذكراها بعد ان قضى عليها مرض عضال.
رغم ان الحياة لم تسعف الكعبي بان يتعلم علوم المسرح، فلم يكن حينها معهدا مختصا للفنون المسرحية، ولا ورش تقام لتدريب الفنانين المسرحيين، لذلك اعتمد على طاقته وحبه في تطوير مهاراته الفنية والتقنية، وزاد من متابعاته للعروض التي تقام في المحافظة او خارجها، كما انه لم ينقطع عن متابعة الافلام الاجنبية والعربية في السينمات المنتشرة في المحافظة.
عام 1954 انظم الى فرقة نادي الاتحاد الرياضي، وعمل مع الفنان توفيق البصري وشاركه في جميع اعماله في تلك الفترة، بعدها وفي عام 1959 اسس الكعبي الفرقة الفنية لنقابة السينما وقدم اول عمل له من تأليفه واخراجه، يذكر ان العروض المسرحية في الخمسينات لم تكن الا بمثابة فرجة متنوعة الاشكال، فقد كان المسرح جزءاً من فاعلية اجتماعية وسياسية اريد من خلالها ان يتعرف المشاهدين على رأي الفنان الملتزم بقضايا الشعب، كما تميز الكعبي هو كذلك في هذه الفترة باستقطاب الجمهور والممثلات مخترقا التابوات القديمة التي كانت تمنع الممثلات من الصعود على خشبة المسرح، كما كانت للكعبي الريادة في اظهار (الأُسر المسرحية)، حيث لم تفارقه زوجته سميرة ولا ابنته احلام طيلة عمله في المسرح.
عام 1961 اسس الكعبي مع الفنان محمد الجزائري الفرقة المسرحية لنادي شركة نفط البصرة، وكان اول عمل لها هو مسرحية (ابو نسوان اثنين)، وهي من تأليف الكعبي واخراج محمد الجزائري، وقد شاركته زوجته سميرة الكعبي (ام سعد) اول مرةفي هذا العمل، كما تضمن العمل مشهدا بانتومايم، في عام 1969 ترأس فرقة نادي الاتحاد الرياضي خلفا للفنان توفيق البصري ،- الذي رافقة في اعماله المسرحية طيلة فترة الخمسينات-،وقد سبق للكعبي ان قدم لهذه الفرقة للفترة من عام 1967 الى عام 1969 ثلاث مسرحيات (الغلطة الكبرى، ودفعت الثمن غالي، واغنية ساعي البريد)، وكل هذه الاعمال من تأليفه واخراجه ، وشاركته زوجته الفنانة سميرة الكعبي وابنته احلام الكعبي،هذه الاعمال، كما شاركه الفنان صالح السوداني،كذلك قدم الكعبي مسرحية (الصيادون والتفاحة)، في عقد الستينات على قاعة (نادي الاتحاد الرياضي) وهي من تأليفه واخراجه، وكانت من نوع (البانتومايم). بعدها انظم للفرقة الكاتب والمخرج موسى جاسب وقدمت له الفرقة مسرحية (نعجةشلتاغ) عام 1970، وعام 1972 مسرحية (حقيقة الوليد) بعدها ومسرحية (مفاديس لابد ان تعود) عام 1973، بعدها قدمت الفرقة مسرحية (القضية 77)، المعدة عن رواية إسماعيل فهد إسماعيل، ومسرحية (ملف الحادثة 67) وكانت هاتين المسرحيتين من اخراج موسى جاسب عام 1979، وفي عام 1968 تمكن الفنان عبد الصاحب امير من اقناع الكعبي بتقديم مسرحيته (الخطأ)،وكانت هذه التجربة مجازفة كبرى، كون الكعبي لم يتعود على إخراح الاعمال المسرحية باللغة الفصحى، وكذلك الجمهور، الذي تعود هو ايضاً ان يشاهد الكعبي في اعمالاً شعبية، لكن الإرادة والاصرار على تطوير قابلياته الفنية نجح في اخراج العمل لصالح جماعة الجنوب المسرحية، وكان له صدا كبيراً في نفوس الجمهور،كما شارك عام 1970 مع الفنان خضر البدري في تقديم مسرحية (بنت الشيخ) لنادي الفنون، وقد طور نفسه فيما بعد بشكل كبير عندما اصبح احد اعضاء الفرقة القومية للتمثيل في البصرة عام 1976، مع ثلة من فناني البصرة منهم (اسعد عبد الحسين، ومحمد سعيد الربيعي، وعادل الجبوري ، وفيصل حسن وشاكر العطار…. واخرون). حيث كانت الفرقة تقدم اعمالا مسرحية متنوعة، وكان يقودها مخرجين محترفين، قدموا اعمالهم وفق المدارس والمذاهب المسرحية المعمول بها اكاديميا، وهنا تعلم الكعبي بعضا من هذه المذاهب والمدراس فقد تعرف على الواقعية والطبيعية، التي كان يجهلها ولم يكن يوما قد تعامل بها في اعماله التي اخرجها سابقا، رغم انه كان واقعيا.
رحل الكعبي مخلفا وراءه ارثاً مسرحياً كبيراً تجاوز الـ(45) عملا مسرحيا بين مؤلفاً، ومخرجاً، وممثلاً، كما ترك لنا (30) مخطوطة مسرحية، رحل الكعبي عن حياتنا، لكنه لا زال حاضرا في ذاكرة محبيه، والذين عمل معهم وتعاون معهم في تقديم معاناة الشرائح الاجتماعية المتنوعة يعيشه، وبقت الفرق المسرحية التي اسسها (الفرقة الفنية لنقابة السينما، وفرقة نادي نفط الجنوب، وفرقة عزيز الكعبي، وفرقة نادي الاتحاد الرياضي، وفرقة الفنون المسرحية) تتذكره في كل حين.
المصادر:
- عبد الاله عبد القادر، لقاء مع الفنان عزيز الكعبي، مجلة المرفأ، العدد36.
- د.عبد الفتاح عبد الامير مرتضى البصري، تاريخ المسرح في البصرة(1917-1968)
- مجيد عبد الواحد النجار، المسرح البصري في خمسة عقود.
- مقابلة اجراها الباحث مع الفنان واديب عبدالصاحب ابراهيم