تأتي مسرحية “الحفيد” التي يقدمها المسرح القومي الآن, كاندفاع غير مسبوق إلى ردة فكرية وفنية مفزعة, تعلن بوضوح سافر عن موت الوعي والمعنى والفكر والجمال, تتبنى الزيف والاستلاب والتغييب, تكرس لسقوط الهوية ومنظومات القيم, وتستبيح العقول والعيون والإدراك, وإذا كانت مسرحية “الحفيد” لا تليق بالمسرح القومي المصري العريق, فإنها لا تليق أيضا بالمسرح بشكل عام أيا كانت هويته, فالتجربة شديدة التواضع لا تمتلك شرعية الانتماء للفن, تغييب عنها الأصول المبدئية للدراما وقيم الجمال وحرارة التواصل وفلسفة الطرح, تتجه نحو التصعيد المستفز للخسائر الفكرية والثقافية, كل مفردات العرض كانت دون المستوى, ولا شييء سوى الإسفاف والركاكة وإهدار الحس والذوق, والاستهانة بقضايا الواقع وعقول الناس .
من المؤكد أنه حين تختل القيم الجمالية وتغييب المعايير الفنية, نصبح أمام مواجهة حتمية لسقوط الفن والمعنى والرسالة, حيث تذوب الحدود الفاصلة بين المفاهيم المبدئية المعروفة علميا, وبين ذلك الخلط العشوائي المخيف, الذي أثاره عرض الحفيد, وقد كان من المؤسف أن يشهد المسرح القومي المصري تلك المحاولات البائسة, التي يقدمها فريق عمل المسرحية للوصول إلى مستوى عروض مسرح مصر, التي أدانها المسرحيين والمفكرين والمثقفين, فتأتي أكثر لحظات مسرحية الحفيد إبهارا وانضباطا هي تلك التي قدمتها الفنانة زينب العبد بأسلوب نجمات مسرح مصر على مستوى الأداء السوقي والحركة الوحشية والحوار المبتذل والملابس والإيقاع .
هذه التجربة من إنتاج المسرح القومي, لمؤلفها الروائي عبد الحميد جودة السحار, وقد تناولتها السينما المصرية عام 1975 في فيلم شهير بنفس الاسم, لا يزال يعرض على الشاشات التليفزيونية حتى الآن, باعتباره من الأعمال الاجتماعية الكوميدية الناجحة, التي تناقش ببساطة قضايا الأسرة والمرأة والزواج والعادات والتقاليد, أما مخرج عرض “الحفيد ” وصاحب إعداده المسرحي فهو الفنان يوسف المنصور, الذي قام أيضا بتمثيل أحد الأدوار في المسرحية, وفي هذا السياق يدخل المخرج الزاوية الحرجة, ويعيش لحظة فارقة في حياته الفنية, فقد ترددت أصداء نجاحه العارم في تناوله لمسرحية “أفراح القبة” لمسرح الشباب , والتي جاءت بالفعل شديدة التميز, تحمل بصمات مخرج يمتلك الوعي والرؤية والدهشة وسحر الإيقاع, ولعل ردود أفعال هذا النجاح الذي يرتكز على خبرات عديدة سابقة مع الهواة والمسرح المستقل, هي التي دفعته إلى عالم الاحتراف في أكبر وأعرق مسار مصر, ولكن يبدو أن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن, فتباعدت مسرحية “الحفيد ” عن وهج الصعود وإيقاعات النجاح.
اتجه منظور الإعداد نحو المزج بين تفاصيل الرواية وملامح الفيلم والإضافات العديدة ليوسف المنصور, فجاء النص المسرحي طويلا مملا ومهترئا, يتجه بقوة نحو الكوميديا الصاخبة والافيهات الساخنة والتلميحات الجنسية الفاضحة, ويظل دور الأم زينب هو مركز ثقل العمل, حيث مشروع زواجها من المطرب نعناع أخضر حبيبها السابق, فقد عاشت عشرين عاما مع زوجها المريض, وبعد وفاته أصابها المرض النفسي وحاصرها الكبت وشعرت علي المستوى اللاواعي بأعراض الحمل, وفي هذا الإطار اتجه منظور الإخراج إلى التباعد عن مفاهيم التصاعد الرأسي المنطقي, والاتجاهات الخطية الواضحة, وتبنى واقعا دراميا مغايرا يرتكز على قطعات المونتاج, والسيطرة على الزمن, وتقنيات الفلاش باك, والضوء الدرامي, وامتداد التمثيل من خشبة المسرح إلى البنوار الأول من اليمين واليسار وكذلك الصالة .
تأخذنا البدايات إلى حالة من الأفول الحاد لتيارات الفن, الأم تحكي لأبنائها الآن عن فرحها منذ أربعين عاما, عن حبيبها الذي تركته, وزوجها الرجل الطيب الذي أصبح أباهم, خشبة المسرح تموج بالرقص والغناء الهابط, لنتعرف على تفاصيل فرح الماضي, الانتقال إلى الحاضر عبر الضوء والحركة يأخذنا إلى الطبيب النفسي الذي يعالج الأم ، أسلوب الفلاش باك يتقاطع مع إشكاليات الحاضر وتفاصيل عذابات الأبناء مع الأم التي تمارس عليهم تسلطا مخيفا, تلك الحالة التي ستتوقف تماما في النهاية حين تعترف الأم بحق الأبناء في الحياة والحرية والإرادة والاختيار, فيغني الجميع للحياة الحلوة.
شارك في المسرحية النجمة لوسي, عابد عناني, تامر فرج يوسف المنصور , زينب العبد وغيرهم من الشباب .
كان الديكور لحمدي عطية , والموسيقى لكريم عرفة , والملابس لمروة عودة , والإضاءة لحازم أحمد.