في ديوانه الموسوم (المسرح والمرايا) يقدم الشاعر (علي أحمد سعيد) المشهور باسم (أدونيس) مجموعة من القصائد، يرتبط عنوان أغلبها بــ (المرآة)، ويبدو أن الخصائص الدرامية تشتغل في هذا الديوان ابتداءً من عنوانه؛ الذي يذكر – منذ التأمل الأول – بالمقولة السائدة التي ترى أن المسرح مرآة عاكسة للمجتمع، من جانب آخر فأن العنوان يحيل المتأمل إلى ما أطلقت عليه تسمية (مسرح المرآة) الذي أشتغل عليه الكاتب الايطالي (لويجي بيرانديلو) كثيرا، فضلا على: أن اقتران المسرح بالمرايا يوحي بأن هناك كشفاً و إضاءة لما هو مخفي وظاهر على حد سواء، وأن هذا الكشف وهذه الإضاءة يتمان بواسطة صادقة لا تقبل الكذب هي المرآة .
وتتجلى درامية الشعر في هذا الديوان في مواضع عديدة، وأول تلك المواضع هـو ما يرد في قصيدة (مرآة الرأس) الذي أفادت من إمكانات الحبكة الدرامية المتضمنة لبداية ووسط ونهاية، إذ بالإمكان تعيين مسار الحبكة وتطورها خلال المراحل الثلاثة المذكورة، فمرحلة البداية التي تبدأ بعمليات التهيئة ونصب الفخاخ وتهيئة وسائل الهجوم أو مرحلة ما تعرف مرحلة(جمع العوامل القابلة للاشتعال) – كما يسميها كريفش(1) – التي يمكن أن تلحظ في قول الشاعر:
((سايرته،رصدته / تغلغلتُ في جفونه / أيقظت كل شهوتي هجمتُ واحتززتهُ / وجئت))(2).
وإضافة الى هذه البداية المتوترة، التي تشير إلى عوامل المخاتلة والخداع؛ تلاحظ هيمنة حركة الأفعال خلال هذا المقطع، فمن مجموع كلمات هذا المقطع البالغة (11) كلمة، يلاحظ وجود (7) كلمات تمثل أفعالا، وهذا يشير إلى مقطع تتمظهر دراميته بامتياز، لأن عماده الأساسي هو الفعل، والفعل – كما هو معروف – هو عماد الدراما. فضلا عما يشير إليه المقطع من وجود شخصين، أحدهما مراقـِب والثاني تدور في داخله المناجاة الفردية أعلاه.
بعد ذلك تأتي مرحلة الوسط التي تتضمن التصعيدات والتوترات التي تنتجها تعقيدات المواقف، وتظهر تلك المرحلة بعد رجوع الجاني إلى داره، ليدور بينه وبين زوجته حوار درامي صريح؛ كما هو واضح في المقطع الآتي:
((ـ أوحشتني،أطلت،كيف؟
ـ أبشري،جئتك بالدهر، بما لا لدهر
ـ من أين، كيف، أين؟
ـ برأسه ….
ـ الحسين))(3)
إّذ فضلا عن التعقيدات التي يشار إليها في المقطع المذكور، فأنه يمكن الإشارة إلى أن هناك حركة لشخصيتين، وحوار مشحون بتوتر درامي يدور حول جريمة وجناية ومعتدٍ ومعتدى عليه، وهذا ما يشكل أركان دراما واضحة.
بعد ذلك تأتي نهاية هذه الدراما القصيرة في خاتمة تكشف عن اشمئزاز الزوجة من فعل زوجها وتقريعها إياه على ما أقترفه من جريمة، يعقب ذلك بروز النقطة الحل التي تتمثل بقرار المرأة: الانفصال عن زوجها؛ في نهاية درامية مميزة:
((ويلك يوم الحشر / ويلك لن يجمعني طريقأ وحلمأ ونوم / إليك، بعد اليوم..))(4).
أما قصيدة (الرأس والنهر) فأن الدرامية فيها لا تقتصر على وجود حبكة متكاملة فحسب؛ وإنما يمكن ملاحظة وجود تعددية في الشخصيات والأصوات، فضلا عن ظهور للجوقة، والشاعر في هذه القصيدة يسمي الشخصيات، بل يصف ردود فعلها ويحدد حركاتها، مبيناً اختلافها عـن بعضها، كما هو واضح في المقطع الشعري الآتي:
((شاب: (بصوت ضعيف): الحرب زريبة غنم …
شيخ: (بنبرة من المرح): قالوا إن الحرب حقيبة (يصمت. يتابع بشيء من الجد) لو أن الحرب حقيبة
لملأناها خرزا وجلسنا فيها وصبرنا..
شاب: (يظن أنه كان جنديا) قالوا إن الحرب وسادة (يتمدد كمن يحاول أن ينام) وأنا الوسن))(5)
ولا يمكن لأي قارئ أو متلقٍ لأبيات المقطع الشعري الماضي أن يحير في ملاحظة أن الشاعر في هذه القصيدة، استعار بشكل صريح أسلوب كتابة النص المسرحي على شكل حوار متدفق بتواصل مستمر، ليجعله أسلوبا أساسيا في كتابة قصيدته.
وإذ تأتي درامية الأفعال في القصيدة الشعرية من خلال حركتها وتحرريتها؛ فإنها تأتي في القصيدة التالية متنوعة أيضاً، فهي إضافة إلى دراميتها؛ فأنها تصلح للقيام بوظيفة البدائل التعبيرية التي تسعى لتأكيد صورة شيء واحد، إذ يصبح الفعل المتحرر فيها؛ نتاجا لأ يشيء سواء كان أنسانا أوجمادا آو حيوانا أونباتا وسواء كان النتاج موصوفاً أم مجردا، فالشعر يفيد كثيرا من تعددية الأفعال وتنوعها وتجاوزها للمألوف، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في قصيدة (أدونيس) الموسومة (مرآة القرن العشرين):
((تابوت يلبس وجه طفل / كتابٌ يُكتبُ في أحشاء غراب / وحشي تقدم، يحمل زهرة / صخرة تتنفس في رئتي مجنون / هو ذا /هو ذا القرن العشرين))(6).
ويتضح من المقطع أعلاه؛ أن أفعالاً خمسة تلخص حركة الصور المتتالية؛ بل
تمثل جوهرها، فالفعل الأول (يلبس) الذي ورد في الشطر الأولي وحي بصورة الاحتيال والخداع؛ إذ أن صورة الحقيقة هي (التابوت) غير أن هذه الحقيقة ارتدت قناعاً هو صورة الطفولة، ومن دلالات الطفولة : البراءة والحياة الجديدة والمستقبل المضيء، وهي نقيضة لدلالات التابوت التي تشير إلى الموت ونهاية العمر، ونهاية الإنسانية، وبالتالي فأن الفعل أخذ دراميته من خلال الصراع بين الحقيقة الخشنة المّرة وبين الوهم البريء الرقيق، وهكذا فأن الفعل– هنا – تحرر من معناه الأساسي وأكتسب دلالة تعبيرية جاءت بديلة لمعناه الحقيقي . أما في الشطر الثاني فأن الفعل (يُكتب) يأتي مقترنا بالكتاب؛ غير أن هذا الكتاب لا يشتمل على صفحات بيضاء وإنما يشتمل على أحشاء طير يرتبط – مجرد ذكره–بالتشاؤم والسواد والظلمة، لذا فأن الكتاب – هنا – أقترن بالسواد كتابة وصـفحات، ومع أن الصورة تأتي استمرار الصورة الموت الواردة في الشطر الأول؛ غير أنها أصبحت أكثر قتامة وفضاضة وخشونة ، فلم يعد هناك قناعاً يجمل الصورة خارجياً؛ بل أن الفعل ينفذ في الشطر الثاني إلى أحشاء السـواد، وبالتأليف أن سـواد الكتابة على سـواد الصفحات التي تكتب عليها تلك الكتابة؛ يجعل من الاستحالة بمكان؛ قراءة الكتاب الذي يكتب بهذا الشكل، وللدلالة التعبيرية فأن الشطر يوحي بأن هذا الكتاب غير صالح للقراءة لأنه كُتب بأحشاء السواد. ويأتي الشطر الثالث ليزيد الصورة الدرامية قسوة عندما يجعل الوحش يتقدم حاملا زهرة، والوحش إذا تقدم – في العادة–فهو يحمل علامات الخطر المميت لمن يتقدم عليه، غير أن الوحش يحمل – هنا – زهرة، وهذا الجمع في المتضادات يشكل توتراً درامياً يزيد من قسوة الصورة وفظاظتها. والجمع بين المتضادات وما يحمله من معانٍ للصراع والتوتر يتكرر في الشطر الرابع؛ إذ يلاحظ وجود جمع بين حركة الحياة (التنفس) وبين جماد الصخرة (الموت)؛ مع الالتفات الى أن حركة التنفس تأتي متسارعة لأنها تحدث في رئتي مجنون يلهث هارباً من الوحش المتقدم؛ في مقابل صورة الصخرة الجامدة الميتة التي لا حركة فيها.
وكلما تقدم من صورٍ قاسيةٍ وفظة ٍتصل حد البشاعة؛ جعلها الشاعر تعريفاً وبياناً لتصوره عن القرن العشرين، فهو هنا يستعين بـ(المفارقة الدرامية) أسلوبا يفاجئ القارئ به من ناحيتين الأولى من ناحية (كسر أفق التلقي)، والثانية من ناحية السخرية القاسية التي تصل مستوى (الجروتسك) البشع.
أما على صعيد الصراع الدرامي، فبالإمكان نتلمس عنف هذا الصراع وحدته في القصيدة الموسومة (الشهيد) التي يقدم الشاعر فيها احتداما للمشاعر وتضاربها في أسطر قليلة تكشف مرارة الألم والصراع النفسي الذي يعاني منه الشاعر عندما يرى صديقاً له يرقد شهيدا أمامه:
((حين رأيتُ الليل في جفونـهِ الملتهبة / ولم أجدْ في وجههِ نخيلاً / ولـم أجدْ نجوماً،/ عصفتُ حول رأسهِ / كالريح – وانكسرتُ مثلَ قصبة))(7).
والصراع النفسي يحتدم هنا؛ في هذا اللقاء الصادم بين صورة هذا الصديق / الشهيد السابقة وبين صورته الحالية، فالصورة القديمة كانت تشير إلى وجود نخيل ترتسم على محياه، بكل ما للنخيل من عطاء وخضرة وخيلاء ونعمة، وكان يرى على محياه – أيضا – نجوما تتلألأ؛ دلالة على ما في عينيه منبر يقٍول ماحةٍ وذكاءٍ، أما الصورة الحالية فهي صورة منطفئة كالليل وجفون محمرة ملتهبة تشير إلى أنها اما سهرت طويلا أو بكت كثيرا، لذلك فأن حزنه على هذا الفقيد/الشهيد لا يكون حزناً شفيفاً بل يكون حزناً عاصفاً، أنه سورة من البكاء والنحيب الحادين مصاحبة بقوة انفعال وجداني يضاهي عصف الريح في قوته،ومثل هذا الحزن العاصف لابد أن تكون نتائجه عاصفة بصورة أشد، فها هو الشاعر ينكسر تماما مثل قصبة رقيقة أمام ريح عاصف، وهنا يجمع الشاعر مرة أخرى بين متضادين، الأول (عصف الريح) بهيجانه وقوته، والثاني (القصبة المكسورة) التي تدل على الضعف والانكسار وتلاشي القوة.
من ناحية أخرى؛ فإن البدائل عما هو أنساني؛ التي عمد إليها الشاعر تشير كل صورة منها إلى مستوى صراع مختلف عن الآخر، الأول صراع قوة يمثله عصف الريح واحتدامها، والثاني صراع ضعف تعاني منه القصبة المكسورة. بل إن نظرة ممعنة في القصيدة أعلاه؛ تجعل الباحث يرى أن هناك مستويين للصراع غير ما تم ذكره، يظهر أولهما في العيون الملتهبة سهرا أو بكاءً، إذ لا يمكن أن تلتهب العيون إلا نتيجة صراع ما، سواء كان نفسياً أم مرضياً، وثانيهما يتمثل بصورة الشاعر الحزين الذي فقد عزيزاً عليه.
ومن المفيد – أخيرا – أن يشير البحث إلى أن القصائد التي حملت عنوان (المرآة) في ديوان (المسرح والمرايا) للشاعر (أدونيس)،يمكن مقاربتها بـ(ثنائية الوهم / الحقيقة) التي وردت فيما يعرف بـ (المسرح داخل المسرح) ، فالمسرح الإطار هنا هو الحياة بكل تناقضاتها وأقنعتها، والمسرح الداخلي هـو (المرآة) الداخلية؛ مرآة الروح التي تكشف الحقيقة المخبأة تحت أقنعة الحياة، وليست المرآة المادية التي تعكس الصورة الخارجية فقط.
الهوامش:
- ينظر: ستيوارت كريفش ،ترجمة: د. عبد الله معتصم الدباغ ، بغداد: دار المأمون للترجمة والنشر،1986 ، ص:28.
- أدونيس ،ديوان (المسرح والمرايا)، بيروت: منشورات دار الآداب ،1988 ، ص:83.
- المصدر نفسه ، ص: 83.
- المصدر نفسه ، ص: 83.
- المصدر نفسه ، ص: 93 – 94 .
- المصدر نفسه ، ص: 173.
- المصدر نفسه ، ص: 223.