في الجزء الأول من مقالتنا عن الفنان الراحل (سامي عبد الحميد) اقتصرنا على تحليل قولنا في (معلم الأجيال: سامي عبد الحميد) كيف أنه كان رجلا يعمل بطاقة وفاعلية عشرة رجال في آن واحد؛ أما هذا الجزء فنحاول تسليط الضوء على عدد من الدروس والعبر التي تعلمناه على يدي هذا الفنان والمعلم الكبير؛ وهي – في الحقيقة – دروس وعبر لا يمكن إحصاؤها أو حصرها في مقالة واحدة أو في عشرة مقالات؛ وحسبنا أننا سنبين أكثرها نفعا وأبقاها ذكرا؛ من الدروس والعبر التي كنا شهودا عليها؛ وفي أدناه بعض منها:
- في الفقرة الأولى من الجزء الأول ذكرت أني سأتحدث – لاحقا – عن مقترح جمالي متفرد لأستاذنا(السامي عبد الحميد) وقد أجلت ذكر الحديث عنه لأني وجدت فيه عبرة وموعظة لكل فنان مهما بلغ مستواه الإبداعي؛ ومهما أنجز من تفرد أو مهارات أو حصل عليه من جوائز وتكريمات؛ ففي أثناء التدريبات النهائية على مسرحية (الرهن) التي قدمت عام 1985 وكانت من تأليف طيب الذكر: عبد الأمير شمخي وإخراج : (السامي عبد الحميد) قدم كافة العاملين في المسرحية أقصى ما لديهم من جهود ؛ بل أنهم قدموا عرضا رشيقا وجذابا كان محط أعجاب وإثارة لكل العاملين ؛ وبدلا من أن يعلق أستاذنا (سامي عبد الحميد) على ما قدمناه كما تعودنا بعد نهاية كل تدريب – وكنت أنا أحد الممثلين الرئيسين فيه –فوجئنا بخروج أستاذنا مسرعا من قاعة التدريب بادياً على الانزعاج؛ وبحكم قربي منه سواء في الكلية أو الفرقة؛ فقد لحقته مسرعا وسألته عن سبب انزعاجه وقلت له بالنص: ألم تكن راضيا عن البروفة؟ فأجاب: بلىكنت راضيا جدا عما قدمتموه. فقلت: أين المشكلة أذن؛ رد عليّ قائلا: أنها هي المشكلة، قلت لم أفهم؛ قال: المشكلة أني كنت راضيا جدا على البروفة وراضيا جدا عما توصلتُ إليه من رؤية ومقترحات؛ وهنا عقدت الدهشة لساني؛ فكيف يكون راضيا وكيف تكون تلك مشكلة في الوقت نفسه؛ وهل يمكن أن يشكل رضا الإنسان لما توصل إليه من جهد؛مشكلة له؟!! قلت: أستاذي أن عقلي لا يستوعب ما تقوله إطلاقا؛ وأرجو أن لا تكون مازحا أو مستهزئا بما أقول؛ قال وبجديته المعهودة: أبداً؛ أنا جاد فيما أقول وأنا أقصد ما أقوله تماما؛ قلت: أستاذي أفهمني؛ فإن عقلي لا يستوعب ما تقوله؛ قال لي بالحرف الواحد – قولا ما أزال حين أتذكره أرتجف خوفا ويزداد قلقي على كل ما أفعله :- أسمع يا مجيد .. إن الفنان حين يرضى عن نفسه يوما ما؛ فعليه أن يكتب شهادة وفاته بنفسه في ذلك اليوم!!!!!!!!!!!!!!!!…هل هناك بعد هذا القول عبرة أبلغ ودرسا أنفع لكل فنان مهما بلغ من مستويات الإبداع والإنجاز؟
- من لحظات الأبداع الكبرى التي لا يمكن أن تنسى؛ تلك اللحظة التي كان فيها أستاذنا يمثل المشهد الأخير من مسرحية (الملك لير) إخراج: أستاذنا المبدع الكبير (د. صلاح القصب) وذلك أثناء عرضها على خشبة مسرح الرشيد؛ ضمن فعاليات أحد المهرجانات المسرحية العربية التي أقيمت ببغداد؛ وعندما يقول (الملك لير) قولته الشهيرة: هلأنا لير؛ هل هذا لير؟! ؛ فأن أستاذنا (السامي) يكون في مقدمة خشبة المسرح؛ وعند إلقاءه للمقطع الأول من العبارة يتقدم الى الأمام؛ لتهبط مقدمة خشبة المسرح فجأة مع نطقه لكلمة (أنا) ويهبط معها هو بخطوة نحو الجزء الهابط من الخشبة؛ ونظرا للمشاعر المشحونة التي احتشدت في نفوس المتلقين ونظرا للإداء المتفرد الذي كان يقدمه أستاذنا؛ فإن جميع من في القاعة شهق فزعا من خوفهم على (الملك لير) من أن يسقط أرضا بعد ذلك الهبوط المفاجئ لمقدمة خشبة المسرح. وأشهد أنها كانت لحظة إبداعية لا يمكن أن تتكرر؛ تعلمنا منها درسا –نحن المختصون-عن كيفية قدرة الممثل على توحيد أيقاع الكلمات مع أيقاع المشاعر مع إيقاع الحركة في لحظة نفسية تحتشد فيها مشاعر مضطربة ومتنوعة من الإحباط والخذلان ومحاسبة النفس وتأنيب الضمير.. درس في التمثيل لا يمكن أن يقدمه سوى (السامي عبد الحميد).
- في عرض مسرحية (تكلم يا حجر) تأليف: محيي الدين زنكنه وإخراج: وجدي العاني وتقديم الفرقة القومية للتمثيل والتي قدمت عام 1989 كان بطل المسرحية هو الفنان (سامي عبد الحميد) الذي كان يمثل دور ضابط إسرائيلي يحقق مع أحد المناضلين الفلسطينيين؛ ونظراً لصمود ذلك المناضل وفشل ضابط التحقيق في انتزاعاعترافات منه؛ فإن الأخير يتعرض الى لوم وتقريع المسؤول الأعلى وهو (الكولونيل) الذي كان يؤدي دوره كاتب هذه السطور؛ وفي أحدى مواقف اللوم والتقريع، طلب مني المخرج أن أركلضابط التحقيق بقدمي وأطرحه أرضا ؛ فكان ذلك موقفا صعبا؛ إذ كيف لي أن أجرؤ على إداء هذا الفعل مع مثلي الأعلى وأستاذي الجليل؛ لذا اعتذرت عن أداء تلك الحركة؛ فما كان من أستاذي (السامي) إلا أن يقول لي: أنت لن تركل (سامي عبد الحميد) وإنما تركل(ضابط التحقيق)؛ ومع أني لم أنفذ ما أراده المخرج مني لا في التمارين ولا في العرض؛ واستبدلت تلك الحركة بأن أضع عصا التبختر التي أحملها على ظهر أستاذي الجليل وأدفعه بها ليسقط هو أرضا ؛لكني تعلمت درسا في الانضباط والطاعة التي يجب على الممثل أن يتحلى بها أمام المخرج؛ فقد قدمت لي موافقة (السامي عبد الحميد) على إداء تلك الحركة وأن يتم تنفيذها من أحد تلاميذه درسا لن أنساه.
- من الدروس والعبر المهمة التي تعلمناها من أستاذنا (السامي عبد الحميد) هو قبوله التمثيل تحت قيادة مخرجين شباب من تلامذته؛ بل كان يشجع تلامذته على اختياره ممثلا في أعماله إذا كانوا يرون أن الدور ملائما له؛ وقد تكرر هذا الأمر كثيرا؛ وعلى سبيل المثال – لا الحصر – اذكر تجربتين أحدهما كانت مشاركا فيها والثانية شاهدتها بنفسي؛ فالأولى كانت تمثيله لدور في مسرحية (عمارة أبو سعيد) التي كانت من تأليفي وإخراج الفنان الشاب المرحوم (حامد خضر) التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث؛ عام 1988 والثانية هي مسرحية (غربة) تأليف جمال الشاطي وإخراج كريم خنجر؛ عام 2011.
- وليس من باب الاكتشاف أو التوصيف أن أذكر بأن أستاذنا (السامي عبد الحميد) من الفنانين والأساتذة المشهورين بدقة انضباطه والتزامه بالمواعيد وحرصه على الحضور في الوقت المحدد؛ بالرغم من كثرة مشاغله ومسؤولياته؛ فقد كان مثلنا الأعلى في الدقة والحرص والالتزام وعدم إضاعة أي وقت في مسائل ثانوية تشغله أو تشغل الآخرين عن المهمة التي هو بصدد إنجازها؛ وكان هذا السلوك المميز ماثلا وحاضرا سواء على صعيد التدريس أو التمارين المسرحية أو ألقاء المحاضرات أو حضور المناقشات أو حضور المؤتمرات والندوات وغير ذلك من المناسبات.
- من الدروس الإخراجية المهمة التي تعلمناها من أستاذنا (السامي عبد الحميد) هو قدرته على التعامل مع الفضاءات المختلفة للعرض المسرحي؛ وتقديمه لرؤىً مختلفة لعرض المسرحية نفسها في فضاءات مختلفة؛ ومثال ذلك ما فعله في إخراجه لمسرحية (جلجامش) التي عرضها في ثلاث فضاءات مختلفة عن بعضها بشكل كبير؛ إذ كان عرض المسرحية الأول هو فضاء خشبة المسرح الصغيرة في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد والذي قدمه بمجاميع بلغ عددها أكثر من 40 طالبا من طلبة الأكاديمية كانت تضيق وتزدحم بهم خشبة المسرح؛ ثم قدمها بالمجاميع نفسها في فضاء المسرح البابلي الواسع والمفتوح الموجود في مدينة بابل الأثرية؛ وبعد ذلك قام بإخراج المسرحية نفسها بتقديم (الفرقة القومية للتمثيل) وبمجموعة ممثلين محترفين كبار على خشبة مسرح الرشيد المغلقة ؛ وكان في كل مرة يقدم سينوغرافيا مختلفة وفضاءاً مغايرا ورؤية جديدة .
- في عام 1987 زار أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد المخرج والمؤلف المسرحي الألماني (هانس ديتر شميت) كأستاذ جامعي زائر – الذي عرفنا نحن كطلبة بأنه أحد تلامذة الألماني برتولد بريخت- وقام بتدريب مجموعة من الطلبة على تقديم مسرحية للأطفال ؛ وأزاء ذلك كلفت عمادة الأكاديمية الأستاذ (سامي عبد الحميد) بإخراج مسرحية للأطفال من تأليف الألماني أعلاه؛ وتقديمه من طلبة الكلية أيضا؛ ولربما تكون هذه هي المسرحية الوحيدة والنادرة التي يقدمها (السامي عبد الحميد) للأطفال؛ وبما أني كنت أحد الممثلين الرئيسين في هذه المسرحية فقد تعلمت – وكذلك زملائي الطلبة– من أستاذنا (السامي) الكثير من الدروس الخاصة بالتمثيل للأطفال؛ وكان أهم ما تعلمناه هو (أن التمثيل لهذه الفئة من المشاهدين يجب أن يكون لعباً قبل أن يكون تمثيلاً).
- في زيارته لكلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة عام 2011 قدم أستاذنا (السامي عبد الحميد) عرضا مونودراميا بعنوان (غربة) كان هو الممثل الوحيد فيه؛ على المسرح؛ وبالرغم من بلوغه من العمر حوالي (85) سنة غير أنه قدم درسا بليغا في التمثيل؛ إذ كان يتحرك على المسرح بمرونة جسدية ورشاقة قل نظيرها في مثل هذا العمر؛ فقد كان يتحرك وكأنه يطير على خشبة المسرح كالفراشة ؛ وهذا درس بليغ أخر من الدروس التي تعلمناها من أستاذنا الجليل؛ وهي أن الممثل مهما بلغ من العمر؛ فعليه أن يمتلك مرونة جسدية ورشاقة في الحركة تعيناه على أداءه للشخصيات مهما كانت الظروف والمواقف الدرامية التي تمر بها.
- وحتى نفسر هذه الرشاقة والمرونة الجسدية التي كان يتمتع بها فنانا الراحل (سامي عبد الحميد) أقول: أنني كنت أشاهد – عندما كنت طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد – أستاذنا الجليل وهو يمارس الرياضية يوميا؛ فقد كان لاعبا ماهرا في الكرة الطائرة؛ وكان الفريق الذي يلعب معه يعتمد عليه في أداء الضربات الساحقة؛ كما أنه كان لاعبا أكثر مهارة في لعب كرة المنضدة التي كان يمارسها بشكل شبه يومي؛ ولم أشهد أنه خسر فيها شوطا واحدا؛ مهما بلغت مهارة خصومه في اللعب.
ملاحظات شخصية
في هذا الجزء من هذا المقال سأستعرض بعض المواقف الشخصية التي جمعتني بأستاذي (السامي عبد الحميد) وفيها إضافات علمية كانت لي بمثابة دروس لن أنساها ما حييت؛ وهي دروس كثيرا ما أذكرها لطلبتي لمزيد من الفائدة العلمية والحياتية ومنها:
- ذات يوم سألت أستاذي (السامي) عندما كنت طالبا في مرحلة (الماجستير) : أيهما أصح أن نقول (مسرح العبث واللامعقول) أو نقول (مسرح العبث أو اللامعقول)؛ فأجاب فورا: الأصح أن نقول (مسرح العبث واللامعقول)؛ فقلت له : لماذا؛ قال لأن (مسرح العبث) هو غير (مسرح اللامعقول) فلو كانا واحدا لقلنا (مسرح العبث أو اللامعقول) ؛ فقلت: يبدو أنك ترى أن هناك اختلافاً (مسرح العبث) و (مسرح اللامعقول) ؛ فرد قائلا: بالتأكيد؛ فأولا: مع أن المفهومين هما ينحدرانمن مصدر واحد غير أن (العبث) فلسفة و(اللامعقول) سلوك وممارسة ؛ وثانيا فإن مبدأ العبث الأول هو : أن الحياة مجرد عبث ولهو لا نفع فيه ؛ وأن موت هذه الحياة هو الأفضل؛ في حين أن مبدأ اللامعقول هو : أن الحياة التي نعيشها قد تحول فيها (المعقول) الى (لامعقول) وأن (اللامعقول) فيها أصبح (معقولا) … وأيم الحق إنه لدرس بالغ وعميق.
- مرة قدمت له مسرحية كتبتها تحمل عنوان (يا للغرابة!!!) ليقرأها ويعطيني رأيه فيها؛ وبعد يوم واحد من إعطائي إياه النص؛ ألتقيته في ممر من ممرات الكلية؛ فقال: لقد قرأت النص المسرحي الذي أعطيتني إياه بالأمس؛ وأجد أنك لو لم تضع أسمك عليه؛ لاعتقدت أنه مسرحية مترجمة!!! وغادر لشأنه؛ تاركا إياي مندهشا مذهولا لهذا الرأي الذي لم أتوقعه مطلقا؛ وبعد إن استجمعت نفسي وجدت أن هذا الرجل العملاق يمنح طلبته طاقات إيجابية لا حدود لها لكي يجربوا ويحاولوا ولا يبقوا ساكنين. والأمر نفسه تكرر مرة أخرى بعد أكثر من عشرين سنة وذلك عندما أهديته عام 2013 نسخة من كتابي الموسوم(البنية الداخلية للمسرحية) والذي أستهجن عنوانه أول وسألني: ماذا تعني بالبنية الداخلية؟ هل هناك بنية درامية غير التي نعرفها؟ أجبته أن فريضة بحثي في هذا الكتاب – الذي هو في الأصل معد عن أطروحتي في الدكتوراه–تقول أن هناك بنيتان للمسرحية أحداهما بنية درامية خارجية وأخرى بنية درامية داخلية وهي التي يدور عليها هذا الكتاب؛ فقال لي لا يمكن أن أعطيك رأيا دون أن أقرأ الكتاب؛ وبعد مدة تزيد على الشهر ألتقيته في أثناء حضورنا لعرض مسرحي؛ فقال لي: (أحسنت دكتور مجيد؛ لقد أتيت بنظرية درامية جديدة؛ تستحق الدراسة والتأمل). ما أعظمك وأجلك سيدي وأستاذي (السامي).
- أخيرا فهذا درس أخلاقي واجتماعي بليغ؛ إذ أعتدت على تقبيل أيدي أساتذتي احتراما وتقديرا لهم؛ غير أن أستاذي (السامي) في كل مرة أحاول فيها أن أقبل يده؛ فأنه يسحبها ويضعها فوق رأسي قائلا 🙁 أنت يا دكتور زميل لي الآن؛ ولن أسمح لك بتقبيل يدي مطلقا)..
هذا غيض من فيض خصال أستاذي ومعلمي ومربي الأجيال (السامي عبد الحميد) الذي رحل عنا ساميا وفاضلا وحكيما عليما .. رضوان الله ورحمته عليه فأنه سيبقى منارا ومثلا أعلى لكل من تتلمذ على يديه وسمع عنه وشاهد أعماله وحضر في مناقشاته العلمية ومحاضرته الأكاديمية.. وسلام على روحه الطاهرة النقية السامية.