(مسرح التعزيه انموذج )
«مقدمـــه»:
إن التراث هو الهوية الفعلية لوجود الأمة الذي يحمل مخزوناً عظيماً من قيمها وإبداعاتها، فالتراث في مجمله هو الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، وهو العقيدة والشريعة والعقل والذهنية المتأتية من السلف الصالح، كما أنه حاضر فينا ومعنا منذ القدم، وبناء على ذلك فإن حاصل ما لدينا الآن هو أن الموروث الشعبي يعني ما اكتسبه جيل عن جيل سبقه، من عادات وتقاليد وقيم وفنون وحرف ومهارات وأدب وحكم وأمثال يلتزمون بها في سلوكهم وممارساتهم وأقوالهم.
والطقوس هي أحد الممارسات الموروثه من جيل إلي جيل وتعتبر المراسم والطقوس بأنواعها المختلفة أحد سمات كل المجتمعات الإنسانية، سواء في الماضي أو الحاضر. ولا تقتصر الطقوس والمراسم على الأنواع المختلفة من طقوس الـعبادة، أو الأسرار المقدسة في بعض الأديان أو الطوائف فقط، ولكنها تمتد أيضًا لتشمل طقوس العبور في بعض المجتمعات وطقوس الكفارة، وطقوس التطهير، وقسم الولاء، ومراسم التتويج، والافتتاحات الرئاسية، ومراسم الزواج، والجنازات، وتقاليد الدراسة والتخرج، والاجتماعات، والأحداث الرياضية، وحفلات الـهالووين ومواكب المحاربين القدامى، وموسم تسوق عيد الميلاد، وغيرها الكثير. وهناك العديد من الأنشطة التي يتم تنفيذها ظاهريًّا لأغراض محددة، مثل؛ المحاكمات، وتنفيذ عقوبة الإعدام في المجرمين، والمؤتمرات العلمية، ولكنها مليئة بالإجراءات الرمزية التي تتحكم فيها القوانين أوالتقاليد، ولذا تعتبر مثل تلك الإجراءات مراسم وطقوس بالفطرة.
وعلاوة على ذلك، فإن كل الأفعال العامة التي نقوم بها يوميًّا مثل المصافحة أو حتى التحيه الشفاهيه تندرج تحت مسمى المراسم والطقوس. والطقوس تختلف من مجتمع الي أخر بل إن ممارستها تختلف من جيل إلي آخر رغم إتحاد الطقس فإن الأفعال الطقسيه تختلف من بلد إلي آخر وبالتالي فإن مسرحة هذه الأفعال الطقسيه المختلفه بإختلاف المجتمعات ستختلف بطبيعة المكان والمتلقي وستشكل جدلية الموروث الشعبي تأثير علي دلالتها الفنيه يؤثر حتما علي دلالة العرض الطقسي.
إشكاليـة البحـث
إن إشكالية البحث التي انطلقت منها وهي محاولة فك شفرات الإشكاليه الجدليه للموروث الشعبي في التمييز بين الأفعال الطقسيه ومسرحتها ولقد اخترت عينة لبحثي (يوم عاشوراء) كمناسبة طقسيه لها مراسمها وطقوسها المختلفه من بلد إسلامي إلي آخر في محاولة للتمييز بين الأفعال الطقسيه واختلافاتها وتأثير هذه الإختلافات علي العروض المسرحيه .في قراءة متأنيه لمسرح التعزيه كتطبيق لنظرية الطقوس والنظريات العلميه.
هـدف البحـث:
تمييز الأفعال الطقسية وعلاقاتها بالقيم من اجل بلوغ فلسفة الفعل الطقسي التي تبرز الجمال عند محاكاته او مسرحته.
«المناسبة الطقسيه »
نظرية الطقوس (1) تنص بأن القاعدة الأساسية للطقوس هي تطبيق القيم الطقوسية على الأشياء والحوادث والمناسبات التي يمكن اعتبارها بمثابة الأهداف ذات المصالح المشتركة التي تربط أعضاء المجتمع الواحد أو تمثل تمثيلاً رمزياً جميع الأشياء التي تستند على تأثير السلوك الرمزي بأنواعه المتعددة.
لكن يثور تسأول هام اذا افترضنا جدلا أن المجتمع الأسلامي مجتمع واحد رغم إختلاف المذاهب و إختلاف اللهجات وإختلاف السلوكيات والعادات والموروثات الشعبيه الخاصة بكل جماعة إسلاميه تعيش كمجتمع واحد في إقليم مختلف وتحت سلطة سياسيه مختلفه رغم أنها تتحد في الدين وفي ممارسة الشعائر الطقوس الدينيه مع نظيراتها في الأقاليم المختلفه وهنا يكون السؤال «ما هي الأفعال الطقسيه المميزه لكل جماعة عند تطبيق القيم الطقسيه علي المناسبات والحوادث والتي تعتبر ربط مشترك لأعضاء المجتمع ؟»
ولذا فإننا سنبحث سويا مظاهر الأفعال الطقسيه كموروث شعبي علي مناسبة يوم عاشوراء في (مصر والمغرب والعراق وإيران ) ولم يكن إختيار هذه الدول جاء محض صدفة ولكن لأهمية الطقوس في الموروث الشعبي لهذه الدول وتأثير ذلك علي السلوك الرمزي بأنواعه المتعدده .
«يوم عاشوراء »
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر مُحَرَّم في التقويم الهجري، ويسمى عند المسلمين بيوم عاشوراء وهو اليوم الذي نجّىٰ الله فيه موسى من فرعون ويصادف اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي حفيد النبي محمد في معركة كربلاء، لذلك يعدّه الشيعة يوم عزاء وحزن. كما وقعت العديد من الأحداث التاريخية الأخرى في نفس اليوم. ويعدّ يوم عاشوراء عطلة رسمية في بعض الدول مثل إيران، باكستان، لبنان، البحرين، الهند والعراق والجزائر. ويعدّ الإحتفال بيوم عاشوراء في مصر له طقوسه الخاصه رغم كون هذا اليوم لا يندرج ضمن العطلات الرسميه لكن له مظاهر وأفعال طقسيه ذات موروث شعبي.
«مظاهر الإحتفال بيوم عاشوراء في مصر»
يُنزل المصريون الأيام العشر الأولى من شهر محرم في مرتبة مباركة، فهم، أكثر شعوب العالم تمسكًا بالعادات والتقاليد المتوارثة من قديم الأزل، ويبدو هذا واضحًا جليًّا من خلال طقوس حياتهم اليومية وسلوكهم اليومي، بالإضافة إلى مظاهر الاحتفال بالأعياد والمناسبات
حيث كانت لأبناء النيل طقوس خاصة بهم في الاحتفاء برأس السنة الهجرية، خاصة «يوم عاشوراء».وتحديدا في العصر الفاطمي
ابتدع الفاطميون عادة الاحتفال برأس السنة الهجرية في مصر مع حلول أول يوم من شهر محرم.
واعتمدوا على إقامة السرادقات وتنصيب الخيام وتجميع الناس للاحتفال. كان المصريون يقدمون لبعضهم البعض أطعمة تتكون من اللحوم والأرز والسكر والعسل.
كما عرف المصريون في العشر الأولي من شهر محرم عادة شراء «الميعة المباركة». ويقصد بها البخور الذي يستخدمه المصريون آنذاك، للوقاية من «شر العين الحاسدة»، في وقتها كان الباعة ينتشرون في الشوارع، حاملين «الميعة» وصوتهم ينادي: «ميعة مباركة»، «سنة جديدة»، «عاشوراء مباركة»، «إن شاء الله تكون أكثر السنوات بركة على المؤمنين»، «يا ميعة يا مباركة».
كان استخدم المصريون «الميعة المباركة» وقت شعورهم بـ«عين حاسدة» تحوم حولهم أو حول ذويهم، خاصة الأطفال، فيأخذون حفنة منها لرشها فوق الفحم المشتعل في طبق الإحماء، ويقولون: «رقيتك من عين البنت الغارزة أكثر من المسمار، ورقيتك من عين الست الحادة أكثر من السكين، ورقيتك من عين الولد المؤلمة أكثر من السوط ومن عين الرجل القاطعة أكثر من سكين الفرح»، وبعدها يعلو الدخان، ويغطي وجه «المحسود».
كما كان من عادة مسلمي مصر في تلك الفترة التصدق بأموالهم بقدر ما تسمح به إمكانياتهم المادية، ويحددون بمنتهى الحرية قيمة صدقاتهم وأصحاب النصيب الذين سينالونها.
عدد من نساء مصر اعتدن حينها حمل أطفالهن على أكتافهن والانطلاق بهم في شوارع القاهرة أو يعهدن بهم إلى امرأة أخرى بـ«هدف استدرار عطف المتأنقين المتهندمين في الشارع، فيطلبن الزكاة منهم، مناديات: بـ(زكاة العشر يا سيدي)».
كان نصيب كل طفل من الصدقات وقتها يساوي خمسة قطع من القصه من كل فرد، ويصرف «أحباب الله» الفضيات التي جمعوها في شراء الحلوي.
وكان للطفل إمكانية الاستفادة من الفضيات في خياطة قلنسوة، يرتديها حتى حلول شهر محرم من السنة التالية.
لقد كانت مكانة اليوم العاشر من محرم كبيرة لدى المصريين، فيوم «عاشوراء» يقدسونه لأسباب مختلفة، منها أنهم «يعتقدون أنه يوم اللقاء الأول بين آدم وحواء بعد طردهما من الجنة، وهو اليوم الذي خرج فيه نوح من فلكه»، بالإضافة إلى اعتقادهم بأنه «يوم الأحداث الكبيرة»، فضلًا عن «صوم قدامى العرب في ذلك اليوم قبل بعث الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم».
يقدس المصريون هذا اليوم خاصة المسلمين منهم ، لأنه «اليوم الذي استشهد فيه الحسين، حفيد الرسول محمد، في معركة كربلاء
من بين احتفاء المصريين بشهر محرم أنه كانت تقام احتفالات خاصة بهذه المناسبة في مسجد الحسين، الذي يقال انه دفن فيه رأس (الحسين بن علي رضي الله عنه )، ولا مرجع لهذه الرواية سوي ما يتم سرده من أساطير علي السن العامه لا صحة تاريخية لها لكن أبرز مظاهر الإحتفال الطقسيه بيوم عاشوراء هي تلك التي كان يحتشد الناس على طول الطرق المؤدية إلى المسجد، ويكتظ داخل المسجد بالزائرين، وكان يقف نحو خمسين( درويشًا )من المريدين في صفين متقابلين، مرتدين الزي المصري التقليدي، بينما تزينت رؤوس بعضهم بـ«القاووق التركي»، ورؤوس البعض الآخر بـ«الطرطور»، ثم يشبكون أيديهم معًا، ويبدؤون حلقة الذكر، مرددين: «الله».
وكان أحد الدراويش يتوسط حلقة الذكر، ويدور حول نفسه، محركًا قدميه وممددًا ذراعيه، ثم يزيد من اهتزازه وحركته، حتى ينتفخ ثوبه كما المظلة، ويستمر في الدوران نحو عشر دقائق، ثم يجلسون جميعهم للراحة، وبعدها ينهضون ثانية، ويعيدون الكَرّة مرة أخرى.
لقد كانت هذه الأفعال الطقسيه وضف عليها التبرك بمقام الحسين المتواجد بمسجده بمدينة القاهره هي الأفعال الطقسيه التي تتم محاكاتها في العروض المسرحيه مع ذكر الأطعمة الشعبيه التي اعتاد المصريون تقديمها في هذا اليوم والتي استمدت اسمها من المناسبة الطقسيه كصحن «عاشوراء»، حيث يتكون من القمح المنقوع في الماء لمدة يومين أوثلاثة أيام، ويكون منزوعًا منه قشره، بعد غليه يُحلى بالعسل أو بدبس السكر فوق النار، وقد يستبدل الأرز بالقمح، ويزين عادة بالجوز والبندق .
ومن هنا يتأكد لنا ان الموروث الشعبي وجدليته بين الماضي والحاضر هي المميزة للأفعال الطقسيه فقديما كانت تقام في يوم عاشوراء سرادقات العزاء في العهد الفاطمي حزنا وكمدا علي إستشهاد الحسين لكن مع تقلد الأيوبيين مقاليد الحكم تبدلت مظاهر الإحتفال الطقسيه إلي فرح وسعادة نكاية في الفاطميين .تأكيدا علي ان المظاهر الطقسيه تتغير من جيل إلي جيل ومن سلطة سياسيه إلي اخري لكن ظلت المظاهر الدينيه ثابته إلي يومنا هذا فحلقات الذكر رغم إنحصارها في عدد محدود من الطرق الصوفيه فهي لا تعبر عن المناسبه الطقسيه (عاشوراء) بقدر تعبيرها عن التصوف وحالة العشق السرمدي الإلهي .
«مظاهر الإحتفال بيوم عاشوراء في المغرب »
يوم عاشوراء أو (يوم زمزم) هو مناسبة يحتفل بها المغاربة في العاشر من محرم من كل سنة باحتفالات تختلف عن نظيرتها في بقية البلدان العربية والإسلامية، ولهم في هذا اليوم عادات لها خصوصيتها المحلية. ويصاحب هذا الاحتفال ما يسمى ب”لعشور”حيث يقوم كبار التجار في المنطقة بتوزيع هدايا عن الأطفال والشبان وكذا النساء، وتكون غالبا مبالغ مالية، الشيء الذي يزيد من فرحة هذا اليوم. وهو نشاط للأطفال في فترة عيد عاشوراء حيث يجول الأطفال من منزل لآخر مرتدين الاقنعة والأزياء التنكرية يطلبون الحلوى والفواكه الجافة أو حتى النقود وذلك بإلقاء السؤال “حق بابا عيشور؟” على من يفتح الباب. يعتبر حق بابا عيشور من أهم التقاليد في عاشوراء. حيث يقوم كل من يسكن في حي فيه الكثير من الأولاد بشراء الحلوى والفواكه الجافة وتحضيرها لحين قدوم الأولاد في العيد. أصبح هذا التقليد مشهورا في الأونة الأخيرة حيث يعتبر كبديلا للالعاب النارية التي تؤدي عادة إلى مجموعة من الحوادث.
ففي هذا اليوم، يقومون برش الماء على بعضهم البعض. فيقوم أول من يستيقظ من النوم برش الباقين بالماء البارد، ويخرج عدد من الأطفال والشبان، خصوصا داخل الأحياء الشعبية، إلى الشوارع لرش كل من يمر بالماء. ومع مرور الساعات الأولى من الصباح يحمى وطيس “معارك المياه”، خصوصا بين الأصدقاء والجيران. ومن يرفض الاحتفال بماء “زمزم” من المارة، عبر رش القليل منه على ثيابه، قد يتعرض لتناوب عدد من المتطوعين لإغراق ثيابه بكل ما لديهم من مياه. ثم يتوج بوجبة اليوم بوجبة “الكسكس المغربي” الذين يستعملون به القديد الذي تم تخزينه من أضحية عيد الأضحى، خصوصا لهذا اليوم.
أما في البوادي والأرياف المغربية فإن الماء في هذا اليوم يحتفظ بقدسية خاصة، حيث يلجأ الفلاحون وربات البيوت، مع إعلان الفجر، وقبل أن تطلع الشمس، إلى رش كل ممتلكاتهم بالماء البارد، حيث ترش قطعان الغنم والبقر، وغيرها، كما ترش الحبوب المخزنة، وجرار الزيت والسمن. وتقوم الأمهات برش وجوه الأبناء، الذين يتنافسون في الاستيقاظ المبكر، لأنهم يؤمنون، حسب ما يردده الأجداد، بأن من يكون هذا اليوم نشيطا يقضي كل عامه على نفس المنوال، ومن يتأخر في النوم إلى أن تشرق الشمس، يغرق في الكسل ما تبقى من العام. كما أن الكبار في الأرياف المغربية يؤمنون بأن كل ما مسه الماء هذا اليوم ينمو ويبارك الله فيه، وما لم يمسسه ماء قد يضيع خلال نفس العام.
فيما يتعلق بالتجار، يسعون في عاشوراء لرفع وتيرة البيع، خصوصا داخل الأسواق، التي تخصص لمناسبة عاشوراء، لأن أي حركة بيع أو شراء تكون مباركة، وتؤثر في تجارتهم، بقية العام، مما يضطرهم إلى تخفيض الأسعار، وبذل كل ما يستطيعون، من أجل تشجيع زبائنهم على الشراء. ولا يكاد يحل المساء حتى تفرغ أسواق عاشوراء من السلع، وتصبح في بعض المناطق، التي لا تزال تتمسك بالعادات القديمة فضاءات فارغة من محتوياتها، كأنها لم تكن نشطة قبل ساعات فقط، والسر في ذلك أن اليوم التالي للعاشر من محرم يسمى عند التجار بيوم “الهبا والربا”، أي إن أي ربح يجنونه منه لن يكون إلى ربا لا يلحقه إلا الهباء على تجارتهم، مما يجعلهم يغلقون محلاتهم، ولا يبيعون أو يشترون شيئا في اليوم الموالي.
وتعود عادة رش المياه، التي يحتفل بها أغلب المغاربة، ويعتقدون أنها جزء من العادات الإسلامية، إلى طقوس من الديانة اليهودية، كان يتمسك بها اليهود المغاربة منذ قرون، حيث أنهم يعتقدون أن الماء كان سببا لنجاة نبيهم موسى في هذا اليوم من بطش فرعون وجنوده، كما يؤكد ذلك القصص القرآني، وهو الأمر الذي استوعبه الإسلام السنة وجعله جزء منه، بالتنصيص على صوم يوم عاشوراء، ابتهاجا بإنقاذ الله لنبيه موسى، مع زيادة صوم يوم التاسع من شهر محرم، لمخالفة اليهود والتميز عنهم.
وما يميز عاشوراء المغرب، رغم أنها مزيج من الأديان والمذاهب، أن المغاربة لا يؤمنون إلا بأمر واحد، هو أن احتفالاتهم مغربية موروثة عن الآباء والأجداد فقط، ولا يرون أنها تخالف الإسلام، أو تأخذ من سواه، فالإسلام الراسخ بعمق في قلوبهم رسوخ جبال الأطلس، قد جب كل ما قبله، وجعل من ميراث الأنبياء من قبل جزء من الدين المحمدي، الذي ختم الرسالات السابقة من دون أن ينكر فضلها.
يعقب عاشوراء في المغرب يوم “الهبا والربا” في الأسواق، يعرفها كل المغاربة بليلة “الشعالة”، حيث يتم إشعال نيران ضخمة في الساحات، سواء في البوادي أو داخل بعض المدن، التي لا تزال تردد صدى عادات موغلة في التاريخ، ويحيط بها الأطفال والنساء، وهم يرددون أهازيج، بعضها يحكي قصة موت الحسن والحسين وبعضها يحكي قصصا اخرى.
ومن خلال سرد بعض مظاهر الإحتفال بيوم عاشوراء في المغرب يتضح التمايز بين الأفعال الطقسيه رغم وحدة المناسبة الطقسيه بين إقليم واخر لاسيما أن الأفعال الطقسيه هي موروث شعبي تواتر عن طريق الآباء والأجداد ولا علاقة له بالعقيدة الدينيه.
«التمثيل فعل إحتفالي بيوم عاشوراء في ايران»
في إيران، ابتدأت الإحياءاتُ العاشورائيّة فترةَ الدولة الصفويّة (1501 – 1726).
ويقول محمد بن سليمان التنكابني: “التمثيل من مخترعات الصفوية، ولما ظهر مذهب التشيع في بلاد إيران، وحكم الصفويين أمروا الذاكرين بإنشاد مصيبة سيد الشهداء(ع)، لكن الناس لم تكن تبكي. لأن المذهب لم يترسخ بعد في نفوسهم فأخترعوا التمثيل لعلَّ النَّاس تتألم من مشاهدة مصائب سيد الشهداء (ع) ويرق قلوبهم، وسمي هذا العمل بالتعبئة، وهي بمعنى الاختراع أيضاً، وهذه التعبئة لم تكن موجودة في الأزمنة السابقه (2)
لكنّ الأمرَ تعاظم طقوسيًّا في مرحلة الدولة القاجاريّة (1794 – 1925). فلقد سعت السلطةُ القاجاريّة إلى ترسيخ صورة الحسين المسكين، الذي يترجّى الماءَ من خصمه، كنوع من تعزيز منطق السلطة المتجبِّر في ذهن المُتلقّي؛ وكأنّ السلطة أرادت القول: إنّ حادثة كربلاء، بما فيها من شدّةٍ وغلظةٍ على الحسين، هي المنطقُ المتوقَّعُ لكلّ فردٍ يريد أن ينال من السلطة. وقد رافق استبدادَ تلك السلطة سكوتُ العلماء ردحًا من الزمن، وهو الأمرُ الذي استمرّ حتّى العهد البهلويّ (1925 – 1979)
إلي ان استثمرت فلسفة عاشوراء بالإطاحة بالشاه ومن خلال ثورة شعبيه في المشهديه الحسينيه التي تخلت عن محاكاة مصائب سيد الشهداء وغاصت في فلسفته الثوريه الرافضه لتوريث يزيد وشراء البيعة بالذهب من خلال فكر الحق ونيته واستخدام وسائل تعبير كالكلمة والجسد والصرخه كوسائل تعبير طقسيه من أجل إبراز قيمة طقسيه .
إن تطور الأفعال الطقسيه وضحد بعضها بفعل نواهي السلطة السياسيه هو تعديل لمسار الموروث الشعبي للبحث عن قيمة في افعاله الطقسيه هي ذاتها القيمه التي نبحث عنها في مسرحة الطقس والتي سنتطرق اليها لاحقا.
«التطبير كفعل طقسي يميز الإحتفال بيوم عاشوراء في العراق »
التطبير أو الإدماء هو طقوس يمارسها بعض المسلمين الشيعة الاثني عشرية – بعضٌ منهم يرفضونها – ضمن الشعائر المسمية بالشعائر الحسينية التي تقام من أجل استذكار معركة كربلاء (3) والقتلى الذين قتلوا في هذه المعركة كالإمام الحسين بن علي وأخيه العباس. ويستخدم في التطبير سيوف وقامات أو أي أدوات حادة أخرى، فيضرب المطبرون رؤوسهم بهذه الأدوات لإحداث جرح لإسالة الدماء من الرأس، ويردد المطبرون أثناء التطبير كلمة (حيدر) والتي تشير إلى الإمام علي بن أبي طالب الذي توفي بسبب ضربة سيف وجهها إليه عبد الرحمن بن ملجم في حال صلاته. وتخرج مواكب التطبير في عاشوراء والأربعين، وأحياناً في ليلة وفاة علي بن أبي طالب، وليلة وفاة فاطمة الزهراء.
يُستخدم مصطلح طقوس في علم النفس أحيانًا ليشير إلى السلوكيات المتكررة التي يقوم بها الفرد لتقليل أو منع الخوف، وتعد أحد أعراض الوسواس القهري. او ليتحول فيها الجسد من حالة السياده الي
ورغم أن (التطبير)كفعل طقسي يحاكي واقعة حقيقيه بأفعال حقيقيه وليس بإفتعال تشخيصي فإن هذا الفعل الطقسي الذي يتم فيه جلد الذات الإنسانيه التي رضخت للظلم فندمت أشد الندم وقررت تكرار هذا السلوك لتقليل او منع خوفها من الظالم او ليتحول فيها الجسد من حالة السياده الي اداة طيبه في خدمة الإنسان. الا انني لست مع الرأي القائل بأن (التطبير) حالة تطهير للنفس فكيف ونحن في هذا الزمان ان تتطهر انفسنا بسيل الدماء وجلد الذات الإنسانيه ماديا بالتعذيب
إن هذا الفعل الطقسي الذي حرمته بعض الأراء الدينيه رغم أن البعض الآخر يعتبره احدي الشعائر الحسينيه كان مثار جدلا متمحور بين الموروث الشعبي وبين ما يتقبله العقل الحداثي .مما دفع السلطات العراقيه لمنع استخدام السيوف والآلات الحاده عند ممارسة هذا الفعل الطقسي وقد سبقتها ايران في ذلك وقد سبقتهما مصر في إلغاء مراسم العزاء الحسينيه في محاولة لإعمال العقل الذي يدعونا أن نتجادل مع هذا الفعل الطقسي ومع ممارسته النابعة من موروث شعبي العقل يرفضه .وهذا يدفعنا للتساؤل ماهي قيم الافعال الطقسيه؟ وماهي الفلسفة الكامنه في مسرحة هذا الفعل الطقسي وليكون السؤال اشمل ماعلاقة مسرح التعزيه بالقيم؟ وماهي فلسفة مسرح التعزيه ومنطقه؟
الإجابة علي هذه التسأولات تنبغي اولا ان نتحدث عن الجسد كأحد اهم وسائل التعبير في مسرح التعزيه
يكتسب الجسد في المسرح الطقسي أهمية توازي تلك التي تمتاز بها الكلمة و إن كان لا يتفوق عليها، فالكلمة بدورها وسيلة تحرر و تواصل و هناك أبحاث عديدة قد عنيت بدراسة العلاقات بين وسائل العلاج الديونيسوسية (ووسيلتها الجسد) و الأبوللية (ووسيلتها الكلمة). و لكن ذلك لا يعني أن المسرح الطقسي و ذلك علي حساب الكلمة و كأن الممثل بالمسرح الطقسي ما هو إلا جسد
تعريف الجسد بالمسرح الطقسي
يعد الجسد بالمسرح الطقسي مركز الحياة و يتعلم كيف يشعر به مما يتيح التعرف علي جسد الآخر و علي البيئة المحيطة، و بذلك يصبح الجسد بمثابة الميزان الذي يقود إلي الفعل المتزن الذي يحقق التناغم و التلاقي بين الأنا و الآخر و الذي به تتم السيطرة الكاملة علي الحواس، فالجسد هو تلك النقطة في الفراغ التي تلتقي عند كافة مستويات و أشكال الحياة، حيث تنصهر كافة التجارب المعاشة و الطقس هنا لدية القدرة علي تحرير طاقة التعبير التي تختزنها الانقباضات العضلية و الكبت النفسي و هو يسمح للجسد و توابعه بأن يتحول من حالة السيادة إلي أداة طيبة مسخرة لخدمة الإنسان
وهذا ما تشتغل عليه عروض مسرح التعزيه حين تحاكي (التطبير) فهي تبحث في علاقة الفعل الطقسي بالقيم من اجل بلوغ فلسفة التعزيه
القيم :هي جملة المقاصد التي يسعي القوم الي أحقاقها متي كان فيها اصلاحهم عاجلا او آجلا
وهي القواعد التي تقوم عليها الحياة الإنسانية وتختلف عن الحياة الحيوانيه وقد وردت في القاموس التربوي بأنها صفات ذات أهمية لإعتبارات نفسيه وإجتماعيه وهي بشكل عام موجهات للسلوك والعمل
والتفسير البيلوجي للقيمه
يري أن القيمه نوع من المنفعه الحيويه التي يحققها هذا الموضوع او ذاك .
أما التفسير الإجتماعي
يري أن القيم وليدة الحياة الإجتماعيه فالجماعة تدفع الفرد للإتصاف بمبدأ الغيريه الذي يحقق نسيان الذات والتجرد من المصلحة الشخصيه والمضي نحو تحقيق الغايات المشتركه بين الجماعة بروح ملؤها النزاهة والإخلاص ونبذ الذات
أما التفسير النفسي
فيري أنه ليس ثمة قيمه إلا ما يرضي رغبة او يثير انفعالا .
وللقيم خصائص فهي مرتبطه بنفسية الإنسان ومشاعره وايضا متغيره وليست ثابته فتتغير بتفاعل الإنسان مع البيئه المحيطه
والقيم متعدده نتيجة لإختلاف حاجات الناس .
وتتنوع القيم حسب المجال الذي تعني به الي عدة أنواع :-
«القيم النظريه »
وهي رغبة الفرد بالتعلم وسعيه نحو إكتشاف المعلومات والبحث عن مصادرها
«القيم الإجتماعيه
»وتظهر من خلال رغبة الإنسان بتقديم العون لمن حوله
«القيم الدينيه
»وتتضح من خلال إلتزام الإنسان بالتعاليم الدينيه وحرصه علي نيل الثواب والبعد عن العقاب
«القيم الأقتصاديه
»وتتمثل في البحث الدائم عن الإنتاج المربح
«القيم الجماليه
» ويعبر عنها بالبحث عن الجمال في الأشياء وتقدير الفن
«القيم السياسيه
» وتظهر في حب القوه والتحكم وفرض القوانين
وللقيم مصادر متعدده ومن أهم مصادرها
(الدين -العقل الذي يحلل الأمور وينظر في عواقبها ويستنبط الخير والشر -المجتمع الذي تتنوع فيه القيم التي تلائمه ولا تلائم غيره من المجتمعات )
وتتكون القيم من عدة مكونات
*مكون عرفي :عن طريق إختيار قيمه معينه بين مجموعه من البدائل
*مكون وجداني :-ويظهر من خلال الفخر بقيمه معينه وسعادة الفرد بإختيارها
مكون سلوكي :-يحدد طريقة الممارسه والتجربه وذلك من خلال ممارسه فنيه معينه في ظروف مختلفه
*مسرح التعزيه وعلاقته بالقيمه*
إن القيمة الماديه في مسرح التعزيه تبرز من خلال القدرة الأدائيه والوظيفيه والنفعيه لعروض مسرح التعزيه التي تحمل رسالة تثقيفيه وتوعويه للمتلقي من خلال مناقشة الطقسيه الحسينيه و من خلال مكونات عرفيه ووجدانيه وسلوكيه تنتج عنها قيمة نفعيه هي التفاعليه التي تحدثها تلك العروض في نفوس متلقيها..
والقيم الفلسفية جزء من الأخلاق
فقيمة الحق التي يتناولها علم المنطق من خلال تحديد القواعد التي تسمح بتمييز صحيح الفكر من فاسده تتمثل في مسرح االتعزيه لذي يسعي لطرح قضية الحسين رضي الله عنه للمتلقي و خلق حاله ديالكتيكيه بين المتلقي والعرض تجعل من المتلقي ان يبلغ غايات دلاليه لتمييز صحيح الفكر من فاسده في قضية الحسين
أما قيمة الخير والتي توضح القواعد التي ينبغي علي الفرد إتباعها فتتمثل في مسرح الشارع من خلال رسالته التثقيفيه والتوعويه التي يقدمها العرض وصناعه بمد يد العون لمتلقيهم الذين ضلوا طريق البصيره بأن يهتدوا الي قيم الدين السمحة واتخاذ العظه من قصة الحسين
أما قيمة الجمال والتي يتم فيها البحث في القواعد والمعايير التي يجب توافرها في اي عمل نطلق عليه صفة الجمال اي مراعاة القواعد والنظريات النقديه لمسرح التعزيه حتي تتصف عروضه بالجمال والكمال
فلسفة مسرح التعزيه
مسرح التعزيه نتاج تمازج بين ملكات الإنسان (العقل -الوجدان-السلوك )
لذا فإن مسرح التعزيه هو تعبير عن (نظريه فلسفيه) من خلال رأي او مذهب او أيدولوجيه تتمثل في قيم وقصة الحسين المتمثله في الحق وتحقيق العدل ومنهج الحسين الثري
والنظريه تعني خلفية المعرفه للنظريات العلميه المرتبطه بالفن سواء من نواحي العلوم الأساسيه او غيرها من العلوم التطبيقيه بينما الممارسه ترتبط اساسا بتكنولوجيا الإنتاج ويتم ذلك عادة بواسطة اشخاص لديهم قدر كاف من المعرفه
منطق مسرح التعزيه
يتولي علم المنطق دراسة ما يتعلق بجوانب قيمة الحق من خلال سمات لغة التفكير العقلاني
ومن السمات المنطقيه في مسرح التعزيه
مسرح التعزيه مرتبط بالشكل او بفضاء المتلقي او خارج العمارة المسرحيه فهو يقدم في ساحة امام المسجد او في الشارع
موضوعات عروض مسرح التعزيه تدرس صورة الفكر او التفكير بوجه عام أيا كان الموضوع الذي يدور حوله هذا التفكير حتي مع وحدة الموضوع والمناسبه الطقسيه فإن الموضوعات تخلق حالة جدليه تساعد المتلقي علي بلوغ الغايات الدلاليه من العرض
ان الطريقة العلميه الأساسيه في تفسير وفهم التفكير العلمي لمسرح تبني علي دراسات علميه تسبق العرض يكون هدفها التجادل مع الموروث الشعبي المنتج للفعل الطقسي من خلال إعلاء قيمة ماتقدمه عروض مسرح التعزيه فتخلق رؤي جديده فكريا وبصريا.
اخلاق مسرح التعزيه
قيمة الخير تتمثل في عروض مسرح التعزيه كون تلك العروض
1/ تخدم المجتمع والناس وتمد يد العون للمهمشين والفقراء الغير قادرين للذهاب للمسرح فتذهب تلك العروض اليهم أينما وجدوا قاصدة بذلك تثقيفهم وتوعيتهم وتمييز صحيح الفكر من فاسده لديهم
2/ إعلاء قيمة الإنسانيه من خلال معايير الجمال والنفعيه والملائمه والجودة التي يطرحها العرض والجمال في مسرح التعزيه
إن عروض مسرح التعزيه والتي هي تعبير عن القضية الحسينيه هي في حقيقتها إرضاء لرغبات المتلقي ليس علي المستوي الفيزيقي او الإجتماعي فحسب بل ايضا علي مستوي اللذة الخياليه .
وللخيال هنا معني واسع وهو ان أساسيات العمل الفني مثل الإتزان والإنسجام وكذلك المعني والدلالات التي يحملها العرض في مسرح التعزيه من الوجهة الوظيفيه النفعيه تثير الي إستجابة الخيال لدي المتلقي فتشعره بحالة إرضاء معينه تجعله يشعر كما لو أنه حصل علي فائده معينه والقيم الجماليه تتلخص في تحويل القيمه العلميه الي قيمة علي مستوي الجمال .
النتائج التي وصل اليها الباحث:
1/ الموروث الشعبي وإن كان هو المنتج للأفعال الطقسيه إلا ان علاقة الفعل الطقسي بالقيم تسيطر عليها المكونات العرفيه والوجدانيه والسلوكيه للأفراد والجماعات
2/ التمييز بين الافعال الطقسيه التي يتم محاكاتها واقعيا وبين مسرحتها يجب ان يخضع للعقل والمنطق فالمحاكاة افتعال تشخيصي وليست تجسيد واقعي حي
3/ قيمة الفعل الطقسي هي موضوع العرض الذي يدرس صورة الفكر او التفكير بوجه عام
4/ مسرح التعزيه حالة طقسيه تهدف لإرضاء رغبات المتلقي ليست علي المستوي الفيزيقي فحسب بل علي مستوي اللذة الخياليه
5/ مسرح التعزيه هو المقوم والمبصر للمتلقي في قبول الفعل الطقسي من عدمه وانصهار الفعل داخل بوتقة الموروث الشعبي
خاتمـــــــه
لقد عمدت في بحثي هذا لإبراز العلاقة بين الفعل الطقسي الناتج عن الموروث الشعبي وبين القيم من اجل بلوغ القيمة الفلسفيه لمسرح التعزيه احد روافد المسرح الطقسي.
المراجــــــــــع
1/ الطقوس وجبروت الرموز تأليف منصف المحواشي
2/ اشكالية المقدس تأليف الطوالبي نور الدين
3/ سيسيولوجيا الخطاب الشيعي تأليف/الحيدري ابراهيم