في مسرحيته ( سماء أخرى ) التي قدمها في مهرجان قرطاج المسرحي الدولي في دورته الحادية والعشرين على خشبة مسرح الفن الرابع ، يواصل المخرج المسرحي المغربي المبدع محمد الحر عبر فرقة ( أكون ) بحثه الاستقصائي التنقيبي الاستباري الشائك في عالم المرأة المأساوي المفجع والمركب ، محاولا بجهده الرؤيوي الشاخص فك رموز وطلاسم وارتيابات القدرية التي أوشكت أن تصبغ بثقلها وتكريسها المتكرر والممتد من أقاصي ما قبل التاريخ إلى ما بعده هذا العالم النسوي الشفاف والملغز والمستهدف ، مستثمرا ومستحضرا في بحثه هذا متكآت الارتحالات العرفانية لزهرة الطاهر بن جلون في ليلته المقدسة ( صولو ) والتي تتمثل طائر العنقاء كلما استبد بها موت أو رماد أو جحيم ، واقفا على شفير الشك في كل الثوابت والمعتقدات الميثولوجية والسوسيولوجية التي تحولت إلى رحى صخرية حادة تكتم بطحنها المهراسي الثقيل والمستشيط كل نَفَس يمكن أن يصدر عن كائن أنثوي حي .
في هذا العرض يبحث المخرج الحر عن سماء أخرى تسري إليها الروح ولا تعرج ، سماء لا تنتمي للسماء المطلة على جحيم ما يحدث على هذه الأرض وتعلن حيادها منه دون أن يكون لها موقفا منه أو تكون شاهدة عليه ، سماء تنتمي للحلم والحياة في وهجهما الأسمى والأنقى ، سماء نسجت بروح الطير ورهيف الفراشات والزهور ، وكما لو أنه يتمثل ببحثه الإنساني هذا المثل الياباني الشهير ( انظر إلى السماء تجد نفسك بلا حدود ) وهنا نلحظ اختراقات الحر لشفيف السماء إلى ما هو أبعد من الحدود ، حيث السماوات الأعلى طبقات تدخر أحلاما تجاوزتها وتجاهلتها تلك السماء المطلة على فجع أو فدح ضحيته ( يرما ) الحر وأشباهها ، وهو بذلك الاجتهاد الرؤيوي العميق يفسح مدى يتجاوز حدود القراءة اللوركية للزوجة المرأة كونها ضحية عادات وتقاليد ومضطهدات الواقع الريفي في إسبانيا ، وكونها الصبية المأخوذة عنوة بحكم العادات والتقاليد على زوج في عمر أبيها أو جدها مما يجعل العقم في مثل هذه الحالات مبررا بيولوجيا وسسيولوجيا وسيكولوجيا ، إنه بهذا الفسح يجوس عميقا في تفاصيل وتضاريس ودقائق العلاقات السيكولوجية المركبة للكائن الإنساني في هذا الكون ، إذ من الممكن أن تجف الروح وتعقم في مواجهة كائن تصحرت روحه وحياته بسبب التياذه لعمل آخر قد يسرقه من أقرب الناس إليه ، ومن الممكن أيضا أن يكفر الكائن بكل ممكنات النجاة إذا استشرى الوهم والشك في تلابيب وأنسجة روحه ووجدانه ، فأي سماء بعدها سوف يختار لاحتماء ذاته وروحه ؟
هو الحلم إذن في مواجهة الواقع الأليم ، وهو الحلم الذي يسري بهذه الروح المعذبة إلى سماوات الحب والنشوة والشهوة والرغبة في أقصى تجلياتها الجسدية والروحية بعيدا عن سماء لا تحتفي ولا تطل إلا على هزائمنا وانكساراتنا وآلامنا ، هو الحلم الملاك الباذخ بالحرية والحب معا ، والذي تجسد في شخصية الفنان هاشم بسطاوي الذي لا ترى في كائنه الرهيف غير طير منسوج من ذرات الهواء ، فهو إذ يقبل تخف معه روح يرما وجسدها المعذب والتي قامت بأداء دورها الفنانة هاجر الحاميدي المسكونة بحلم يتجاوز سماء الفجع الذي تحياه ميتة مع زوجها الفنان سعيد الهراسي ، هذا الكائن المخلوق من جليد الموت حد رائحة الكافور ، والذي لا يأتي إلا كي يمضي ، ولا يحيا إلا كي يقتل دون أن يدرك حجم جريمته ، حيث لا ينفع بعدها مسكنات العرافة المطمئنة لحياة ربما ستحيي المولود في مشيمة عقم الروح والتي قامت بأداء دورها الفنانة جليلة التلمسي .
إنها قراءة دراماتورجية ركحية واعية تعيد صوغ حياة آفلة برؤية تشتبك فيها النقائض والتضادات لتنتج وهجا مسرحيا باحثا مغايرا يستحق التأمل والوقوف عليه بوصفه إبداعا يصوغ منطلقاته وتجلياته مخرج يؤسس لفلسفة مسرحية جديدة في مسرحنا العربي ، ولعلنا لاحظنا ذلك في تجربتين تصدى لهما الحر ، وهما ( صولو ) عن الليلة المقدسة للطاهر بن جلون ، وهذه التجربة ( سماء أخرى ) عن يرما لوركا ، حيث نكون أمام ناسج قاريء مبدع قادر على تشظية النص وبث روحه الرؤيوية الخلاقة فيه ، وهي ميزة فريدة قل أن تجدها لدى مخرجينا الكبار والشباب في مسرحنا العربي ، إذ يذهب بجوار هذه القراءة إلى متكآت فلسفية يضيء على ضوئها رؤيته الفكرية والمسرحية ، لتصبح معها حالة التناص شكلا جديدا مغايرا لنص جديد وعرض مغاير .
ولعل النسج الحقيقي لهذه الرؤية في مسرحيته ( سماء أخرى ) ، يتجلى في استنطاق الفعل الداخلي لانفعالات ومشاعر حيوات عرضه ، حيث نلحظ الممثلون يتحركون بين خفتين ، خفة أثير الحلم وشفانية سماواته الأخرى ، وخفة الروح وهي تنتقل بجسد الرغبة والتوق إلى هذا الحلم وهذه السماوات وكما لو أنها لم تكن على تماس مع هذه الأرض ، ولعلنا نلحظ ذلك بوضوح في علائق الرغبة والشهوة بين يرما وملاك الرغبة والحلم .
كما نلحظهم أيضا يتحركون بين ثقلين ، بين وطأة الروح وأغلالها السوسيولوجية والسيكولوجية ، وبين أزمنة لا تحفل إلا بالكائنات موتى في هزيعها المفجع ، وهكذا هي عذابات يرما ثقيلة حد الموت .
كما نلحظهم أيضا يتحركون بين عجزين ، عقم الروح وعقم الجسد ، مثلما يتحركون بين صمتين ، صمت يشبه الصراخ وصمت يشبه الموت والغياب ، والحال أيضا في حركتهم بين صورتين ، صورة تؤثث لمسرود غائب وغير معلن ، وصورة تبوح بحلم مؤسس على الموت بوصفه خلاصا ، مثلما يحدث إذ تخنق يرما زوجها وترمي به في البحر أو النهر ، لتحيا بعده حرة وإن التهمتها الوحدة وحدها تأسيسا على مفتتح العرض لفريدريك نيتشه ” كم هو فظيع الموت عطشا وسط البحر .. أيتها الوحدة أنت وطني ” ، والتي بموت زوجها تخلق مجددا ، وخلقنا من الماء كل شيء حي ، وهي مفارقة عميقة أسس على ضوئها المخرج الحر حياة تنسج من شفيف الروح والحرية .
وكم كان الحر موفقا في تأثيث فضائه المسرحي ، والذي لم يتجاوز حدود رقعة خشبية تم تصنيعها على الخشبة المسرحية تقاسمها حوض ماء منح هذا الفضاء أبعادا دلالية عميقة ، حيث الحياة تمضي على شفير حاد يحتمل الموت مثلما يحتمل الخلاص من الموت في أية لحظة أو سانحة ، ولا خيار بين أن تستوي على أرض غير أن تكون رجراجة ، إنه فضاء تتوارى فيه الحيوات وتنجلي في الوقت ذاته ، ولعل لحوض الماء في هذا الفضاء دلالة أبعد من أن نتخيلها ، فمجاري الماء التي رهن الزوج حياته كلها من أجلها ، هي المجاري التي لقي حتفه فيها بعد أن تسرب عفنها إلى بيته وإلى روح زوجته التي لم يستطع هذا الماء أن يخصب زهرة واحدة في روحها حتى وإن كانت وهما زفته إليها عرافة الأمل المفقود ، وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك سنجد أن هذا الماء هو بحر نيتشه حين يتحول بحرا مالحا ، كل شيء في هذا الفضاء يوميء بالعقم والموات إذا ما استثنينا الحلم ، وكم هي اللحظة بليغة حين يكون الطفل المنتظر في سرير الحلم ترابا أشبه بطين القبر والماء الذي لا يخصب في هذا البيت ، وكم هي عميقة هذه الرؤية حين يصبح العقم مزدوجا بين الزوج والزوجة التي وأدت روحها فبات العقم سيد الموقف في كل حياتها .
ومما يعمق فسح هذه الرؤية الدلالي هو توظيف المخرج الحر لإضاءة عرضه ، والذي تمكن من أن يجعل منها حالة لا تنفصم عن مجمل مفردات العرض الحية والسينوغرافية ، فهي لم تتجاوز حدود الخفوت الضوئي الموظف الدال على حالة الاكتئاب والحزن والعذاب الذي تعيشه الزوجة ، وحدود الومض الحلمي الذي تقتضيه رغبات هذه الزوجة وملاك أحلامها ، هذا إلى جانب دورها الموظف لاستثراء فعل الصورة الثابتة والفيلمية الكاميرا كي لا تتلاشى الأشياء وتحياها وكما لو أنه شاهد على الفاجعة والحياة في آن ، حيث يتداخل البوح بأصوات الرغبات الدفينة والموجعة والرافضة ، وقد وفق السينوغراف مصطفى العلوي في تأثيث فضاء يسمح باستقطاب عناصر الرؤية الخلقية لدى المخرج ، مبتعدا عن الهندسية الثرثارة التي تشرح العرض بكل تفاصيله قبل أن يبدأ .
وهنا نلحظ فسح الرؤية لدى المخرج في أبهى تجلياته الفنية والجمالية ، حيث يصبح فضاء العرض المسرحي فسحا تبادليا خلقيا وخلاقا بين مختلف عناصره الفنية ، إذ يتحول هذا الفضاء إلى أمكنة وأزمنة وحالات وانفعالات محورها الأساسي هذا الممثل الذي ملك في رأيي ناصية الاحتراف في حضوره الطاغي والمؤثر على هذه الخشبة ، وبات قادرا على تجسيد أجواء المخرج الحر النفسية والساحرة والغرائبية الشبيهة بأجواء غارسيا ماركيز منها إلى لوركا .
إنها قصيدة الحر الملحمية الجديدة التي تشكل اتجاها مسرحيا إبداعيا جديدا ينبغي تأمله مليا والوقوف على معطياته الخلقية المغايرة ، وأقولها بصراحة : المخرج الحر فنان جدير بأن يمثل تجربته المسرحية ويمثلنا في أهم المهرجانات المسرحية العالمية ، لأنه وباختصار شديد جدا ، مبدع يؤسس لزمن مسرحي جديد في مسرحنا العربي ، وكل عام ومسرحنا بك بخير ..