“مروّح ع فلسطين”افضل عرض مسرحي في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح
حين يتسع الفضاء بالانسان!
حين يصير المستطيل الصغير فضاء للوطن والوجود!
لعل الحجر الذي أهمله البناؤون طويلا سيصير حجر الأساس. فنيا ووطنيا!
تستفزنا مسرحية “مروّح ع فلسطين” لمسرح الحرية، إنسانياً ووطنياً وفنياً في البحث عن ممكنات العيش رغم الحصار، وأن هناك دوما مجالا لإبداع الوجود.
يتمدد المربع ليصير دائرة بحجم الكون، بفعل الإرادة الإنسانية التي تنجح في كسر القيود والأشياك والشباك والقضبان والجدران !
سيكتشف المشاهدون أن مفعول العرض سيتجاوز الاستمتاع الفني إلى ما هو فكري وفلسفي في إعادة رؤية الإنسان الفلسطيني لنفسه وفضائه العام.
يبدأ المشاهد بتأمل الحيز المكاني للعرض، فهو ليس الخشبة التقليدية المعروفة، بل هو حيّز صغير محدود جدا، لا يكاد تتجاوز طول ضلع مساحته المتر ونصف، يتقاسمها ستة فنانين، فكيف ستتدبر هذه المجموعة على تلك البقعة الصغيرة!
لكن مع بدء العرض، وبالرغم من التزام الممثلين/ات التمثيل على تلك المساحة المحددة، إلا أن تلك المساحة سرعان ما تتمدد في ذهن المشاهد، فلا تعود عائقا أمام الحركة، بل تبدأ بالاتساع وصولا لأمكنة واسعة على خارطة الوطن.
ذلك هو التحدي السحريّ، تمثيلا وحركة وإضاءة وكل عناصر العرض، الذي يتميز بالحيوية في الحركة، والتمثيل والكوميديا(السوداء ربما) التي تزيد من جاذبية العرض المتخذ من المسرح المعاصر-بل والتجريبي أسلوبا له. وقد أضفى العزف الحيّ في العرض دورا عضويا، في التعبير عن الأصوات، خصوصا صوت الرصاص، إضافة للمصاحبة للعرض.
تمثيل على المستطيل كحيّز داخل خشبة المسرح، يشبه تمثيل الشاشة لصغر مساحة المساحة وما بني عليه من كادر التمثيل وفضاء النور، تجعل المشاهد يعيش حالة تركيز في هذه المساحة الضيقة بتجلياتها الواسعة.
جاد شاب فلسطيني مغترب في أمريكا من الجيل الثالث، يقرر زيارة الوطن الأصلي، حنينا وشوقا ما للاكتشاف، ظانا أن الأمر هو مجرد زيارة للمكان واللقاء مع الأهل ككل الزيارات، لكن منذ وصوله لمطار اللد المحتل عام 1948، يتفاجأ بأن كل ما هو عادي وبسيط يصبح معقدا ومثارا للاسئلة والاستجواب، بدءا باسمه العربي ومقصده بسبب النظرة النمطية الجاهزة لكل فلسطيني وعربي بل ومسلم أيضا، ثم ليكتشف أن التنقل من المطار لبت القريب في جنين هو أمر ليس سهلا، بل يمرّ في تعقيدات بسبب الاحتلال والحصار وانتهاك فاضح لحرية التنقل للبشر.
لقد نجحت المسرحية في التعبير عن هذا كله بأسلوب محبب، يعتمد على الحركة في جزء كبير منه، فهم في ظل ضيق مساحة المكان، يعيدون اكتشاف المكان وأنفسهم، فيستخدمون أجسادهم وأطرافهم، مكونين سيارة، وراسمين بأجسادهم تمثال الحرية، طريق وادي النار، مصورين الحالة الشعورية للمتنقلين على الحواجز بأسلوب كوميدي، بحيث يتقاسم كل من الزائر- والمشاهدون أيضا فرصة اكتشاف هذه الظروف الغريبة.
تحدي الخشبة هنا، من خلال مساحة ضيقة يصعب على شخص واحد الالتزام بها، فكيف بستة ممثلين، تدفع في الشعور، واللاشعور إلى ربط ذلك بمكان وجودنا كشعب هنا، استلبت أرضه، فلم يترك الاحتلال لنا منها سوى القليل. إن إمكانية التمثيل على تلك المساحة بل والإبداع فيه يرمز إلى إمكانيات الفلسطيني في إبداع البقاء ضمن الحيّز المحاصر فيه.
هو دور الفن من خلال “مروح ع فلسطين” في تقوية وجودنا معا هنا، في ممكنات المكان، وتشجيع على الإبداع.
سيمرّ السؤال في تحولات رمزية وسياسية بل ووجودية، من خلال التأمل بممكنات الفعل خارج نطاق الحدود الفيزيقية-المادية، والتي تعني انتصار الإنسان المحاصر بفتح الحاء.
ولعل المسرحية مثال على الابداع المسرحي في ظل محدودية الفرص والدعم، وهي مثال على إبداع الوجود الإنساني والوطني المقاوم.
فرقة صغيرة تكاد تتخرج من مدرسة تمثيل صغيرة، في مسرح صغير، في مدينة جنين، تحلق عاليا، لتقدم عملا فنيا يعمق ما ذهبنا إليه، من خلال الإرادة فعلا لا شعارا.
لنا أن نصفق للعرض ولأنفسنا، وسنصفق أكثر ما دمنا نعي معنى تحدي الوجود، ومحاصرة الاحتلال ثقافيا وسياسيا وإنسانيا.
لهم ان يحصدوا اذن جائزة احسن عرض في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح، على طريق إعادة الاعتبار لكل ظاهرة إبداعية في هذا الوطن.
بقي أن نقول شيئا عن أسلوب الإخراج، وإن كانت الكلمة الفصل ربما للمطلعين على المسرح التجريبي والمعاصر، وما نقصده هنا هو اختيار المساحة الضيقة أرضا للعرض، حيث أننا شاهدنا مثل هذه التقنية في عروض أخرى، منها عرض مكسيكي في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي هذا العام، ولعل التساؤل هنا متروك للنقاد المتخصصين والمطلعين: هل هو أسلوب خاص لعرض معين مثلا تمت محاكاته؟ أم هو أسلوب عام وبالتالي يصير ملكا عاما؟
ولعل الأهم هو قدرات المخرجة في إدارة الحركة، وقدرات الممثلين في الأداء.
كتب النص الفنان نبيل الراعي، وأخرجته الفنانة البرتغالية ميكائيلا ميرندا، أما الممثلون فهم خريجو/ات مدرسة التمثيل في مسرح الحرية في مخيم جنين: تمثيل علاء شحادة، رنين عودة، سماح محمود، أحمد طوباسي، ايهاب تلاحمة، نور دولة..