ونحن نغادر المحروسة مصر البهية حيث كنا في دورة جديدة من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر نحتفل بمرور خمس وعشرين دورة من هذا المهرجان الذي يعتبر أكبر تظاهرة مسرحية عربية وأكثرها قدرة على الحركة والحراك والتفاعل الإيجابي والسلبي مع كل الظواهر المسرحية التي تقدم في كل دورة ، سنوات طويلة مرت منذ لحظة البدء ، حيث الاتفاق والاختلاف ، حيث النقاش الحاد حول مفهوم التجريب ، وتجريب التجريب ، وتخريب التجريب ، وتخريب التخريب
مهرجان عريق ، حضرته عن قرب تسعة دورات وتواصلت معه عن بعد لعشر دورات مثل هذه المهرجانات المسرحية تعيد للمسرحي تكوينه، تعيد ترتيب الحقائق داخله ، تتماهى مع تكوينه ، تحيل عوالمه لفضاءات جديدة ، بعض العروض بهذه المهرجانات تكون كافية لتعيد لك نفسك وروحك المسرحية، ومشاغباتك وتداخلك مع المسرح من المسرح وللمسرح ، إنها حروف جر شديدة الفعالية ،ويكفي لكي تتداخل مع هذا العرض أو ذاك أن يستفزك المخبوء داخله وهي تدخل داخلك لتغير عوالمك المسرحية تنحت في عمقك ، تدفعك لحالة جدل طويلة معك ومع غيرك ، تجعلك تعيد اكتشاف ذاتك وتعيد ترتيب محتويات المسرحي لديك ، لتكتشف أن النقطة التي توقفت عندها متوقعاً ومتوهماً أنها نقطة الوصول هي نقطة في خط طويل وممتد تحيلك هذه النقطة إلى نقاط أخرى تصاعدية، أفقية، رأسية
وليس من الضروري أن تكون كل عروض المهرجان من ذلك النوع ، ولكن يكفي أن تجد عرضاَ ما يشع بالجنون والإبداع ليجعلك ذلك تقف في حالة بحث عن ترتيب بيتك المسرحي وإعادة تأثيث هذا البيت بما يناسب ظروف العرض المسرحي الذي استفزك
خمس وعشرون دورة مرت ثم عدنا للقاء وسارت بنا الطرق يومياً بين الأوبرا والهناجر والجمهورية والبالون والغد والقومي والسلام و جمعتنا الندوات والورش والنقاشات اليومية مع وضد ، كنا يومياً في لقاءات في منتهى الصخب المسرحي المعرفي
ونحن ندرك ما يشكله هذا المهرجان من قيمة دافعة للمسرحي بمادته الحية من عروض ولقاءات وندوات وورش والنقاش من المسرح وللمسرح وفي المسرح ، أنه المسرح ذلك الساحر والمسحور
ذلك المسرح الذي يسعى لتقديم اختصارات تقنية جديدة في تكوين العمل المسرحي , فهذا يقدم تجربة في تقنية النص وذاك في الإخراج والثالث في تكوين الممثل وعلاقته بالأشياء والرابع في الصوتيات والخامس في المؤثرات الضوئية والسادس في ترجمة السينوغرافيا داخل العمل المسرحي , وهكذا تسير الأمور في السعي نحو مباحث جديدة تعتمد على التقنية في كافة تفاصيل العمل المسرحي ومحاولة تقديم اختصارات مفيدة داخل بنية العمل ..
والبحث والدراسة والتجربة كانت ولا زالت وسيلة الإنسان للوصول إلى حقائق ذات أبعاد تقنية , ولولا هذه البحوث والدراسات والتجارب لما تطورت الأشياء في كثير من نواحي الحياة , فمعظم المخترعات العملية نتيجة طبيعية لمثل هذه الاستخدامات .. وعبر سنوات طويلة وتجارب عديدة كان المسرح في العالم أجمع يتحرك من شكل إلى آخر فيتكون ويتشكل عبر مدارس عديدة أصبحت الآن تعد من ضمن الأشكال التقليدية للمسرح وكانت تمثل في زمنها التجريب والتجديد المبتكر فالمسرح الملحمي والتسجيلي والعبثي ومسرح القسوة ومسرح الدهشة استطاعت على سبيل المثال أن تصبح مدارس يعمل بها أغلبية المسرحيين في العالم ..
ومسرح الورق والنار ومسرح الجريدة ومسرح الهابنيغ , لم يكتب الانتشار والتحول إلى أنماط معروفة تصبح معها مدارس مسرحية مستقلة ..
وبالتالي فإن ما يحدث في المسرح التجريبي في مجمله هو محاولة الوصول إلى تقنيات جديدة مفيدة للمسرحيين والمتابعين
ولعلنا نلمس التأثيرات الإيجابية التي تعود بها الفرق المسرحية التي تشارك في هذا المهرجان فما يٌقدم من عروض مسرحية ينقل في غالبه تجارب غاية في الأهمية , من ناحية التعامل مع المسرح وخصوصاُ في شكله البصري وفي نواحي التقنية المسرحية ..
إن ممارسة المسرح كفكر وثقافة وفن وجماهير تعني أن تتعامل مع كل مفرداته وتطور أدواتك الفنية والتقنية وتدفعها نحو مناطق الإبداع , أما الانغلاق على النفس ومحاولة التعامل بشكل مسطح مع هذا المسرح فلن تقودك إلا إلى البقاء في المكان نفسه تحفر فيه حتى يتحول إلى قبر لك ..
مبارك للمهرجان دورة اليوبيل الفضي وتحية تقدير للرائع الدكتور سامح مهران وللمبدع عصام السيد ولكل العاملين به على تلك الجهود الرائعة التي تذكر فتشكر ونحو دورة مثمرة قادمة نتطلع